أيَّتُها الدَّاعياتُ: لماذا التَّهرُّبُ من الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى؟!
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وفَّق مَن شاء لطاعتِه، وهدى برحمتِه مَن رَغِب في دعوتِه، وجعلهم للنَّاسِ أئمَّةَ هُدًى، ومصابيحَ دُجًى. والصَّلاةُ والسَّلامُ على إمامِ المُرسَلِينَ، وقائدِ الغُرِّ المُحجَّلِينَ، وقائدِ النَّاسِ إلى ربِّ العالمينَ، وعلى آلِه وصحبِه النَّاصحينَ، ومَن سار على نهجِهم وهديِهم إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ الدَّعوةَ إلى اللهِ تعالى شرفٌ لا يُقايِسُه شرفٌ، كيف لا؟ والدَّاعي يَدُلُّ النَّاسَ على ربِّهم - عزَّ وجلَّ -، فكان قولُ الدُّعاةِ أزكى الأقوالِ وأحسنَها، فإنَّ اللهَ لم يُزكِّ في القرآنِ قولًا بعدَ قولِه إلَّا قولَ الدُّعاةِ إليه، فقال عزَّ مِن قائلٍ حكيمٍ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [سُورة فُصِّلَت: 33].
إنَّ الحديثَ عن الدَّعوةِ وفضلِها يطولُ، وليس هو موضوعي هنا، بل موضوعي هنا عن تصحيحِ المسارِ، وليس مسارُ الدَّعوةِ ككُلٍّ، بل مسارُ صِنفٍ من الدُّعاةِ، الذَّين ضَحَّوْا على ضَعْفِ حِيلةٍ، وقِلّةِ وسيلةٍ معَ قُوّةٍ وعزيمةٍ، وعلى حياءٍ وحشمةٍ معَ جِدٍّ يحدوه البذلُ والتَّضحيةُ، هذا الصِّنفُ عزيزٌ على المُجتمَعِ، أتدرون مَن هُنَّ؟ إنَّهُنَّ الدَّاعياتُ إلى اللهِ تعالى مِن أخواتِنا الصَّالحاتِ المُصلِحاتِ المُحتسِباتِ.
إنَّ الحديثَ عن الدَّاعياتِ حديثٌ ذو شرفٍ وشجونٍ، إنَّهُنَّ تَحمَّلْنَ -معَ كثرةِ مسؤوليَّاتِهنَّ- همَّ النُّصحِ والدَّعوةِ، والدِّلالةِ والإرشادِ، معَ ما يُقابِلُهنَّ من التَّعبِ والعناءِ، والمشقَّةِ واللَّأواءِ.
وحيثُ إنَّ هذا الصِّنفَ من الدُّعاةِ بحاجةٍ إلى رعايةٍ ونصحٍ، كان من الواجبِ بذلُه لهنَّ متى احتَجْنَ إليه، والآنَ تَعدَّدت مجالاتُ الدَّعوةِ، وفُتِحت أبوابُها وكَثُر الدَّاخلون فيها؛ ممَّا سبَّب أخطاءً وتَراكُماتٍ، فكان الواجبُ تصحيحَ الخطأِ، ونفضَ جلبابِ الحياءِ في بيانِ تلك التَّراكُماتِ الَّتي تُؤثِّرُ سلبًا في مسيرةِ الدَّاعياتِ إلى اللهِ تعالى ومسيرةِ عملِهنَّ.
