الآفة الثالثة والعشرون - القعود
والآفة الثالثة والعشرون التي قد يبتلى بها نفر من العاملين لدين الله بل لقد أصيب بها بالفعل نفز من هؤلاء، وكانت وراء تمكّن الباطل وإحكامه القبضة حول أعناقنا إنما هي: " القعود ". وحتى يتطهّر منها من ابتلى بها، ويقي نفسه من سلّمه الله - عز وجل - منها، فإنه لابد من إعطاء تصور صحيح واضح عنها، وذلك على النحو التالي: أولا: تعريف القعود: لغة يأتي القعود في لغة العرب على معان، منها: 1 - الجلوس بعد قيام، نقول: قعد فلان: جلس بعد أن كان قائما. 2 - الانقطاع والترك للأمر، أو التأخر عنه، نقول: قعدت المرأة عن الحيض والولد: انقطعت، وقعد عن الأمر: تركه أو تأخر عنه. 3 - الاحتباس عن الشيء، نقول: ما قعَّدك عن الأمر، وأقعدك، أي ما حبسك. 4 - عدم الاهتمام بالأمر، نقول: قعد عن الأمر: ليس مهتما به. 5 - الداء يصيب الجسد فيقعده، وقيل: داء يأخذ في أوراك الإبل، فيميلها إلى الأرض أو هو الزَّمِن الذي لا يشفى. ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، فإن الداء حين يصيب الجسد ويتمكن منه، يعوق صاحبه عن مواصلة السير، فإذا هو قاعد أو منقطع، أو على الأقل متأخر مع عدم اكتراث واهتمام. () اصطلاحا: والقعود في اصطلاح الدعاة العاملين لدين الله: مرض يصيب الداعية من داخله يعوقه عن مواصلة السير في الطريق إلى نهايتها، فإذا هو قاعد أو منقطع، أو على الأقل متأخر عن الركب دون اكتراث أو مبالاة واهتمام. يقول ابن عطية - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة) والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما في قول الشاعر: واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي. () ويقول العلامة الألوسي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم، وإلقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود، أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك، فليس هنا قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: {فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}- أي أماتهم - ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في القعود، فالقول على حقيقته. والمراد بالقاعدين: الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء، والصبيان، والزَّمنى - أي المرضى مرضا مقعدا - أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم مالا يخفى على متدبر ". () وواضح أن بعض الاحتمالات التي توجب الذم في نظر الألوسي ما عبَّر عنه بقوله: " ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض ". ثانيا: مظاهر القعود، وقيمته في ميزان الإسلام: وللقعود مظاهر وصور تدل عليه، وأهم هذه المظاهر، وتلك الصور: 1 - ترك منهج الله بالمرة، والتحاكم إلى مناهج البشر، وهذا وإن كان قليلا لكنه - كما يشهد الواقع - موجود. 2 - ترك الدعوة إلى الله، مع الاستقامة في النفس والأهل والولد. 3 - التفرغ لإيذاء العاملين لدين الله: تارة بانتقاصهم، والطعن في أشخاصهم، وفي ذواتهم، وتارة بانتقاصهم، والطعن في منهاجهم، وتارة بتأييد من ينتقصونهم، ويطعنون فيهم تلويحا أو تصريحا، وتارة بغير ذلك من السباب، والشتائم، بل ربما الإيذاء البدني. 4 - السعي لتمزيق صف العاملين لدين الله: تارة بوضع منهاج يوافق منهج الله في الشكل، ويجافي ويختلف معه في المضمون والجوهر، ثم دعوة الناس لا سيما الشباب للانضواء تحت لواء هذا المنهاج المبتدع، وتارة بالدخول في هذا المنهج، ثم بالخروج منه، والإشاعة بين الناس أنه ما خرج إلا لفساد المنهج. 5 - الركون إلى الظالمين بصورة أو بأخرى، ثم الدفاع عن هؤلاء الظالمين بكل الأساليب، والوسائل. 6 - الاطلاع على بعض أخطاء العاملين - " وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " - ثم نشر هذه الأخطاء، وإعلانها على الملأ من الناس. 7 - ليُّ النصوص، أو استخدامها في غير موضعها، أو نقلها نقلا مشوَّها بصورة تعبر عن مكنون ما في النفس من الحقد والكراهية لدين الله، وللعاملين بهذا الدين ولهذا الدين، إلى غير ذلك من المظاهر والصور. والقعود بهذه المظاهر، وتلك الصور، مذموم في دين الله، ويكفيه ذما أن الله جعله من صفات وخصائص المنافقين إذ يقول سبحانه:{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران). أخرج ابن جرير عن السُّدِّي قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السُّلمي يدعوهم، فلما غلبوه، وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا، قال: فذكر الله أصحاب عبد الله بن أبي بن سلول: قول عبد الله أبى جابر بن عبد الله الأنصاري حين دعاهم، وردّهم، فقال: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} الآية. () وأخرج ابن جرير أيضا، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} الآية، قال: " ذكر لنا أنها نزلت في عدو الله، عبد الله بن أبي ". () ويقول سبحانه - حكاية عن قوم موسى مع موسى حين طلب منهم أن يدخلوا ا لأرض المقدسة، ولا يترددوا، فخافوا، وامتنعوا - قال: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة). يقول الألوسي: " فاذهب - أي إذا كان الأمر كذلك فاذهب - أنت وربك فقاتلا - أي فقاتلاهم، وأخرجاهم حتى ندخل الأرض، وقالوا ذلك استهانة واستهزاء به سبحانه، وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وعدم