الصفة الحادية عشرة من صفات المؤمنين الإشفاق من عذاب الله
إن من صفات المؤمنين التي نوّه الله بها، وأثنى على عباده في اتصافهم بها: الإشفاق من عذاب الله، والخوف من عقابه وسطوته، فإن الله شديد العقاب كما أنه غفور رحيم، كما قال -تعالى-: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وهذه الصفة -أيها المسلم- وهي الخوف والوجل والإشفاق من عذاب الله، إذا وجدت في القلب انبعثت الجوارح على العمل فعلًا وتركًا؛ فعلا للأوامر وتركًا للنواهي، وما أُرسلت الرسل وما أُنزلت الكتب إلا لتكليف العباد بالأوامر والنواهي، ومن أجل هذا استثنى الله -سبحانه وتعالى- من وجدت فيه صفة الإشفاق والخوف من عذاب الله استثناه من الكثير والغالب المطبوع، والمجبول على الأخلاق الدنيئة من الجزع عند الإمساس بالشر والمنع عند حصول الخير، فقال -تعالى-: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ.
ثم ذكر من أوصافهم: الخوف من عذاب الله فقال: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ثم بين جزاءهم، وأنه الإكرام في الجنات، فقال -تعالى-: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ وذلك أن عذاب الله لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان، ولهذا قال -تعالى-: إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ.
فالخوف والوجل حاد يحدو بالإنسان إلى ما يرضى، وباعث يبعثه على العمل لما يقرب من الله من عبادته وتوحيده وطاعته، مع الإحسان والإتقان والإخلاص، واجتناب ما يسخطه من الشرك والمعاصي والفسوق والعصيان، ولهذا ذكر الله -تعالى- أن من أوصاف الأبرار المنعّمين في الجنات، يشرب الكأس الممزوج بالكافور، ذكر من أوصافهم: الخوف والوجل من أهوال يوم القيامة، فقال -تعالى-: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا.
ثم ذكر من أوصافهم وأعمالهم التي بها فازوا بهذا النعيم قولهم: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ثم قال -تعالى- مبينا أنه أمنهم مما يخافون وأعطاهم ما يطلبون، فقال -تعالى-: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا.
وقد توعد الله -تعالى- مَنْ أمن مكر السيئات بالخسف أو العذاب بغتة من دون أن يشعر، فقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
وبين الله -تعالى- في آية أخرى أن من يأمن مكر الله خاسر، فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
وبين -تعالى- أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض من دابة ومن ملائكته وأنهم لا يستكبرون عن عبادة الله، بل يفعلون ما يأمرهم الله به خوفًا من ربهم العالي بذاته وقهره وقدره، فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وهذه الصفة من أوصاف المؤمنين العظيمة التي استحقوا بها الإكرام في الجنات، وهي الخوف والوجل من عذاب الله من أعمال القلوب العظيمة التي تبعث على إحسان أعمال الجوارح، وذلك أن من قام بقلبه الخوف أسرع في السير إلى ربه التقرب إليه بما يرضيه، والبعد والحذر مما يسخطه.
من أسرع في السير يوشك أن يصل إلى ما يريد، كما في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
وقد أثنى الله -تعالى- على أهل الخشية، والخوف مع إحسان العمل وإتقانه، وبين أنهم يُعطون العطاء، وهم خائفون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، وبيّن أنهم يبادرون إلى الأعمال الصالحة، وأنهم إليها سابقون، فقال -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي: هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله، خائفون منه، وجلون من مكره بهم.
ثم قال -تعالى- في آخر أوصافهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ.
وفي المسند والترمذي عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: قلت: يا رسول الله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه
.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: " عملوا والله بالطاعة واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا " .
وقد أمر الله -تعالى- بالخوف والخشية والرهبة منه وتقواه -عز وجل-، فقال -تعالى-: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وقال: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقال: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
وبيّن أن العلماء العاملين هم أهل خشيته الكاملة، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وإن كان كل مؤمن يخشى الله، والخوف من الله هو أصل كل خير.
ومن كلام أبي سليمان الداراني " وأصل كل خير في الدنيا والآخرة: الخوف من الله -عز وجل- " ا.هـ. وذلك أن من يخاف الله -عز وجل- لا يصر على معصيته، ومن لم يخف الله لا تؤمن غوائله وغدره وخديعته ومكره، بل يتغير بتغير الأحوال والأغراض، قال الله -تعالى-: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
وكما قيل: من لم يخف الله خف منه، فالخوف من الله -أيها المسلم- يجعل على الإنسان من نفسه رقيبًا في جميع حركاته وسكناته، فلا يتحرك ولا يسكن، ولا يفعل شيئًا، ولا يترك شيئًا إلا وفق تعاليم الإسلام السمحة امتثالًا لما يطلبه، ويأمر به ويرغب فيه واجتنابًا لما تحظره عليه وينهاه عنه، فالخوف رافع وباعث على العمل، وحاجز ومانع ورادع عن كل ما يكون سببًا في الهلاك والشقاء والخيبة والحرمان.
رزقنا الله الخوف والخشية من الله والإشفاق من عذابه، بمنه وكرمه.
مختارات