الخطاب الصفوي
نحن في الساحة الإسلامية بحاجة إلى لونين من الخطاب. خطاب صفوي نخبوي، وخطاب بياني تبليغي. والهدف من تنويع الخطاب هو القيام بمهمتين عظيمتين: الأولى: العمل على تجديد الخطاب الإسلامي وتعميقه والارتقاء به. أما الثانية فهي التمكن من إيصال الرسالة الإسلامية إلى الشرائح المتوسطة والدنيا من المجتمع، على وجه الخصوص. وسوف أترك الحديث عن الخطاب التبليغي إلى مقال تالٍ، وأتحدث اليوم عن سمات الخطاب الصفوي. والذي أعنيه بالخطاب هنا مجمل المفاهيم والتوجهات والأفكار والآراء التي تعبر عن الثوابت والأدبيات التي نرغب في بلورتها وتعميمها من خلال تداولها وسوقها في نسق متميز محكوم بقواعد وآليات منطقية وبيانية معينة.
في ظني أن الاشتغال على بلورة الخطاب الصفوي يتطلب منا معرفة حسنة بالمبادئ الكلية للشريعة السمحة، إلى جانب معرفة مقاصدها وما هو مجمع عليه من أحكامها، بالإضافة إلى فهم عميق للاحتياجات المعرفية والحياتية للناس، إلى جانب تلمس مستمر للتحولات التي تطرأ على الذائقة الثقافية لديهم. إن الدفق المعرفي الهائل الذي يتعرض له الوعي المسلم اليوم يُدخل على عقول الناس وعلى اهتماماتهم وطرائق استيعابهم للأمور الكثير من التغيير والتحوير.ولا بد لنا من متابعة ذلك وتطوير خطابنا بما يتلاءم معه.
وأتصور أن من سمات الخطاب الصفوي الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآتي:
- هو خطاب خاص يتداوله العلماء والمفكرون والباحثون في مؤتمراتهم وبحوثهم وحواراتهم ومجلاتهم العلمية المتخصصة. وسبب خصوصيته أن الأفكار التي يتم تداولها فيه تكون في العادة معقدة ودقيقة وموضع اختلاف وجدل، إنها ما زالت في مرحلة البلورة والإنضاج، وليس من الملائم تداولها ونشرها في النطاق العام.
- يشتغل الخطاب الصفوي على مفاهيم عميقة، ويستخدم مصطلحات غير معروفة لدى كثير من الناس والذين جرت عادتهم بالتعامل مع المعاني السطحية والمباشرة للكلمات، كما أنه يستخدم تشبيهات وتعليلات لا يستخدمها السواد الأعظم من الناس.
- من ملامح الخطاب الصفوي الأساسية اشتماله على رؤية نقدية لأوضاع المسلمين السياسية والأخلاقية، والاجتماعية والاقتصادية... إنه يتلمس مواجع المسلمين وأشكال القصور في حياتهم، ثم يبحث في أسبابها وفي كيفية معالجتها. إننا من خلال الخطاب الصفوي نوضح مساحات الجمال والخير في حياتنا العامة، كما نسلط الضوء على المساحات السلبية والقاتمة، بغية تكوين أوضح صورة ممكنة للحياة الإسلامية.
- الخطاب الصفوي خطاب تحليلي، يقوم على فهم طبيعة المشكلات التي يعاني منها المسلمون، ويبحث بعمق في أسبابها وجذورها وأعراضها والعلاقات الجدلية القائمة بين مختلف جوانب حياتنا المعاصرة. إنه يبحث عن الجذور الأخلاقية لأزمة سياسية حادة، كما يبحث عن الجذور الاجتماعية لوضعية اقتصادية متدهورة، ويبحث في أثر قصور المفاهيم في ردود الفعل الخاطئة...
- الخطاب الصفوي الذي نحتاجه هو خطاب تنموي، يدل الناس على الدروب المفتوحة، كما يحذرهم من سلوك الطرق المسدودة، إنه يطرح الرؤى والنظريات التي تفتح حقولاً للعمل والممارسة، ويشرح إمكانات الحركة ومجالات الإصلاح والتطوير الشامل في الظروف السيئة؛ إنه يفعل كل ذلك لأنه ينطلق من مقولة: كل نظرية تفضي بالناس إلى اليأس والقنوط والقصور عن العمل؛ هي نظرية خاطئة، ويؤمن بقوة أن الله – جل وعل- ما أنزل داء إلا أنزل له دواء.
- من سماته كذلك البعد عن القطع والجزم في صيغ التداول، ومن الحذر من إيراد القطعيات في موارد الظنيات، إنه يستخدم صياغة احتمالية لأنه يطرح أفكاراً لينة وفرعية، ويشتغل على شرح نظريات وتوجهات اجتهادية، هي موضع جدل ونقاش وأخذ و ردٍّ.
- الخطاب الصفوي هو خطاب منفتح بطبيعته: منفتح على الاجتهادات داخل المذهبية الإسلامية، كما أنه منفتح على الأفكار والمفاهيم المتداولة خارج النطاق الإسلامي؛ لأنه يستهدف إثراء ذاته بكل ما يُحسَّن بصيرة المسلمين بما لديهم وبما لدى غيرهم.
- هو خطاب غني بالأدلة والبراهين والشواهد والاستنتاجات والتشبيهات العلمية الراقية؛ وذلك لأنه يستهدف بلورة رؤى مركبة وعميقة للماضي والحاضر والمستقبل، كما يستهدف التأثير في عقول مثقفة ومدركة لأشكال النقص الذي يعتري الأعمال التنظيرية عامة.
- يعتمد الخطاب الصفوي طريقة النظر من الزوايا المختلفة لأنه في الأساس وإن اشتغل على الكثير من ا لمعطيات الجزئية؛ إلا أنه يظل معنيًّا ببلورة رؤى كلية ومقولات كبرى. وهذا يحتم علينا أن نتمتع بالقدرة عل تقليب الأمور على وجوهها المختلفة ومحاولة فهمها من آفاق متعددة.
- يعتمد الخطاب الصفوي الملاحظة الذكية في طروحاته، إذ إن قراءة سنن الله – تعالى- في الأنفس والآفاق والمجتمعات وشفافيته نحو استيعاب منطق الأشياء، تتيح للمشتغلين به دائماً نوعاً من النفاذ إلى الحقائق التي لا تدرك على سبيل البداهة أو من خلال النظر العقلي العجول؛ ولهذا فإنه يتمتع بدرجة حسنة من الجاذبية، ويستحوذ على بعض الإعجاب.
- هذا الخطاب الذي عرضت لأهم سماته ضعيف جداً في الساحة الإسلامية بسبب قلة المفكرين العظام الذين حظيت بهم الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، وبسبب قلة المؤسسات التي تعمل على وضع البرامج البحثية وإنتاج المفاهيم الدعوية والإصلاحية المتقنة. وبما أن الوعي الإسلامي قد جفل منذ أمد بعيد من كل شيء اسمه فلسفة وتنظير؛ فإن صناعة الأفكار لدينا راكدة، كما أن الجهات المستعدة لإنفاق المال على الأعمال العلمية الممتازة شحيحة إلى حد الندرة، وهذا كله يصب في مصلحة الطروحات المناوئة للفكر الإسلامي.
إنه لا فكر من غير إنتاج فكري، ولا إنتاجًا فكريًّا من غير مؤسسات تهتم به وترعاه وتهيئ له ظروف التكوين والانتشار.
مختارات