مبالاة، وقصدوا: ذهابهما، حقيقة، كما ينبئ عنه غاية جهلهم، وقوة قلوبهم، والمقابلة بقوله تعالى: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. () و يقول سبحانه: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} (التوبة). يقول ابن جرير الطبري: " يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإن ردك الله يا محمد إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه، فاستأذنوك للخروج معك في أخرى غيرها،فقل لهم: لن تخرجوا أبدا، ولن تقاتلوا عدوا، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم منهم، فاقتدوا بهديهم، واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله فان الله قد سخط عليكم ". () وأيد ما قال بالمأثور، قائلا: " حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفر في الحر، وذلك في غزوة تبوك، فقال الله:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (التوبة). فأمره الله بالخروج، فتخلف عنه رجال، فأدركتهم نفوسهم، فقالوا: والله ما صنعنا شيئا، فانطلق منهم ثلاثة، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} إلى قوله: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلك الذين تخلَّفوا "، فأنزل الله عذرهم لما تابوا، فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة) وقال: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} () ثم ساق آثارا أخرى في غير هذا المعنى، وعاد فقال: " والصواب من التأويل في قوله: {الخالفين} ما قال ابن عباس ". () ويقول سبحانه: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} (التوبة: 86، 87). يقول ابن جرير: " يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل عليك يا محمد سورة من القرآن، بأن يقال لهؤلاء المنافقين: {آمِنُوا بِاللَّهِ} يقول: صدِّقوا بالله، {وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِه} يقول: اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، استأذنك أهل الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله،{وقالوا ذرنا} يقول: وقالوا لك: دعنا نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر ". () ويقول سبحانه: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة). ويقول سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء). يقول ابن جرير الطبري: " يعنى جل ثناؤه بقوله:{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله، وبرسوله، المؤثرون الدّعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حر الأسفار، والسير في الأرض، وشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله، وقتالهم في طاعة الله، لا أهل العذر منهم، بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها، للضرر الذي بهم، إلى قتالهم وجهادهــم في سبيـل الله {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ومنهاج دينه، لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله، وأعداء دينهم {بأموالهم} إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان بالله، وبأنفسهم مباشرة بها قتالهم بما تكون به كلمة الله هي العالية وكلمة الذين كفروا السافلة ". () ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رابط يوما أو ليلة كان له كصيام شهر للقاعد، ومن مات مرابطا في سبيل الله، أجرى الله له أجره، والذي كان يعمل: أجر صلاته وصيامه، ونفقته، ووقى من فتان القبر، وأمن من الفزع الأكبر ". () إلى غير ذلك من النصوص. والآيات وإن كان أكثرها في المنافقين إلا أنها توحي من طرف خفي بذم القعود مطلقا بغير عذر مقبول، سواء انتهى بصاحبه إلى أن يكون منافقا كهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآيات، أو انتهى به إلى أن يكون مسلما مرتكبا إثما عظيما. ثالثا: أسباب القعود: وللقعود عن العمل لدين الله - عز وجل - أسباب تؤدى إليه، وبواعث توقع فيه، وأهم هذه الأسباب، وتلك البواعث: 1 - المعصية: ذلك أن المرء إذا تلطخ بالمعصية بكل أشكالها وصورها: الظاهرة منها والباطنة، الصغيرة منها والكبيرة، ولم يبادر بالتوبة، والإنابة والرجوع إلى الله - عز وجل - فإن هذه المعصية تؤدي إلى مرض القلب، بل موته، وحينئذ لا يكون للقلب سيطرة على الجوارح، ويجد شياطين الإنس والجن، وكذلك الدنيا ببريقها وزخارفها وزيناتها، الطريق مفتوحة للوسوسة والإغواء والإغراء بكل ما يغضب الله ورسوله، ومنه القعود عن العمل لدين الله بصورة أو بأخرى على النحو الذي قدّمنا. وقد نبه الحق - تبارك وتعالى - إلى أن المعصية تقود إلى كل ضر في خلال ما حكاه عن بعض جرائم في إسرائيل، وأن المعصية إنما كانت السبب في ارتكاب هذه الجرائم، حيث يقول سبحانه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة). يقول ابن جرير - رحمه الله - في إجمال تفسير هذه الآية: " ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتم عنه " () كما نبَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " تعرض الفتن كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة يضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه ". () ولابن قيم الجوزية تصويران لأثر المعصية على العبد، أحدهما واسع مطول يكفي أن نحيل القارئ عليه، () والآخر موجز يقول فيه: " والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح، ومدد يمد بها العبد أعداءه، ويعينهم بها على نفسه، فيقاتلونه بسلاحه، ويكون معهم على نفسه، وهذا غاية الجهل: ما يبلغ الأعداء من جاهل، ما يبلغ الجاهل من نفسه ". () 2 - التوسع في المباحات: وذلك أن الله عز رجل لم يمنع عباده من نصيبهم من المباحات ولكنه حماية لهم ورحمة بهم طلب منهم أن يكون أخذها بتوسط واعتدال فقال سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة). ويوم تغيب هذه الحقيقة عن بال المسلم ويتوسع في المباحات، ينتهي به هذا التوسع إلى القعود، وترك العمل لدين الله، لا سيما وطريق الله ليست مفروشة بالحرير والورود، وإنما محفوفة بالمخاطر والمتاعب، والآلام، ومفروشة بالأشواك، ومروية بالدموع، ومزدانة بالدماء والجماجم. وقد تنبه سلف الأمة إلى هذا السبب، فحذروا من الوقوع فيه. هذه عائشة - رضي الله عنها - تقول: " أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها: الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم ". () وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ". () وإذ يقول أبو سليمان الداراني: " من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة، وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل ". () 3 - تمكن الدنيا من القلوب: وذلك أن الدنيا إذا تمكنت من القلوب حملت صاحبها حملا على الركون إليها، والاطمئنان والرضا بها، والغفلة عن الآخرة وترك العمل لهذه الآخرة، وهذا هو القعود بعينه. ولقد بيَّن سبحانه وتعالى في كتابه هذا السبب حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَة} (التوبة: 38). يقول ابن عطية - رحمه الله -: " هذه الآية هي بلا خلاف، نازلة عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل وتخلف عنه قبائل من الناس، ورجال من المؤمنين كثير، ومنافقون، فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل، وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة، وخص الثلاثة: كعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية بذلك التأنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر، وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ". () ويقول أيضا: " وقوله: {أرضيتم} تقرير، يقول: أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة، وحظها الأسعد ". () وكذلك نبّه رب العزة إلى هذا في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء: 77). يقول ابن عطية: " ومعنى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}: أمسكوا عن القتال، وقوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} يعني: أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله ". () ويقول أيضا: {إِلَى أَجَلٍ قَرِيب}: الأجل القريب: يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قاله المفسرون، وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام، وكثرة عددهم ". () ونبه إليه أيضا في قوله سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} (النحل). يقول ابن عطية: " ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك، وإن كانوا غير مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره ". () والتعذيب، أو النفي والتشريد في الأرض، وكل هذه الجرائم بسبب قعود القاعدين. وما لقيه أبناء الحركة الإسلامية في مصر من التعذيب في أوائل الخمسينات بسبب انسحاب نفر من العلماء من الصف، ومعهم ما لا يحصى من المتأثرين بهم، والواثقين فيهم - شاهد صدق على ما نقول، ويتحمل هذا النفر إثم ما نزل بهؤلاء إلا أن يعفو الله عنهم، ويتجاوز. وما يلقاه العمل الإسلامي اليوم بعموم من انسحاب نفر من الميدان، وقبوله أن يكون سوطا في يد الباطل يلهب به ظهور العاملين ويحرّض عليهم، ويخيف الناس منهم - لهو شاهد صدق كذلك على ما نقول. ويقول العلامة الألوسي -رحمه الله-: " {ذلك} إشارة إلى الكفر بعد الإيمان، أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، أو المذكور من الغضب والعذاب {أنهم}، أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي آثروها، وقدموها، ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل) عَلَى الآخِرَةِ(فعُدِّي بعلى، والمراد على ما في البحر - أي على ما جاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان- أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك، وإلا فهم غير مصدقين بالآخرة ". () وكذلك نبه إليه في قوله سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}(النجم). يقول ابن عطية: " وقوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} معناه: لا يصدق بغيرها، فسعيه كله وعمله إنما هو لدنياه ". () ويقول الألوسي: " فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق، وهو القرآن العظيم المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة، المشتمل على علوم الأولين والآخرين، المذكر للآخرة، وما فيها من الأمور المرغوب فيها، والمرهوب عنها، والمراد بالإعراض عنه: ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به، وقيل: المراد بالذكر: الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالإعراض عنه: ترك الأخذ بما جاء به،وقيل: المراد به الإيمان، وقيل: هو على ظاهره، والإعراض عنه: كناية عن الغفلة عنه - عز وجل -{وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: راضيا بها، قاصرا نظره عليها، جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، والمراد من الأمر المذكور: النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم، كأنه قيل: لا تبالغ في الحرص على هدي من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته، وقصارى سعيه ". () 4 - عدم استصحاب نية المضي إلى آخر الطريق وعدم العمل بمقتضى هذه النية: وذلك أن سنته سبحانه في خلقه مضت بأن من نوى الخير وعمل بمقتضى هذه النية، فإنه سبحانه يوفقه ويؤيده حتى يصل إلى ما يريد، ومن نوى الشر وعمل بمقتضى هذه النية، فإنه سبحانه يتخلى عنه ويخذله فلا يوفق إلى الخير أبدا، ويضيع، إذ يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (محمد)،{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (مريم: 76)، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف: 5). وانطلاقا من هذه السنة لله في خلقه فإن من لا يستصحب نية المضي في الطريق إلى نهايتها، ويترك العمل بمقتضى هذه النية، تكون عاقبته الحرمان من توفيق الله وتأييده، ويكون القعود، وقد نبه رب العزة إلى هذا السبب وهو يتحدث عن المنافقين الذين قعدوا عن شهود تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم بأعذار واهية، وأن السبب الحقيقي إنما هو عدم استصحاب نية الجهاد، والخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآية ذلك أنهم لم يعملوا بمقتضى هذه النية، فكانت العاقبة أن كره الله خروجهم فخذلهم، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}(التوبة). يقول ابن عطية: " وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} الآية حجة على المنافقين، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك، واستعدوا له قبل كونه ". () ويقول الألوسي: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة}، أي أهبة من الزاد والراحلة، وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده ". () 5 - العيش وسط القاعدين: وذلك أن المرء كثيرا ما يتأثر بالوسط الذي يعيش فيه سواء أكان هذا الوسط قريبا - وهو البيت - أم بعيدا - وهو المجتمع - لا سيما إذا لم تكن لديه الحصانة الكافية التي يقاوم بها هذا الوسط القاعد، وكان هذا الوسط حريصا على إقعاده بطريق أو بأخرى من سخرية واستهزاء، إلى إغواء وإغراء، إلى تخويف وتثبيط، إلى غير ذلك، وليست له من تهمة ولا جريرة إلا أنه عامل متحرك بدين الله عز وجل، وتكون العاقبة التخلف والقعود؟ ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل "، () " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ". () 6 - عدم اليقين بوعد الله ورسوله: وذلك أن الله وعد المؤمنين العاملين الاستخلاف والتمكين، والأمن والأمان، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور). {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} (الصافات). {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح). {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف). وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز،أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر "، () " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا - وفي رواية: عضوضا- تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة "، () " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب " () إلى غير ذلك من الأحاديث. ومن لم يوقن بهذا الوعد، فانه يقعد لا محالة، ويترك العمل لدين الله من الدعوة والجهاد. ولقد نبه رب العزة إلى هذا السبب، وهو يتحدث عن قعود المنافقين بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} (التوبة: 90). يقول ابن جرير الطبري: " يقول تعالى ذكره: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، وقعد عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه الذين كذبوا الله ورسوله، وقالوا الكذب، واعتذروا بالباطل. () 7 - مباغتة معوقات الطريق مع عدم الفطنة والاستعداد لهذه ا لمعوقات: ذلك أن هناك معوقات على الطريق من النفس الأمارة بالسوء إلى شياطين الجن، إلى شياطين الإنس، إلى الدنيا ببريقها وزيناتها، ممثلة في الزوج، والأولاد، والأموال، والمناصب، والوجاهة، والسلطان، ونحوها، إلى طول الطريق نفسها، وما لم يكن المرء فطنا مستعدا لهذه العقبات، وتباغتها، فإنه يصاب بالقعود لا محالة إلا أن يتغمده الله سبحانه وتعالى بفضل منه ورحمة. وفي قصة الذي كان يعرف بحمامة المسجد، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له بالغنى، ونصحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " قليل تؤدي شكره خير من كثير يطغيك "، وألح حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه له بالغنى، وجاءته الدنيا، وما كان فطنا مستعدا، فضاع، وفيه نزل قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}(التوبة). هذه القصة تشرح لنا هذا السبب بجلاء ووضوح. يقول الإمام الطبري معلقا على الآيات المذكورة: " يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}، يقول: أعطى الله عهدا {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالا، ووسع