آفة الكبر 4
وأما العلاج العملي فيكون بالتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال المذمومة فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً.
والكبر بالعلم أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إذا كان معهما علم وعمل، فللعلم طغيان كطغيان المال.
ولذا يعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل، لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم.
ولا يقدر العالم على دفع الكبر إلا بأمرين:
أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يُّحتمل من الجاهل ما لا يُّحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله عن معرفة وعلم فجنايته أفحش، إذا لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «.. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (١).
فكما أن قدر العالم أعظم من قدر غيره، فكذلك خطره أعظم من خطر غيره، فهذا بذاك، فهذا الخطر يمنع من التكبر، والعالم إذا فكر فيما ضيعه من أوامر ربه بذنوب في باطنه، وجنايات على جوارحه، وعلم ما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة.
الثاني: أن يعرف العالم أن الكبر لا يليق إلا بالله عزَّ وجلَّ وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع، فمن تواضع لله رفعه في الدنيا والآخرة، فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه، وهذا يزيل التكبر عن قلبه.
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء إذ علموا أن من نازع الله تعالى الكبرياء والعظمة قصمه، وقد أمرهم سبحانه أن يُصغِّروا أنفسهم، حتى يَعْظُمَ عند الله محلهم، فهذا مما يبعثه على التواضع لا محالة.
فالواجب على العبد أن لا يتكبر على أحد من خلق الله، فإن رأى جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، فهو أعذر مني، وإن نظر إلى كبير قال: هذا أطاع الله قبلي، فكيف أكون مثله؟، وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله، فكيف أكون مثله؟.
والله عزَّ وجلَّ خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وخلق الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، وخلق كل
شيء، وجميع هذه المخلوقات مطيعة لربها، منقادة لأوامره، عابدة له.
والبشر إن استكبروا عن عبادة الله بعد معرفتهم لهذه الآيات الكبرى، والمخلوقات العظمى، فهذا لن يقدم أو يؤخر، فغيرهم من جميع الكائنات يعبد الله غير مستكبر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)}... [النحل: ٤٩، ٥٠].
وقال سبحانه: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)}... [فصلت: ٣٨].
هؤلاء الملائكة الذين عند ربك، وهم أرفع وأعلى، وهم أكرم وأمثل، لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض، ولا يغترون بقرب مكانهم من الله، ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً كما قال سبحانه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)} [الأنبياء: ٢٠].
وماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف عن عبادة الله؟.
وهذه الأرض التي تقوتهم، والتي منها خرجوا وإليها يعودون، الأرض التي هم على سطحها أنمال تدب.
هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة، فاهتزت وربت لتشارك العابدين المتحركين: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)} [فصلت: ٣٩].
وكم في الأرض من أَفَّاك؟.. وكم في الأرض من مستكبر؟.
وماذا ينتظر هؤلاء من العذاب الأليم؟.
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)}... [الجاثية: ٧، ٨].
ألا ما أخطر هؤلاء المستكبرون.. وما أعظم جهلهم بالله.
إنهم إذا علموا من آيات الله شيئاً استهزؤوا بها، واتخذوها مادة للسخرية منها،وممن يؤمنون بها، وممن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)} [الجاثية: ٩ - ١١].
فما أخسر هؤلاء في الدنيا والآخرة.. وأي خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا؟.. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة؟.. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟.
وكل أحد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق، فالكبرياء لله وحده، وليست لأحد من خلقه في قليل أو كثير.
وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض، وجزاء على الفسوق عن منهج الله كما قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)} [الأحقاف: ٢٠].
والكفار بمالهم وجاههم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله، فهم يكفرون ويستكبرون، ويؤذون الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويسمعون القرآن، ويتناجون بالكيد والرد على ما يسمعون، ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله؛ لأنهم يزعمون أنهم في ميزان الله شيئاً عظيماً: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)} [سبأ: ٣٥].
فما أعجب حالهم؟ وما أعوج تقديرهم: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨)} [المعارج: ٣٦ - ٣٨].
فهل يستحقون بكفرهم وكيدهم أن يدخلوا الجنة؟
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)} [المعارج: ٣٩].
فهم لا ريب يعلمون مم خلقوا؟.
من ذلك الماء المهين الذي يعرفون، إنها لمسة خفية عميقة تمسح كبرياءهم مسحاً، وتنكس كبرياءهم تنكيساً.
كيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟.إن هذا خرق لسنة الله في الجزاء العادل، للمؤمن بالنعيم.. وللكافر بالجحيم.
ألا ما أسفه العقول التي تستكبر بكثرة الأموال والأولاد، وتظن أن ذلك سوف ينجيها من العذاب الأليم، وأنهم خيار الناس: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)} [سبأ: ٣٥].
مختارات