إنَّ الحديثَ عن تصحيحِ مسارِ الدَّعوةِ، وخاصَّةً في هذا الزَّمنِ الَّذي كَثُرت فيه المناهجُ والأفكارُ والوسائلُ الدَّعويَّةُ - لهو من الأهمِّيَّةِ بمكانٍ، فبعدَ التَّقدُّمِ التِّقْنيِّ والعلميِّ، ووجودِ مراكزِ الأبحاثِ والتَّخطيطِ؛ كان لزامًا على أهلِ الدَّعوةِ أن يكونوا أهلَ الميدانِ، وأكثرَ النَّاسِ استفادةً من هذه المعاهدِ والبرامجِ؛ لتقويمِ العملِ ونجاحِه، وإن كان الدَّاعيةُ الَّذي ينطلقُ من هديِ القرآنِ والسُّنَّةِ وفهمِ سلفِ الأُمّةِ قد لا يحتاجُ إلى كثيرٍ ممَّا يطرأُ في هذا الزَّمنِ؛ لأنَّ جميعَ ما يُطرَحُ هو صياغةٌ جديدةٌ عصريَّةٌ لمُواكَبةِ الواقعِ في ظلِّ التَّغيُّراتِ الحديثةِ دونَ مُخالَفاتٍ شرعيَّةٍ، وإلَّا فطريقةُ الدَّعوةِ وأساسيَّاتُها وفقهُها قد أسَّسه نبيُّنا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وصحبُه الكرامُ، وأئمَّتُنا من علمائِنا الأعلامِ، لكنْ لضعفِ اهتمامِنا بهديِ سلفِنا كان الضَّعفُ واضحًا والخللُ بيِّنًا.
أمَّا مَن كان يرى في مثلِ هذه المراكزِ والمعاهدِ ما يُقوِّمُ العملَ، ويكونُ سببًا مُهِمًّا في سيرِه ونجاحِه؛ فلا مانعَ من الإفادةِ من مثلِ هذه البرامجِ والمعاهدِ والوسائلِ، وقد رُوِي في الخبرِ:«الحِكْمةُ ضَالَّةُ المُؤمِنِ، فحَيثُ وَجَدَها فهو أَحَقُّ بها» [أخرجه التِّرمذيُّ (2687)، وابنُ ماجَهْ (4169)]، والحديثُ ضعيفُ لكنَّ معناه صحيحٌ، فيُستفادُ من معناه ولا يُنسَبُ لفظُه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وإنَّ من أهمِّ ما يقومُ عليه التَّخطيطُ في هذه المراكزِ والمعاهدِ: تحديدَ الأهدافِ، والمُتابَعةَ، والتَّقويمَ. ومعنى التَّقويمِ: التَّصحيحُ. فلأهمِّيَّةِ التَّصحيحِ -وخاصَّةً في العملِ الدَّعويِّ- أحببتُ أن أُشارِكَ في هذا الموضوعِ؛ أَلَا وهو: (تصحيحُ المسارِ).
وفي هذه العُجالةِ، سيكونُ حديثي عن موضوعٍ غايةٍ في الأهمِّيَّةِ، وخللٍ يحتاجُ إلى تصحيحٍ، وتلبيسٍ يحتاجُ إلى تجليةٍ، هذا الخللُ والتَّلبيسُ أثَّر سلبًا في سيرِ كثيرٍ من الدَّاعياتِ إلى اللهِ تعالى، إنَّه: (تَهرُّبُ بعضِ الدَّاعياتِ عن العملِ الدَّعويِّ).
إنَّ هذا الموضوعَ أَجزِمُ أنَّه يُشتكَى منه، ويُتألَّمُ له، كيف وهذا الخللُ يُؤخِّرُ الدَّعوةَ، ويُضعِفُ قُوَّتَها، ويفتُّ في عضدِها، ويزرعُ الوَهَنَ فيها، وذلك كلُّه من أهلِها، عفا الله عنهنَّ!
عندما نريدُ أن نناقشَ أيَّ مشكلةٍ من المشاكلِ؛ فلا بدَّ من دراسةِ أسبابِها، والتَّعرُّفِ على بواعثِها، وذلك للتَّوصُّلِ إلى حلِّها. وهنا سندرسُ أسبابَ تَهرُّبِ الدَّاعياتِ من العملِ الدَّعويِّ، ثُمَّ نضعُ -بإذنِ اللهِ تعالى- علاجًا لهذه المشكلةِ، وسيكونُ النِّقاشُ في نقاطٍ ليتمَّ الإفادةُ من هذه النَّصائحِ الَّتي أسألُ اللهَ أن يُسدِّدَني فيها وأن ينفعَ بها.