علينا من عنده، {لَنَصَّدَّقَنَّ}يقول: لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، {وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ}يقول: ولنعملن فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به، وإنفاقه في سبيل الله، يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله، وآتاهم من فضله، فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدقوا منه ولم يصلوا منه قرابة، ولم ينفقوا منه في حق الله، {وَتَوَلَّوا} يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه، فأعقبهم الله نفاقا في قلوبهم ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم، فيما آتاهم من فضله، لإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} من الصدقة والنفقة في سبيله، {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} في قيلهم، وحرمهم التوبة منه؛ لأنه جَلَّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهم إياه إلى يوم يلقونه، وذلك يوم مماتهم، وخروجهم من الدنيا ". () 8 - التأخير إلى موقع الجندية بعد القيادة: وذلك أن الواقع قد شهد بأن بعض الناس حين يكون في موقع القيادة، ولسبب أو لآخر يرد إلى موقع الجندية، تكبر عليه نفسه، لا سيما إذا نظر إلى القيادة على أنها تشريف لا تكليف، غنائم لا تبعات، وحينئذ لا يكون منه إلا القعود، والتخلي عن أداء الواجب، وقد شاهدت بعيني رأسي شابا نشطا عاملا لدين الله، وبلغ به نشاطه أن كانت له حلقة علمية، يحضرها كثيرون، ولسبب أو لآخر طلب منه أن يكون تلميذا لا أستاذا، جنديا لا قائدا فورمت أنفه، وشرق بريقه، وقعد عن العمل لدين الله، وترك الواجبات المنوطة به، وحين فوتح في ذلك أجاب بأن الجندية خنق وقتل للمرء، والقيادة حرية وانطلاق، فكيف تضيع مني القيادة، وأرضى بالجندية، وبينهما من الفرق ما بينهما، فكان الرد على الفور: " رحم الله أبا سليمان خالد بن الوليد، فقد جاءه كتاب العزل من أمير المؤمنين عمر لمصلحة رآها عمر، وكان هو القائد المظفر، فنفَّذ ما في الكتاب وكله فرح وسرور، وأخذ مكانه جنديا بين الجنود، وقال مقولته المشهورة: والله لو ولّى علي عمر عبدا أسود اللون لسمعت وأطعت ما دام يقودني بكتاب الله ". 9 - الاغترار بوعود الباطل: وذلك أن الباطل يحاول بطريق أو بأخرى تكثير سواد القاعدين من المسلمين الدعاة العاملين لدين الله، وله في ذلك أساليب كثيرة، ومنها الوعود البراقة بمال، أو بمنصب، أو بوجاهة مثلما حاول عتبة بن ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من تنطلي عليه هذه الوعود، وينساق وراءها تاركا الالتزام بمنهج الله، والعمل لدينه من أجل الظفر بهذه الوعود، وقد شاهدنا في تاريخ الحركة الإسلامية في العصر الحاضر نفرا زين لهم أهل الباطل القعود حين منحوهم بعض المناصب العليا فقعدوا، ثم ألقى بهم هؤلاء في العراء عند أول تغيير لمن يشغلون هذه المناصب، وما أغنت عنهم هذه الوعود من الله شيئا، بل على العكس لقد أغضبوا ربهم حين ركنوا إلى الظالمين وآزروهم، أو أعانوهم على ظلمهم، وبغيهم في الأرض بغير الحق. وفي الأدب الرمزي: قصة الذي غضب لله أول مرة: لأن شجرة تعبد من دون الله، وعبر عن غضبه هذا بمحاولة قطع الشجرة، ومناه الشيطان الذي تمثل له في صورة بشر مدافع عن الشجرة ببعض المال من كل صباح، فقعد طمعا في تحقيق هذا الوعد، وما هي إلا أيام حتى ذاب هذا الوعد، وصار سرابا وحاول قطع الشجرة هذه المرة، ولم ينجح؛ لأن غضبه لم يكن لله، وإنما كان للوعد الذي أخلف ولم يتحقق، وهكذا يؤدي الاغترار بوعود الباطل إلى القعود والتخلي عن الواجب. 10 - عدم وجود منهاج يملأ الحياة ويقضى على الفراغ: وذلك أن المسلم إذا لم يشغل نفسه بمنهاج يملأ حياته ويقضي على الفراغ، من تدبر وتفكر إلى عبادات مخصوصة، كصلاة ونحوها، إلى رعاية للآداب الاجتماعية، إلى قيام بحق الأهل والولد، إلى كسب للعيش، إلى اشتغال بدعوة وهداية الآخرين، إلى الوقوف في وجه الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، إلى غير ذلك مما يعد جزءا من رسالة المسلم في الأرض - إذا لم يشغل المسلم نفسه بمنهاج كهذا، فإن نفسه الأمارة بالسوء تملي عليه، بإغواء من شياطين الجن والإنس، وبتأثير من زخرف الحياة الدنيا، منهاجا باطلا غير ما يريد الله ورسوله، ويأخذ في تنفيذ هذا البرنامج، وذلك هو عين القعود. 11 - عدم ملاءمة المنهاج للطاقات والإمكانات: وذلك أن المسلم لا يبقى حيا نشطا متحركا إلا في ظل منهاج ملائم لطاقاته وإمكاناته، ويوم أن يخلو المنهاج من هذه الملاءمة، كأن يكون فوق المستوى، أو دون المستوى، فإن العاقبة ستكون القعود والترك إلا من رحم الله. ولعل هذا هو سر مخاطبته ب صلى الله عليه وسلم لكل واحد من أصحابه بما يلائمه ويتناسب مع ميوله وإمكاناته وطاقاته،بل وعلله، وأمراضه، فقد كان يخاطب الجميع خطابا عاما، ويأتي إلى الخاصة ويخاطبهم خطابا فوق خطاب العامة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال: " يا معاذ بن جبل "، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: " يا معاذ "، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثا). قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ". قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: " إذا يتكلوا " وأخبر بها معاذ عند موته