جدتي.. والصندوق الخشبي
عندما كنا صغارا كانت جدتنا تقص علينا حكاية قرية المحرقة.. كانت جدتي تصر دوما على أن تقول لنا نفس الحكاية كل مرة...مما كان يجعلنا نتهرب منها كثيرا للعب.. فتجمعنا من جديد من خلال إغرائنا بإعطائنا بعضا من الحلوى ثم تعيد علينا سرد نفس الحكاية!!... فتحدثنا عن البيارات و أشجار البرتقال و الليمون واللوز والرمان التي كانوا يزرعونها و تصف لنا بيوت القرية المبنية من الطين و الفرن الذي كانوا يخبزون فيه و يطهون وعن بئر الماء وعن المخزن الذي يخزنون فيه القمح والشعير الذي يجنونه في موسم الحصاد وكيف يتعاون أهل القرية في هذا الموسم الهام، وتحدثنا عن الجيران وأسماء العائلات القاطنة في القرية و ما يجاورها من قرى أخرى وعن تفاصيل يومهم وكيف كانوا يقضونه وعن فصول السنة كيف تتقلب بقريتهم التي تبعد حوالي ستة عشر كيلومترا عن مدينة غزة و عن الحروب العالمية التي دارت في ذلك الزمان وعن حكم الأتراك.
كانت جدتي تردد كلمات تركية و بفخر أنها لا تزال تحفظها و حدثتنا مرارا عن الثعبان الكبير الذي تسلل يوما إلى البيت فقضى عليه جدي بعصا غليظة بكل شجاعة..كان جدي محمود " والد والدي " شيخ القرية وعالمها وكان قد تلقى العلوم الأزهرية في جامعة الأزهر بمصر فكان أول عالم في القرية..وكان مشهورا بجمال خطه - وربما كان لي نصيب في أن أرث بعضا من جمال خطه كما قالت جدتي- وحدثتنا أنه كان يقتني كتبا كثيرة وأنه كان يقضي الوقت الطويل في القراءة..فسألتها: ولكن يا جدتي لم نر أي صورة لجدي و أين هي كتبه..؟ كنت – ولم أزل - أحب أن أرى الكتب القديمة وأشم رائحتها وكنت أتوق إلى لمس كتب لمسها من قبل جدي وقرأها..أجابتني جدتي: إنه عندما قام اليهود بالهجوم على القرى الأخرى المجاورة و الأنباء التي كانت تصلهم عن الجرائم والمجازر التي يقترفونها أينما حلوا وكيف يقتلون الصغار والكبار ويغتصبون النساء ويدمرون البيوت على أصحابها..هربت النساء و الأطفال و العجائز و بقي الشباب والأقوياء من الرجال ليدافعوا عن القرية بالقليل من السلاح الذي يمتلكونه..كان جدي قد توفاه الله قبل عام النكبة بأعوام قليلة و دفن في القرية - كانت جدتي تجزم أنها لو تعود للقرية ستعرفها شبرا شبرا و ستدلني أين دفن جدي - أخبرتني جدتي أنهم قبل أن يرحلوا قاموا بجمع كتب جدي و صوره في صندوق خشبي وحفروا حفرة عميقة في الأرض و دفنوه..إلى أن تمضي أيام العدوان فيعودون لقريتهم و يحفروا من جديد لاستخراج الصندوق!!.
كانت جدتي التي فرت بصغارها كما غيرها من أهل القرية تظن أنه ما هي إلا أيام معدودة و تعود..و لكن الأيام صارت شهورا ثم سنوات إلى أن أتى اليوم الذي تجلس فيه الآن بين أحفادها تقص عليهم حكاية الأرض!!!...كانت تحدثنا بحرقة و حسرة عما مضى..وكنت أنا وبعمري الصغير لا افكر إلا بالصندوق الخشبي الذي فيه كتب جدي وصورته..و كنت دوما أحسب كم من السنوات مرت على دفنهم الصندوق وترى هل بليت الكتب والصورة تحت الأرض الآن؟؟..هل أكلتها الأرضة؟ هل تسرب إلى الصندوق ماء المطر فاهترأت واندثرت مع ذرات التراب؟ أم هل وجد اليهود الصندوق !! فأخذوا ما فيه ووضعوه في مكتباتهم؟ أم مزقوها و أحرقوها ليحرقوا أي اثر يدل على هوية الأرض؟؟.
بقي حلم إيجاد الصندوق إلى هذا اليوم..ربما هو حلم صغير ولكنه يمثل حلما اكبر هو العودة إلى قرية أجدادي..سأنقل حكاية جدتي إلى أولادي..لتبقى ذات الحكاية، وإن ملوا حكايتي بالكلمات سأرسمها لهم وأجعلهم يلونونها أو يرونها رسوما متحركة...ليبقى ذات الحلم الذي سيتحقق يوما لا محالة حتى لو لم يعثر على الصندوق...حسبي حينها أني أو أولادي أو أحفادي ستحتضن أقدامهم ذات الأرض التي احتضنت من قبل قدمي جدتي التي ما فتئت تقص ذات الحكاية إلى أن توفاها الله كي لا ننسى خريطة طريق العودة.. واحتضنت قدمي جدي الذي عشت أحلم أن أتصفح كتبه وأرى صورته!.
مختارات