عندما نتأمّلُ في أسبابِ التَّهرُّبِ عن العملِ الدَّعويِّ، وخاصَّةً في جانبِ الدَّاعياتِ، نجدُ أنَّه يدورُ حولَ مجموعةٍ من الحيلِ الشَّيطانيَّةِ، وتزيينٍ من النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، معَ هوًى وحبِّ خلودٍ للدَّعةِ والرَّاحةِ، فلبسها الشَّيطانُ بلباسٍ بعد أن جعل على العينِ غشاوةً، فأَصبَحْنَ يَرَيْنَهُ سببًا لتركِ العملِ! معَ أنَّه تلبيسٌ شيطانيٌّ، فكان حقًّا أن تنزعَ الأختُ ذلك اللِّباسَ، وتضعَ مكانَه لباسَ التَّقوى فهو خيرُ لباسٍ، معَ ترديدِ: (اللهمَّ أَرِني الحقَّ حقًّا وارزُقْنِي اتِّباعَه، وأَرِني الباطلَ باطلًا وارزُقْنِي اجتنابَه)، وهنا نبدأُ في المقصودِ.
فمِن هذه التَّلبيساتِ:
أوَّلًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بقِلّةِ العلمِ، ولا بدَّ من التَّحصيلِ وطلبِ العلمِ والتَّزوُّدِ قبلَ التَّصدُّرِ.
فالجوابُ: أنَّ كُلَّ ما قيلَ حقٌّ، ومَن مِنَّا يَدَّعِي أنَّه قد بلغ الرُّسوخَ في العلمِ؟ لكنْ لا بدَّ أن نعلمَ جميعًا أمورًا تكونُ بيانًا لمثلِ هذا التَّلبيسِ، وهي في نقاطٍ:
- لا يجوزُ لأحدٍ أن يقولَ على اللهِ بغيرِ علمٍ، وهذا أمرٌ مُقرَّرٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ سلفِ الأُمَّةِ.
- لِيُعْلَمِ الوعيدُ الشَّديدُ في كتمِ العلمِ وعدمِ إظهارِه للنَّاسِ، وأنَّه قد يُدخِلُ العبدَ في قولِ اللهِ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران: 187]، وفي قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ فِي الدِّينِ؛ أَلْجَمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ» [أخرجه الإمامُ أحمدُ 2/344، وأبو داودَ (3658) من حديثِ أبي هُريرةَ رضي اللهُ عنه، وابنُ ماجَهْ (265) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ. والحديثُ حسنٌ بشواهدِه].
- لا غضاضةَ عندَ الصَّادقينَ من أهلِ العلمِ أنَّه إذا سُئِل العبدُ عن مسألةٍ لا يعلمُها أن يقولَ: لا أعلمُ. ولا يتجرَّأُ على الفُتْيا بغيرِ علمٍ.
- لا يجوزُ لأحدٍ كائنًا مَن كان أن يدعوَ النَّاسَ إلَّا بما يعلمُ مِن علمٍ، فإذا كان عندَ الدَّاعيةِ علمٌ ولو يسيرٌ فإنَّه يدعو النَّاسَ بهذا العلمِ، وإلَّا فلا يُلبِّسْ على النَّاسِ.
- يُمكِنُ الجمعُ بينَ العلمِ والدَّعوةِ، وهذا أمرٌ معروفٌ ومُتقرِّرٌ، والَّذي يَسبُرُ حالَ الصَّحابةِ ومَن بعدَهم يرى مثلَ هذا الأمرِ جليًّا، ولنا فيهم أُسوةٌ حسنةٌ.
- مِن أسبابِ ثباتِ العلمِ: الدَّعوةُ إلى اللهِ به، وتعليمُه للنَّاسِ، وهذا ثابتٌ مُجرَّبٌ.