تأثما. () 12 - عدم إعطاء العامل حقه من الاحترام والتوقير: وذلك أن المرء غالبا ما يظل مستمرا في أداء واجبه، والقيام بما تفرضه عليه رسالته ما لم يهن أو يحتقر، فإن حدث، وحرم هذا المرء حقه من الاحترام والتوقير في حدود الضوابط الشرعية، فإنه يرد على ذلك غالبا بالقعود، والتخلي عن أداء الواجب. ولعل هذا هو سر دعوته صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يراعوا الآداب الاجتماعية فيما بينهم إذ يقول: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وفي عن المنكر ". () وفي رواية: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا، أو حق كبيرنا ". () 13 - تحميل النفس من الواجبات فوق ما تطيق: وذلك أن أي عمل من الأعمال تكون له في البداية حلاوة، وقد يلقى من العامل إقبالا، واستفراغا لكل ما في وسعه، وما في طاقته، وربما رأى ذلك من يحيطون به، فيلقون ببعض ما في أيديهم من واجبات وتكاليف عليه، ولا يلتفت هو إلى ذلك، ويقبل منهم، ويمضي، وبعد فترة من الزمان يجد نفسه قد أنهكه العمل وأضناه، فيفتر، وإذا لم يبادر بالعلاج والتخلص من هذه الحال يكون القعود، والانقطاع عن أداء الواجب، وفي آفة " الغلو في الدين أو التنطع " من الجزء الثالث من هذا الكتاب صورة دقيقة لكيفية إيصال هذه الآفة صاحبها إلى القعود والترك. 14 - عدم تجاوز الآخرين عن أي هفوة من الهفوات: وذلك أن المرء بطبيعته مجبول على الخطأ باستثناء الأنبياء والمرسلين لما أكرمهم الله عز وجل به من العصمة، والمحاسبة سبيل من سبل التخلص من هذا الخطأ. ومن أساليب المحاسبة التجاوز أحيانا عن بعض الهفوات والزلات اليسيرة كيلا يسيطر اليأس والقنوط على النفس، وقد لا ينتبه البعض إلى هذا الأسلوب، ويحمله إتقان العمل وإجادته على المؤاخذة في كل الأمور حتى لو كانت يسيرة بسيطة، وربما لا يتحمل العامل ذلك وتكون العاقبة القعود، والتخلي عن أداء الواجب. ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى العفو مع القدرة على الانتقام والبطش. إذ يقول سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران). {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}(الأعراف). {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22). 15 - الظن أن في القعود سلامة وعافية: وذلك أن الشيطان قد يسول لبعض الناس القعود وترك العمل لدين الله بحجة حماية نفسه، وغيره من المحنة، لا سيما في عصرنا هذا الذي تَنَمَّر فيه الباطل، وتفرغ للعاملين لدين الله بحيث لم يعد لديه من شغل شاغل إلا هُم، ناسيا أو متناسيا أن السلامة والعافية منة ومحض فضل من الله سبحانه وتعالى، بيد أن سنته سبحانه وتعالى مضت أن يمنحهما للمتقين العاملين، كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55). {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام). {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد). وربما يدخل الشيطان من مدخل آخر: إذ يقول للعامل: إنك تخطئ وترتكب كثيرا من المعاصي والآثام، وهذا يؤخر عون الله، وتأييده عن العاملين، بل ربما يكون سببا في كارثة أو محنة تنزل بالجميع، وخير لك أن تبتعد من طريق هؤلاء البررة الأتقياء من عباد الله لتحل عليهم السلامة، وتصيبهم العافية، ناسيا أو متناسيا أنهم مثله يصيبون ويخطئون، غير أنه وهؤلاء لا يصرون على الخطأ بل يبادرون بالتوبة، والإنابة، والرجوع إلى الله عز وجل. 16 - عدم استجابة الآخرين: وذلك أن نفرا من الدعاة يتوهم أنه لا ينجح في مهمته إلا إذا استجاب الآخرون، وقبلوا منه ما يقول، فإن لم يستجيبوا لما يقول كان منه القعود، والتخلي عن المضي في الطريق إلى نهايتها ناسيا أو متناسيا أن قلوب العباد جميعا بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء، وأن الله قال لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} (القصص: 56). {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} (الشورى: 48). 17 - الغفلة عن عاقبة القعود: وأخيرا قد تكون الغفلة عن الآثار والعواقب المترتبة على القعود - فردية كانت أو جماعية، دنيوية كانت أو أخروية - هي السبب في القعود، وقد رأينا في العصر الحاضر نفرا ممن قعدوا في حال لا يحسدون عليها الآن، وهم يقولون: والله لو درينا أن القعود سيصل بنا إلى هذا المستوى، وإلى هذا الحال ما قعدنا. رابعا: آثار ا لقعود: هذا وللقعود آثار ضارة، وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه ا لآثار والعواقب: أ - على العاملين: فمن آثار القعود على العاملين: 1 - تفرد الشياطين بهم ثم افتراسهم: إذ من قعدوا عن الالتزام بالإسلام بالمرة صاروا موالين للشياطين من الجن والإنس، وأما الذين انفصلوا عن العاملين لدين الله، وعاشوا وحدهم ملتزمين في أنفسهم وأهليهم بمنهج الله، فهؤلاء سمحوا للشياطين أن يتفردوا بهم، ثم يفترسوهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (... فمن أحبّ منكم بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ". () 2 - مضاعفة الذنوب والآثام الأمر الذي ينتهي أن تكون الجحيم هي ا لمأوى: وذلك أن القاعدين يفتحون بابا واسعا أمام كثيرين من الضعفاء والعامة، ممن يقتدون بهم، فيقعدون قعودهم، وبهذا يحملون وزرين: وزر قعودهم، ووزر إقعاد غيرهم، إذ يقول سبحانه:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت: 13). {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل). وتتضاعف الذنوب والآثام بدوام القعود حتى تكون الجحيم هي المأوى والعياذ بالله. 