النسمة الثالثة: عندما يفرح الرب (2)
شروط التوبة:
الترك: ترك الذنب هو أعلى شرائط التوبة المقبولة، وما معنى توبة من يستغفر الله من شرب الخمر والكأس مستقرة بين كفيه؟! أو يعزم قلبه على ترك الكذب ولسانه لا شغل له سوى افتراء الكذب؟! أو من يبارز الملك بالمعصية ثم يطلب منه الأمان!!
إنها توبة.. لكن توبة الكذابين وسلوك غير أولي المؤمنين، المستهزئين بأحكام رب العالمين.
أستغفر الله من أستغفر الله من *** لفظة بدرت خالفت معناها
وكيف أرجو إجابات الدعاء وقد *** سددت بالذنوب عند الله مجراها
أما المؤمن فيقلع عن الذنب بتوبة، ويرجع إلى الله بدمعة، وتتجافى نفسه عن فراش المعصية، ويأنف قلبه من حياة الغفلة.
تنبيه: ولكن هل معنى ذلك أن التائب يقلع عن ذنبه فلا يعود إليه أبدا؟!
كلا، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنًا توابًا نسيًا، إذا ذكر تذكر» (صحيح كما في ص ج ص رقم [5735]).
أخي التائب.. اقرأ هذا الحديث مرة ثانية. تأمل وصفه لهذا العبد بالمؤمن!!.. نعم.. المؤمن فكما أن لكل جواد كبوة فلكل مؤمن ذلة، كل مؤمن له نقطة ضعف يتسلل منها الشيطان وإليه ينفذ، لكنها جولة وليست المعركة، وضربة وليست القاضية، فإذا جاءته الموعظة الصادقة والكلمة الهادية والنصيحة الراشدة يتذكر فيقلع، ويتوب فيرجع وكأن ذنبًا لم يقع، وخطيئة لم ترتكب.
صمام الأمان:
تذكر فلا يجاهر بالمعصية ولا يتبجح بالخطيئة، ولا يرد النصيحة، ولا يرتكب الذنب ضاحكًا حتى لا يدخلالنار باكيًا.
تذكر ففارق المعصية، وأهل المعصية، ومكان المعصية وكل ما يذكر بالمعصية.
تذكر فأدرك أنه لحظة وقوعه في الذنب هان في نظر الله وسقط من عينه، فأوقعه في الذنب، ولو عز عنده وعلا لوقاه ونجاه وأنقذه وهداه.
هل علمت الآن معنى قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. فور وقوع الذنب منهم، وبدور التقصير عنهم.
تذكروا قبل أن يرفع إبليس راية النصر فوق رؤوسهم.. فأخزوه قبل أن ينتفش، وأهانوه قبل أن يفتخر، وأردوه من شاهق إلى واد سحيق.. كل ذلك كان بأنهم...تابوا.
عندك مهلة ست ساعات!! قال رسول الله عليه وسلم: «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتبت واحدة» (حسن كما فى ص ج ص رقم [2097]).
ما هذا الكرم؟! نادى الله عز وجل الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فقال:{فَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
لطيفة: قال ميمون بن مهران: " الذكر ذكران: ذكر الله باللسان، وأفضل من ذلك، أن تذكره عند المعصية إذا أشرف عليها ".
تناسب طردي: يتناسب الإيمان طرديًا مع دوام تذكر الذنب فكلما قوي الإيمان كان الذنب حاضرًا في الأذهان، مستقرًا في الوجدان، وإذا ضعف نسي العبد ذنبه قبل مغادرة موقع الجريمة، وأضاف إلى الذنب وإلى الخطيئة خطيئة دون معاتبة نفس أو حتى تأنيب ضمير.
محمد بن سيرين.. يذكر ذنبه بفضل إيمانه أربعين سنة، قال رحمه الله: أصابني دين، فقلت: أصابني ذنب أذنبته منذ أربعين سنة. قلت لرجل: يا مفلس.
ومكحول.. يذكر ذنبه سنة فيقول: رأيت رجلا ساجدًا وهو يبكي فقلت: إنه يرائي، فحرمت البكاء من خشية الله سنة.
والفضيل.. يذكر ذنبه خمسة أشهر فيقول: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته وعليك أن تحدد منسوب الإيمان في قلبك في ضوء هذه العلاقة، وتسأل نفسك: كم من الأيام، بل كم من الساعات تظل متذكرًا ذنبك نادما على فعله؟!
عطايا في بلايا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (حسن كما في صحيح ابن ماجة رقم [3248]). يحرمك رزقه لتفتقر إليه وتذل بين يديه، فيورثك بهذا الفقر غناه، ويعطيك بهذا الذل عزه، فما أكرم الله، وما أحلم الله، وما ألطف الله حين سلبنا ليوقظنا، وحرمنا ليعطينا!! فمنعه.. صرخة تنبيه توقظ النائمين وتنبه الغافلين، والمؤمن يعلم هذا جيدا فيوقن أنه ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا صيد طير أو قطعت شجرة إلا بترك تسبيح، ولا نسيت سورة إلا بخطيئة «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» [الشورى:30].
احذر مقدمات الذنب: كل ما أدى إلى حرام فهو حرام، ومن تمام إقلاعك عن الذنب إقلاعك عن مقدماته.
إذا كنت من نفسك عدم صبرها عن النظر إلى الحرام، ثم دعيت إلى مكان تعرض فيه الفاحشة نفسها، وتبرز فيها المفاتن والعورات، فإن ذهابك إلى هذا المكان حرام.
إذا علمت أن راحة جسدك في أن ينام 6 ساعات مثلا، ثم سهرت سهرًا أدى بك إلى عدم إعطاء جسدك راحته، فضاعت منك صلاة الفجر من جراء ذلك، فإن هذا السهر حرام.
إذا رافقت صحبة سيئة إذا ذكرت الله ألهوك، وإذا نسيت أضلوك، وإذا خمدت في قلبك شهوة أحيوها، أو استيقظ فيك ندم قتلوه، بحيث يكون سيرك معهم مقدمة الحرام، فإن مصاحبة الرفقة الحرام حرام.
هى وصية الزاهد العابد إبراهيم بن أدهم حين قال لمن أراد التوبة: " من أراد التوبة فليخرج من المظالم، وليدع مخالطة من كان يخالطه وإلا لم ينل ما يريد ".
لطيفة: قالت زبدة أخت بشر بن الحارث: " أثقل شيء على العبد الذنوب، وأخف شيء عليه التوبة، فما له لا يدفع أثقل شيء بأخف شيء؟! ".
مختارات