- لو قال كُلُّ واحدٍ مثلَ هذا القولِ؛ فلن يُوجَدَ إلَّا قِلّةٌ قليلةٌ من الدُّعاةِ سلفًا وخلفًا. وهذا يخالفُ عمومَ الأدلّةِ الدَّالَّةِ على الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ، وأعظمُ المعروفِ هو تعبيدُ العبادِ إلى ربِّهم الغفورِ التَّوَّابِ.
- أنَّ النَّاسَ في هذا الزَّمنِ قد كَثُر فيهم الجهلُ والبدعُ والمُنكَراتُ، فيحتاجون من العلمِ اليسيرِ الَّذي يرفعون به الجهلَ عن أنفسِهم، وبمَن يُبصِّرُهم بأمرِ دينِهم؛ فهل هؤلاء يحتاجون إلى علماءَ ينصحونهم، أو راسخينَ في العلمِ يدعُونَهم ويُذكِّرُونهم؟!
- أنَّه لو لم يَقُمْ كُلُّ واحدٍ مِنَّا بالدَّعوةِ فيما يعلمُ؛ لحَلَّ بالمجتمعِ الجهلُ، وكَثُرت فيه البدعُ والمنكراتُ، واستَوْجَبْنا جميعًا غضبَ الجبَّارِ!
- كثرةُ دعاءِ اللهِ بالتَّوفيقِ والسَّدادِ.
ثانيًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بكثرةِ مهامِّ البيتِ والزَّوجِ والولدِ، وأنَّها لا تستطيعُ معَها الدَّعوةَ إلى اللهِ تعالى.
فالجوابُ: أنَّ على المرأةِ واجباتٍ مُقدَّمةً على الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى، ومُتقرِّرٌ لدينا جميعًا عِظمُ المسؤوليَّةِ الَّتي تقومُ بها المرأةُ تجاهَ الزَّوجِ والبيتِ والولدِ، وأنَّ حقَّ الزَّوجِ والولدِ مُقدَّمٌ على حقِّ الغيرِ، ونحنُ هنا لا ندعو للتَّقصيرِ في هذه الحقوقِ، بل ندعو إلى التَّكاملِ والقيامِ بجميعِ الحقوقِ.
ويكونُ إزالةُ مثلِ هذا التَّلبيسِ في النِّقاطِ الآتيةِ:
- إعطاءُ كُلِّ ذي حقٍّ حقَّه؛ فالزَّوجُ يُعطَى حقَّه، والولدُ كذلك، والبيتُ كذلك، والدَّعوةُ كذلك.
- تنظيمُ الوقتِ، فيكونُ للدَّعوةِ وقتٌ كما أنَّ للزَّوجِ والولدِ وقتًا.
- إقناعُ الزَّوجِ بعظمِ شأنِ الدَّعوةِ، وحاجةِ النَّاسِ إليها، وبركتِها على البيتِ والولدِ؛ فمَن ترك شيئًا للهِ عوَّضَه اللهُ خيرًا منه.
- تربيةُ البيتِ كُلِّه على هذا المبدأِ، مبدأِ الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى، وتحميلُهم الهمَّ.
- استخدامُ الآلاتِ الحديثةِ الَّتي مِن شأنِها المُساعَدةُ في إنجازِ كثيرٍ من المهامِّ المنزليَّةِ في وقتٍ قصيرٍ؛ كآلاتِ الغسيلِ والتَّنظيفِ السَّريعةِ، وغيرِها.
- إنْ كُنتِ ممَّن يستطيعُ إحضارَ خادمةٍ أو مُربِّيةٍ تُعِينُكِ؛ فلا مانعَ لأجلِ التَّغلُّبِ على مثلِ هذه الحجّةِ، والإفادةِ من الوقتِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى.