3 - الذل والهوان: وذلك انهم حين قعدوا عن نصرة دين الله لم يمنعهم هذا القعود من أن ينزل بهم قدر الله، وقد قدر الله حياة الذل والهوان في الدنيا والآخرة على كل من تولى وأعرض عن ذكره سبحانه وتعالى، فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه). {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن). وقد عشنا وشاهدنا في العصر الحاضر من قعد عن نصرة دين الله بعد أن كان شعلة نشاط، وما كان له من مبرر إلا الإبقاء على النفس، والأهل، والمال، والولد، ومضى قدر الله، ولم يظفر بما أراد، وعاد يندب حظه، ويقول: {يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (النساء). ب - على العمل الإسلامي: ومن آثار القعود على العمل الإسلامي: 1 - إضعاف هذا العمل، وتعريضه للاغتيال أو على الأقل الإجهاض بحيث لا يؤتي ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل. ذلك أن هذا الصنف من القاعدين لم يقتصر قعوده على نفسه، بل تعداه إلى قعود الآخرين اقتداء، وتأسيا، بل أبعد من ذلك أغلق الباب في وجه من يريدون الالتزام بدين الله والعمل له لأول مرة، إيثارا للسلامة والعافية بزعمهم، ولا شك أن هذا إضعاف للعاملين، وللعمل الإسلامي، ومعروف أن المبطلين لا يتمكنون من العاملين والعمل الإسلامي إلا في مثل هذا الجو من الضعف والتفرق. 2 - تعريض العاملين لدين الله لشدائد وامتحانات لا تطاق من انتهاك للأعراض، وسلب للأهوال، وسفك للدماء، أو على الأقل التضييق والتعذيب، أو النفي والتشريد في الأرض، وكل هذه الجرائم بسبب قعود القاعدين. وما لقيه أبناء الحركة الإسلامية في مصر من التعذيب في أوائل الخمسينات بسبب انسحاب نفر من العلماء من الصف، ومعهم ما لا يحصى من المتأثرين بهم، والواثقين فيهم - شاهد صدق على ما نقول، ويتحمل هذا النفر إثم ما نزل بهؤلاء إلا أن يعفو الله عنهم، ويتجاوز. وما يلقاه العمل الإسلامي اليوم بعموم من انسحاب نفر من الميدان، وقبوله أن يكون سوطا في يد الباطل يلهب به ظهور العاملين و يحرِّض عليهم، ويخيف الناس منهم - لهو شاهد صدق كذلك على ما نقول. خامسا: علاج القعود: وفي ضوء ما قدمنا من أسباب القعود وبواعثه يمكن رسم طريق الخلاص، بل طريق الوقاية من هذا القعود، ودونك معالم هذه الطريق: 1 - استشعار نعم الله التي أنعم بها علينا في أنفسنا، وفى الكون المحيط بنا، ظاهرة كانت هذه النعم أو باطنة، حيث يقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم). {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20). وأن هذه النعم ينبغي أن تقابل بالشكر كي تدوم، وشكر النعمة إنما يكون بتوظيفها فيما خلقت له،لا باستخدامها فيما يغضب الله ويسخطه، فإن مثل هذا الاستشعار قد يحرك النفر من داخلها ويحملها على النهوض من جديد. 2 - استشعار القاعد مسؤوليته أمام الله يوم القيامة عما يلقاه المسلمون المضطهدون، الملاحقون في كل مكان: في البوسنة والهرسك، في الجمهوريات الإسلامية في آسيا، في كشمير المسلمة، في بورما، في أريتريا، فى الفلبين، في دول البلقان، في إفريقيا، في بلاد العرب، في فلسطين، فيما لا نعلمه بسبب التعتيم الإعلامي المقصود، ويعلمه الله عز وجل. وماذا سيكون جوابه لربه غدا يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، فإن هذا الاستشعار من شأنه أن يخيف صاحب الفطرة السليمة، والعقل الراشد فيجاهد نفسه على التحرر من القعود، ويعمل على النهوض من جديد. 3 - التوسط في تعاطى المباحات من غير إفراط أو تفريط، مع اليقين أن في ذلك عافية لنا في أبداننا، وعقولنا، وأرواحنا، وأن ما نحرم أنفسنا منه اليوم سنلقاه غدا في أكمل وأبهى صورة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}الأعراف: 4 - إخراج حب الدنيا - بوسيلة أو بأخرى - من القلوب فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذا لا يمنع أن تكون هذه الدنيا في أيدينا نتبوأ منها حيث نشاء، شريطة أن تكون من حلال، وأن نؤدي حق الله فيها، بل أن تتنازل عنها جميعا لله إن اقتضت الحال ذلك، كما أثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإن مثل هذا الصنيع مع الدنيا من شأنه أن يحمل القاعد على النهوض والاستمرار إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا. 5 - دوام النظر في كتاب الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم للوقوف على أخبار القاعدين، المخلفين، وما صاروا إليه من ذل وهوان في الدنيا والآخرة، فلعل مثل هذا النظر يخوف القاعد إن كان له قلب، فيبادر بترك القعود، ويحمل نفسه على النهوض حماية لها من أن تصير إلى ما صار إليه هؤلاء القاعدون من قبل، وأن يذيقها الله من الذل والهوان في الدنيا والآخرة مثلما صنع بهؤلاء، وسورة النساء، والتوبة، والأحزاب، والفتح من أوسع سور القرآن حديثا عن هذا الصنف من الناس. 