الصفة الثامنة من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو
إن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو، وقد بين الله في أول سورة " المؤمنون " أن هذه الصفة " الإعراض عن اللغو " من صفات المؤمنين المفلحين الموعودين بالفردوس، فقال -تعالى-: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.
ثم قال -تعالى- مبيّنًا لجزائهم بعد ذكر صفاتهم: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه، قال ابن كثير -رحمه الله- على هذه الآية: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي: عن الباطل، وهو يشمل الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قال الآخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ا.هـ.
وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية أشار إليه في مواضع من كتابه كقوله -تعالى-: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه؛ لأن من مرورهم به كرامًا إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصحابه فيه، وقد كان السلف الصالح مثالًا أعلى في تطبيق صفات المؤمنين فقد ورد في تطبيق صفات المؤمنين فقد ورد في تطبيق هذه الصفة أن ابن مسعود -رضي الله عنه- مر بلهو فلم يقف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.
وقال مقاتل على هذه الآية: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وقيل: اللغو: المعاصي كلها، ومعنى " مروا كرامًا " مسرعين معرضين، يقال: تكرَّم فلانًا عما يشينه إذا تنزّه وأكرم نفسه عنه، ولما كان سلفنا الكرام مثالًا يحتذى به مَن بعدهم إلى يوم القيامة في تطبيق الشريعة، والاتصاف بأوصاف المؤمنين التي نوّه الله عنها في كتابه.
وأثنى على أهلها لما كانوا كذلك حصلت لهم العزة والسيادة والكرامة في الدنيا فاستخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ونشروا العدل والأمن والرخاء، وفازوا برضاء الرب -تعالى- وجنته وكرامته في الآخرة، وتحقق فيهم وعد الله -تعالى- بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
ما أحرانا وما أجدرنا -أيها المسلم- أن نقتدي بسلفنا صالح في التحلي بصفات المؤمنين وتطبيق أحكام الدين؛ لتحصل لنا العزة والكرامة في الدنيا، والثواب والفوز في الآخرة، وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه.
وتفسير بعض السلف للغو بأنه يشمل كل باطل ولهو، وما لا يحمل من القول والفعل لا ينافي تفسير البعض الآخر منهم للغو بالشرك، أو بالمعاصي كلها؛ لأن الشرك والمعاصي من الباطل، بل عين الباطل.
وقد أخبر الله -تعالى- عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أن من أوصافهم أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، ولا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم، وإذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه أعرضوا عنه، ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب، قال الله -تعالى- إخبارًا عنهم: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.
قيل: إن هذه الآية نزلت في نفر من النصارى قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحبشة حين بلغهم خبره، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما أرادوا دعاهم إلى الله -تعالى-، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبًا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرًا ". "
أيها المسلم: إن هذه الحياة قصيرة، فلا مجال فيها للهو واللعب، وساعات العمر معدودة، وما تلفظ من قول إلا لديك رقيب عتيد، فذو العقل الحصيف، والرأي الصائب لا يضيع أوقاته وساعاته المحدودة المعدودة في لهو وباطل، ومخالطة ومعاشرة لأهله، بل يَرْبَأ بنفسه عن مثل ذلك، ولا يُقحمها فيما فيه هلاكها، بل العاقل يكون على الهمة، طاهر النفس، يحمل نفسه على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ويبتعد عن الرذائل وسفاسف الأخلاق، لا سيّما وديننا الحنيف يأمرنا بذلك، ويحثنا على التحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن السجايا، ويُنَوّه بالمؤمنين ويثني عليهم في اجتنابهم اللغو وإعراضهم عنه، ويعدهم على ذلك الثواب الجزيل، ويخبر أنهم أهل الفلاح.
فكن يا أخي من هؤلاء، لعلك تحظى بالفلاح والفوز العظيم. رزقنا الله العلم النافع، والعمل الصالح، وجعلنا ممن يستمع القول فيتّبع أحسنه.
مختارات