- توزيعُ المهامِّ وأعمالِ البيتِ على الأولادِ مِن البنينَ والبناتِ، بحيثُ يَحمِلُون شيئًا من المهامِّ عنكِ، وتعويدُهم وتربيتُهم على الاهتمامِ بأنفسهمِ وببيتِهم.
- كثرةُ دعاءِ اللهِ بأن يُبارِكَ في الوقتِ، وأن يُصلِحَ النِّيَّةَ والزَّوجَ والذُّرِّيَّةَ.
ثالثًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بأنَّ غيرَها أفضلُ منها، وأنَّها لن تُؤدِّيَ العملَ على وجهِه الأكملِ، ويظهرُ لها أنَّ هذا من بابِ التَّواضُعِ!
فالجوابُ: أنَّ هذه الحجّةَ إن كانت حقًّا؛ فجزاكِ اللهُ خيرًا على هذا الصِّدقِ، وإن كان تَهرُّبًا من المسؤوليَّةِ ومن العملِ الدَّعويِّ؛ فهذا أُسمِّيه تواضعًا مذمومًا، لا تواضعًا محمودًا.
ويمكنُ علاجُه من خلالِ النِّقاطِ الآتيةِ:
- لِتَعلَمِي أُختِي أنَّ الشَّيطانَ قد نال منكِ، وأخذ مأخذَه، فيجبُ عليكِ أن تُجاهِديه، وأن تستعيذي باللهِ تعالى منه.
- عليكِ أن تقومي بكلِّ عملٍ تستطيعينه، دونَ تأخُّرٍ أو ضعفٍ، وهذا نوعٌ من المُجاهَدةِ الَّتي أمرنا اللهُ بها، ورتَّب عليها الهدايةَ؛ قال اللهُ تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت: 69].
- تَفقَّدِي ما الأسبابُ الَّتي كان له الدَّورُ في مثلِ هذا التَّهرُّبِ. فمثلًا إن كان لضعفِ التَّرتيبِ، وعدمِ سرعةِ الإنجازِ؛ فعليكِ بمُعالَجةِ مثلِ هذا الموضوعِ، وباستشارةِ مَن يُعِينُكِ على حلِّ مثلِ هذه المشكلةِ، ولا مانعَ من المشاركةِ في بعضِ الدَّوراتِ الَّتي تتناولُ حَلَّ المشاكلِ الإداريَّةِ والتَّربويَّةِ.
- مُصاحَبةُ أهلِ الهمَّةِ والمُبادَرةِ من الأخواتِ الحريصاتِ على العملِ الدَّعويِّ.
- استشعارُ محبّةِ اللهِ لمَن يدلُّ عبادَه عليه، فاللهُ يحبُّ المحسنين، وهذا نوعٌ من الإحسانِ.
- وكذلك استشعارُ استغفارِ اللهِ وملائكتِه لكِ يا مَن تُعلِّمِينَ النَّاسَ الخيرَ؛ فقد جاء عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنه قال: «إنَّ اللهَ وملائكتَه، وأهلَ السَّماواتِ والأرضِ، حتَّى النَّمْلةَ في جُحْرِها، وحتَّى الحُوتَ لَيُصلُّونَ على مُعلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» [أخرجه أبو داودَ (664)، والتِّرمذيُّ (2658)، وابنُ ماجَهْ (239)، والدَّارميُّ 1/100، من حديثِ أبي أُمامةَ الباهليِّ وغيرِه، وهو صحيحٌ].
- كثرةُ الدُّعاءِ بأن يُعِيذَكِ اللهُ من شرِّ النَّفْسِ والشَّيطانِ، ومِن العجزِ والكسلِ.
رابعًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بوجودِ بعضِ الآثامِ والذُّنوبِ، فتخشى من أن تكونَ ممَّن يقولون ما لا يفعلونَ.