6 - تأمل واقع هؤلاء القاعدين اليوم، وكيف صاروا أسهما في كنانة أعداء الله، ورسوله والمؤمنين، يصوبونه إلى صدور العاملين، فتقوى بهم شوكة هؤلاء الأعداء، حتى إذا استنفذوا بنيتهم منهم، خلعوهم من أقدامهم، وألقوا بهم في مزبلة التاريخ، فخسروا الحياتين جميعا الدنيا والآخرة، وخسارة الآخرة أشد: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر) 7 - مجاهدة النفس من أجل أن تستصحب نية الجهاد والعمل لدين الله عز وجل، ثم تنفيذ ما تقتضيه هذه النية، ولكن مع الصدق والإخلاص، واتباع السنة، فلعل الله عز وجل بهذه النية يمن على هذا الصنف القاعد من الناس وينتشله من وهدة القعود، إلى قمة النهوض والعمل، إذ يقول سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (مريم: 76). {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (محمد). 8 - الانقطاع عن صحبة القاعدين إلا بالقدر الذي به يكون العمل على انتشال هؤلاء من قعودهم هذا، مع الارتماء وبسرعة في وسط العاملين، فإن ذلك مما يقوّي العزيمة، ويعلى الهمة، ويثبت النفس، ويحملها على الاقتداء والتأسي، فإن لم يكن فالتشبه والمحاكاة. 9 - دوام النظر في وعد الله ورسوله للمؤمنين بالنصر والغلبة والتمكين في الأرض، وكيف حقَّق ذلك للمؤمنين أول مرة حين نهضوا، وما كانوا يوما من القاعدين، و سيظل هذا الوعد قائما إلى يوم الدين شريطة أن نكون مؤمنين حقا نرفض القعود، والذل، والهوان، ونمضي في الطريق عاملين لا نلوي على شيء إلا على مرضاة الله، ورسوله، فإن مثل هذا النظر مما يحرك النفوس الأبية الكريمة ويحملها على النهوض، وترك القعود. 10 - الانتباه إلى معوقات الطريق من الأزواج، والأولاد، والأموال، والسلطان، والجاه، ونحوها كي نأخذ لها الأهبة والاستعداد، ونعلم أن هؤلاء لن يغنوا عنا من الله عز وجل شيئا. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}(المنافقون). 11- المبادرة بعمل منهاج يستوعب الحياة بأشكالها وصورها، ويكون ملائما لطاقات وإمكانات الناس، ولا سيما هذا الصنف من القاعدين، على أن يكون كتاب الله وسنة رسوله هما الأساس والأصل في وضع مثل هذا المنهاج. فإن مثل هذا المنهاج من شأنه أن يقضي على كل لحظات الفراغ التي يمكن أن تستغل من قبل شياطين الجن وشياطين الإنس، ويفتح الباب أمام القاعدين للنهوض من جديد. 12- مجاهدة النفس على احترام وتوقير الآخرين لا سيما أهل الفضل والدين، بل مجاهدتها على ألا تحمل من التكاليف والواجبات إلا ما تطيق، نظرا لطول الطريق ومشقة التكاليف، فإن هذه المجاهدة من شأنها أن تحرك القاعدين فينهضون من جديد. 13- استقبال تغيير الموقع - ولا سيما من الأعلى للأدنى، من القيادة إلى الجندية- بفرح وسرور، وراحة بال، وهدوء خاطر، فإنه كلما علت منزلة الإنسان في المسؤولية كان الحساب أشد والمؤاخذة أعظم على حد قوله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (الأحزاب). 15- مواجهة وسوسة شياطين الجن والإنس، وإغراء الحياة الدنيا بأن في القعود سلامة وراحة وعافية بأن هذا هو الهلاك بعينه، كما قال سبحانه عن هؤلاء الذين تخلفوا عن تبوك فرارا من التكاليف، وإيثار للراحة، والسلامة والعافية: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة). {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(التوبة). ولعل مما يوضح أن القعود هو الهلاك بعينه، هذه الآثار عن أبى عمران - رضي الله عنه - قال: " كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة ابن عامر، وعلى أهل الشام رجل يريد فضالة بن عبيد رضي الله عنهما، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم، حتى دخل فيهم، ثم خرج علينا فصاح الناس إليه، فقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ياأيها الناس، إنكم تأولون هذه الآية على هذا التأويل، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه، فقلنا - فيما بيننا بعضنا لبعض سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إن أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل يرد علينا ما هممنا به، فقال:{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (البقرة: 195). فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا نصلحها، فأمرنا بالغزو، فما زال أبو أيوب رضي الله عنه غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل ". () ومن وجه آخر، عن أبى عمران رضي الله عنه قال: " غزونا المدينة - يعني القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه، مه، () لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب. الأنصاري رضي الله عنه: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا، ونصلحها، وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية ". () ومن وجه ثالث، عن أبى عمران رضي الله عنه قال: " حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال ناس: ألقى يده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام، وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تخفيا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال، والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا، وأولادنا فنقيم فيهم، فنزل فينا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد ". () 16- لا ينبغي أن يصرفنا عدم استجابة الآخرين إلى ما ندعوه عن الدعوة إلى الله، بل لابد من الاستمرار مع تخير أحسن الأساليب، ونكل أمر القلوب بعد ذلك إلى الله وهو سبحانه حين يرى منا الصدق والإخلاص، واستفراغ كل الأساليب والوسائل، لن يضيع علينا ثمرة جهدنا وعطائنا، وحسبنا الأجر والمثوبة: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (القصص: 80).
مختارات