اجلس بنا نؤمن ساعة
من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والغفلات.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يخلق ويبلى في قلب المسلم كما يخلق الثوب ويهترئ فقال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسْألُوا اللهَ تعالَى أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ)(صحيح الجامع).
والقلوب تصدأ مع طول الغفلة وقلة الذكر والانشغال بالدنيا، ونقص الطاعة والعبادة.. فإذا قاد التساهل والغفلة وقلة الديانة إلى الوقوع في المعاصي كانت المصيبة.
فإن المعاصي نكات سوداء تنكت في القلب فما تزال به حتى يسود تماما، وتكون كالران الذي يغطي القلب ويلف جوانبه، فتسبب قسوة القلب وظلمته ووحشته، حتى يقرأ القرآن فلا يتأثر قلبه، ويذكر بالله فلا تلين جوارحه، ويرى العبر والعظات فلا ينتبه إليها ولا يلتفت، ويأتي على سمعه القوارع فلا يتأثر قلبه ولا يقشعر جلده.. {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}(المطففين:).
وقد شبه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاصي وأثرها على قلب صاحبها بالسُّحب التي تأتي على القمر فتغطيه، وتخفت نوره فما يزال يخفت حتى يكاد أن يذهب ضوؤه، ففي الحديث الذى رواه أبو نعيم وصححه الألباني، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من القلوب إلا وله سحابة كسحابة القمر مضيء، إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء).
فإذا تراكمت سحب المعاصي على القلب حجبت نور الإيمان فيه كما تحجب السحابة الكثيفة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحب ظهر نور القمر لأهل الأرض مرة أخرى؛ كذلك إذا انقشعت سحب المعاصي والذنوب عن القلب ظهر نور الإيمان في القلوب.
فيحتاج المسلم أن تكون له محطات لتجديد الإيمان، ومحطات يتزود فيها بالإيمان أشبه بمحطات الوقود التي تتزود بها السيارات وإلا توقف العبد كما تتوقف السيارة عند نفاذ وقودها.
السلف يتواصون
لقد فهم السلف الكرام هذا المعنى وأدركوه ـ وهم أعلم الناس بالله ودينه وشرعه ـ ولهذا كانوا يتواصون فيما بينهم ويتناصحون بزيادة الإيمان فيقول بعضهم لبعض: " هيا بنا نؤمن ساعة "، وقد روى هذا البخاري في صحيحه معلقا، فقال: " وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَل: اجْلِسْ بِنَا نؤمن سَاعَةً ".. وروى ابن أبي شيبة من طريق الأَسْوَدِ بْنِ هِلالٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي مُعَاذٌ: " اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً، يَعْنِي: نَذْكُرُ اللَّهَ.
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أنه كان يَأْخُذُ بِيَدِ النَّفَرِ من أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: " تَعَالَوْا نُؤْمِنُ سَاعَةً، تَعَالَوْا فَلْنَذْكُرِ اللَّهَ وَنَزْدَدْ إِيمَانًا، تَعَالَوْا نَذْكُرُهُ بِطَاعَتِهِ لَعَلَّهُ يَذْكُرُنَا بِمَغْفِرَتِه ".
وروى البيهقي في " شُعب الإيمان " من طريق عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِصَاحِبٍ لَهُ: تَعَالَ حَتَّى نُؤْمِنَ سَاعَةً. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِمُؤْمِنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ اللهَ فَنَزْدَادُ إِيمَانًا.
قال ابن رجب: وقد رُوي مثله عن طائفة مِن الصحابة، فَرَوى زبيد، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: " هَلِمّوا نَزداد إيمانا، فيذكرون الله ".
وقال ابن حجر عن رواية البخاري الْمُعلَّقَة: وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرٍ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الأَسْوَدِ بْنِ هِلالٍ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ إِخْوَانِهِ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً، فَيَجْلِسَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَانِهِ.اهـ
معنى نؤمن ساعة
ومعنى هذه الوصية العظيمة الجليلة أن تعالوا بنا نجلس فنتذاكر ما يثبت الإيمان في قلوبنا، وما يزيدنا إيمانا مع إيماننا.. فيذكر بعضنا بعضا بآية بينة، أو سنة هادية، أو قصة هادفة، أو نجتمع على قراءة شيء من القرآن، أو تدبر آيات منه ترقق القلوب، وتوقظ الأسماع والأبصار، أو موعظة تذكر المرء بأن أنفاسه تعد، ورحاله تشد، وأن التراب ينتظر الخد، وأن الخلف على أثر السلف، وما عقبى الباقي إلا اللحاق بالماضي، وأن الموت الذي تخطانا لغيرنا يوشك أن يتخطى غيرنا إلينا.
وقد أمر الله المؤمنين بهذا الأمر بعد زمن قليل من دخولهم الإسلام فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:16).
روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: " ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلا أربع سنين.
قال القرطبي في تفسيره: " روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم بالخشوع فقالوا عند ذلك: خشعنا)... وقال أيضا: قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه.
أسباب زيادة الإيمان
فلا بد من تعهد القلب، ولابد من تجديد معالم الديانة وما اندرس من أمور ومظاهر الإيمـان فيه وزيادته من آن لآخـر، وذلك بتعويض القلب بمواد تقوية الإيمان بالله جل وعلا.. والتي من أعظم أسبابها:
قراءة القرآن، وذكر الرحمن، والصـلاة على النبي العدنان عليه الصلاة والسلام، ومدارسة سنة الحبيب المصطفى وسيرته العطرة وبقية سير المرسلين، وقصص الصالحين والعبَّاد والمتقين، والاستغفار، وزيارة القبـور، وزيارة المرضى، والمحافظـة على الصلوات في جماعة بالمساجد، والإنفاق على الفقراء والمساكين، والمسح على رؤوء اليتامى، والإحسان إلى الأرامل والمحتاجين والمحرومين.. ثم الإلحاح على الله تعالى وكثرة الدعاء والتوسل بأن يحبب إلإيمان إلى القلوب، ويثبته فيها وأن يزيده ويجدده، فإن الدعاء من أعظم الوسائل لذلك وقد أشار إليه النبي بقوله: (فاسْألُوا اللهَ تعالَى أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ)
مختارات