فالجوابُ: أنَّه يجبُ على الدَّاعيةِ إصلاحُ نفسِها قبلَ غيرِها، وهذا الشُّعورُ هو بدايةُ العلاجِ؛ لأنَّ معرفةَ الخطأِ أوَّلُ درجاتِ علاجِه، لكن هذه هي الحجّةُ الَّتي لبَّس بها إبليسُ على كثيرٍ من النَّاسِ، وخاصَّةً الدُّعاةَ، فصَدَّتْهم عن تبليغِ دينِ اللهِ تعالى. وعلاجُها كالآتي:
- أُختِي الدَّاعيةَ: عليكِ بكثرةِ الاستغفارِ، والتَّوبةِ إلى اللهِ تعالى مِن أيِّ ذنبٍ تَقترِفِينَه.
- إنَّ وجودَ الذُّنوبِ والمعاصي لا تمنعُ الدَّعوةَ إلى اللهِ تعالى، فمَن مِنَّا ليس بينَه وبينَ اللهِ زلَّاتٌ؟! كُلُّنا يقعُ منه الخطأُ والزَّللُ، وليس مِن شروطِ الدَّعوةِ العِصْمةُ، فالعصمةُ تكونُ للأنبياءِ والرُّسلِ -عليهم السَّلامُ- فيما يُبلِّغُون به عن اللهِ تعالى؛ فلا تَجعَليِ الشَّيطانَ يستثمرُ ذنوبَكِ فيَصُدَّكِ عن تبليغِ دينِ ربِّكِ عزَّ وجلَّ، ولا يَضُرَّكِ تقصيرُكِ ما دُمتِ مُخلِصةً في نُصحِكِ حريصةً على تكميلِ نفسِكِ وغيرِكِ، فالسَّعيُ في التَّكميلِ كمالٌ، ومَن الَّذي لا يخلو من النَّقائصِ؟! ولو ترك النَّاسُ النُّصحَ بحُجَّةِ التَّقصيرِ لَمَا بَقِي ناصحٌ على وجهِ الأرضِ! وصدق مَن قال:
وَلَوْ لَمْ يَعِظْ فِي النَّاسِ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ... فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدِ؟!
وهذه الشُّبهةُ قد شكا منها الدُّعاةُ قديمًا وحديثًا، فعندما قال الإمامُ الحسنُ البصريُّ لمُطرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ -رحمهما اللهُ تعالى-: (عِظْ أصحابَكَ). فقال مُطرِّفٌ: إنِّي أخافُ أن أقولَ ما لا أفعلُ. قال الحسنُ: (يرحمُك اللهُ! وأيُّنا يفعلُ ما يقولُ؟! يَوَدُّ الشَّيطانُ أنَّه قد ظَفِر بهذا، فلم يُؤمَرْ بمعروفٍ ولم يُنْهَ عن مُنكَرٍ!).
وعلَّق الإمامُ القرطبيُّ على قولِ الحسنِ -رحمهما اللهُ تعالى- فقال: (وأمَّا مَن قال: لا يأمرُ بالمعروفِ إلَّا مَن ليست فيه وصمةٌ. فإنْ أراد أنَّه الأَوْلى فجيِّدٌ، وإلَّا فيَستلزِمُ سدَّ بابِ الأمرِ بالمعروفِ إذا لم يكن هناك غيرُه) [«الجامع لأحكام القرآن» للقرطبيّ 1/408].
قال الدُّكتور فضل إلهي: (لا يُفهَمْ أنَّنا لا نرى بأسًا في تركِ المعروفِ وفعلِ المُنكَرِ للآمرِ بالمعروفِ والنَّاهي عن المنكرِ، بل نُؤكِّدُ أنَّه يجبُ عليه فعلُ المعروفِ وتركُ المنكرِ، وأنَّه يُعرِّضُ نفسَه لغضبِ اللهِ تعالى عندَ التَّساهلِ في هذا، ونُقرِّرُ أيضًا بأنَّه ينبغي أن يكونَ أوَّلَ فاعلٍ لما يأمرُ به، وأوَّلَ تاركٍ لما ينهى عنه، كما كان رسولُنا مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
غايةُ ما في الأمرِ أنَّ فعلَ المعروفِ وتركَ المنكرِ ليس شرطًا للأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ، فلا يُقالُ لمَن أمر بالمعروفِ ولم يفعلْه، أو نهى عن المنكرِ وفعله: لا تأمرْ بالمعروفِ، ولا تَنْهَ عن المنكرِ. بل نقولُ له: استَمِرَّ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ، واتَّقِ اللهَ تعالى في نفسِكَ فمُرْها بالمعروفِ وانْهَها عن المنكرِ) [«شبهات حول الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر» ص65، بتَصرُّفٍ يسيرٍ جدًّا. وللفائدةِ فهو كتابٌ قيِّمٌ نافعٌ].
إنَّ الانجرافَ خلفَ هذه الشُّبهةِ يُعطِّلُ الدَّعوةَ إلى اللهِ، ويَحرِمُ النَّاسَ الخيرَ، فعلى الدَّاعيةِ الدَّعوةُ ومُجاهَدةُ نفسِها على تركِ ذنوبِها.
وقال ابنُ حزمٍ - رحمه الله تعالى -: (ولو لم يَنْهَ عن الشَّرِّ إلَّا مَن ليس فيه منه شيءٌ، ولا أَمَرَ بالخيرِ إلَّا مَن استَوْعَبه؛ لَمَا نهى أحدٌ عن شرٍّ، ولا أَمَرَ بخيرٍ بعدَ النَّبيِّ) [«الأخلاق والسِّيَر» لابنِ حزمٍ ص92].
- كثرةُ المُحاسَبةِ للنَّفسِ، فإنَّ هذه طريقةٌ ناجعةٌ لعلاجِها من أخطائِها ومعاصيها.
- كثرةُ اللُّجوءِ إلى اللهِ بالهدايةِ، ومغفرةِ الذُّنوبِ.
خامسًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بعدمِ استجابةِ النَّاسِ لدعوتِها، وعدمِ اكتراثِهم بقولِها.
فالجوابُ: أنَّ هذه الشُّبهةَ يمكنُ الجوابُ عليها بأمورٍ، منها:
- يجبُ عليكِ يا أُختِي أن تَتَّصِفي بصفةِ الإخلاصِ للهِ تعالى، فإذا تَحقَّقتْ هذه الصِّفةُ فلا يَضِيرُكِ أستجابَ النَّاسُ لدعوتِكِ أم لا؛ لأنَّ دعوتَكِ للهِ ليست للنَّاسِ ولا لإرضاءِ الناسِ.
- أنَّه لا يُشترَطُ للدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى أن يَستجِيبَ النَّاسُ لقولِكِ، نعمْ الأَوْلَى القَبولُ، لكنْ إذا لم يستجيبوا فهذا لا يجعلُنا نتركُ العملَ ونَتهرَّبُ من الدَّعوةِ، فليس عليكِ إلَّا البلاغُ، فنحن مُكلَّفون بالدَّعوةِ إلى اللهِ ولسنا مُكلَّفِينَ بأن يستجيبَ النَّاسُ، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 164]، وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [سورة الشُّورى: 48].
- قولُكِ: إنَّ النَّاسَ لم يستجيبوا، ولم يَتأثَّرُوا بدعوتِكِ. هذا افتراءٌ على اللهِ تعالى! لأنَّ هذا من أمورِ الغيبِ الَّتي لا يعلمُها إلَّا هو سبحانه.
- عندَ التَّأمُّلِ لدعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يظهرُ جليًّا أنَّه لم يتركِ الدَّعوةَ لعدمِ استجابةِ النَّاسِ له، ولو كان كذلك لَمَا وصلت دعوتُه لنا، واللهُ يقولُ لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأحزاب: 21].
- عليكِ ألَّا تستعجلي الثَّمرةَ، فأحيانًا تتأخَّرُ النَّتائجُ، ولكنَّ الدَّعوةَ الصَّادقةَ النَّاصحةَ يبقى أثرُها في النُّفوسِ حتَّى تُؤتِيَ أُكُلَها يومًا من الأيَّامِ، بإذنِ اللهِ تعالى.
- أكثِرِي من الدُّعاءِ أن يهدِيَكِ اللهُ ويهديَ بك.
سادسًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بأنَّ الزَّمانَ قد فَسَد، والخبثَ قد كَثُر؛ فلا تُفِيدُ الدَّعوةُ في هذه الأيَّامِ!!
والجوابُ: أنَّ هذه الشُّبهةَ مردودةٌ أصلًا؛ لأنَّ الدَّعوةَ في مثلِ هذه الأوقاتِ تَتحتَّمُ على كُلِّ داعيةٍ، ويكونُ الحِملُ ثقيلًا، والواجبُ أوجبَ، وهذه المقولةُ قد تُؤدِّي بالقائلِ -والعياذُ باللهِ- إلى أمورٍ، منها:
- القنوطُ من رحمةِ اللهِ تعالى ومغفرتِه للنَّاسِ، قال اللهُ تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [سورة الحِجْر: 56].
- أنَّها قد تكونُ سببًا لهلاكِ القائلِ، فقد ثبت عنه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنَّه قال: «إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ. فهو أَهلَكُهم» [أخرجه مسلمٌ (6850) من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه].
- أنَّه شعورٌ بالهزيمةِ النَّفسيَّةِ، وإثباتٌ لنجاحِ إبليسَ في دعوتِه، وخسارةِ أهلِ الصِّدقِ والصَّلاحِ!
- أنَّ تركَ الدَّعوةِ بسببِ مثلِ هذه المقولةِ قد تُؤدِّي إلى العقوبةِ العامَّةِ.
سابعًا: تَتحجَّجُ بعضُ الدَّاعياتِ بأنَّها لا تحملُ مُؤهَّلًا شرعيًّا، أو شهادةً جامعيَّةً، ونحوَ ذلك.
فالجوابُ باختصارٍ: إنَّ الدَّعوةَ لا تحتاجُ إلى شهاداتٍ علميَّةٍ، ولا أكاديميَّةٍ، ولا أَوْسِمةِ شرفٍ، ولا دوراتٍ تدريبيَّةٍ، بل تحتاجُ إلى صدقٍ وعلمٍ بما يُدعَى له، فهذا النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- حتَّى القراءةُ والكتابةُ لم يكن يعرفُها! وهؤلاء أئمّةُ الإسلامِ السَّابقون لم تكن لديهم شهاداتٌ علميَّةٌ، ولا أكاديميَّةٌ، بل كانوا يحملون الصِّدقَ والعلمَ، نَحسَبُهم واللهُ حَسِيبُهم.
وبعدَ هذا العرضِ، أُختِي الدَّاعيةَ، أُحِبُّ أن أُبيِّنَ لكِ أنَّ هذه الشُّبَهَ الَّتي في هيئةِ حُجَجٍ إنَّما هي حِيلٌ شيطانيَّةٌ، وتلبيساتٌ إبليسيَّةٌ، زيَّنتها النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوءِ، معَ حُبِّ خلودٍ للرَّاحةِ والدَّعةِ.
وعلاجُها معَ بذلِ الأسبابِ هو في الانطراحِ بينَ يديِ اللهِ تعالى بأن يُعِيذَكِ من العجزِ والكسلِ، ومن شرِّ الشِّيطانِ وشَرَكِه، ومِن شرِّ النَّفسِ والهوى؛ فقد علَّم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أُمَّتَه أن يستعيذوا باللهِ تعالى مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، ومن النَّفسِ والهوى، ومن العجزِ والكسلِ.
وأخيرًا: أَكثِرِي من دعاءِ اللهِ بالهدايةِ والتَّوفيقِ والتَّسديدِ، وصدق مَن قال:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى... فَـأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
بقلم
الفقير إلى عفو سيده ومولاه
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آل جَبْعان
مختارات