الأصل السابع عشر : دليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه
الأصل السابع عشر: دليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه
رجل تضايقه زوجته بعض الشىء، ولكنه رجل صالح وراض وصابر ويقول: بذنوبى.. هذا الرجل الراضى يفاجأ بأن الله يرضيه، فيأتيه برجل يجلس بجواره ويقول له: يا أخى، لا أدرى ماذا أفعل مع زوجتى !!.. كلما أكلمها كلمة توبخنى وتهيننى.. فيقول صاحبنا: اللهم لك الحمد، إذا فأنا فى نعمة.
ورجل آخر كلما تضايقه زوجته يقول: يا رب، ماذا عملت فى دنياى حتى تبتلينى بهذه البلوى؟!، فيقعد الله له رجلا بجواره يقول له: يا أخى، سبحان الله ! لماذا تعذب نفسك؟! طلقها واسترح من مشاكلها !! ولو رضى لأرضاه الله.
قال سفيان: قال الحسن: من رضى بما قسم الله له وسعه، وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه.
وقال أبو عثمان الحيرى: منذ أربعين سنة ما أقامنى الله فى حال فكرهته، وما نقلنى إلى غيره فسخطته.
لقد حدث لأحد الإخوة موقف عجيب.. كان نائما بالليل فعطش فقام يشرب ورجع فوجد زوجته قد استيقظت وتقول له: أين كنت ؟ فقال: كنت أشرب فبكت وقالت له: لم لم توقظنى؟ لم لم تأمرنى؟ ما فائدتى إذن؟ !!
فالذى وضع هذا الرجل لهذا، ووضع هذه لهذا من؟.. الله.. فحينما ترضى يرضيك، وحينما تسخط يزيدك سخطا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط " [صححه الألبانى].. هذه هى القضية: أنك إذا كنت راضيا دائما، أرضاك الله وبعث إليك ما يرضيك ومن يرضيك.
والقصة التى مرت من خير الشواهد.. قصة حدير.. لما مشوا ووجد كل واحد منهم فى يده الهدية لم يقل: وأنا؟ ولم يرجع ليقول: أنا لم آخذ هديتى يا رسول الله.. ولو طلب لأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم.. لكنّ الرجل كان راضيا، فيكفيه أن الله ذكره.. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم به، أرسل إليه هديته بسرعة.. فحاز الهدية وذكر الله.. لرضاه.
سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه معروف أنه كان مستجاب الدعوة، وكان قد كف بصره فى آخر عمره، قال له ابنه: يا أبت أراك تدعو للناس ! هلا دعوت لنفسك أن يرد الله عليك بصرك، قال: يا بنى، قضاء الله أحب إلىّ من بصرى.
إخوتاه، هل أنتم راضون عن الله؟، هل فعلا قضاء الله وقدره أحب إليكم مما أنتم فيه من بلاء وفتنة وغربة؟.. إذا أردتم أن تتأكدوا، فالرضا عن الله يصح بثلاثة شروط ذكرها ابن القيم فى المدارج:
الأول: استواء النعمة والبلية عند العبد، لأنه يشاهد حسن اختيار الله له.
الثانى: سقوط الخصومة عن الخلق، إلا فيما كان حقا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالراضى لا يخاصم ولا يعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله، وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يخاصم أحدا، ولا يعاتبه إلا فيما يتعلق بحق الله، كما أنه لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شىء حتى ينتقم لله. فالمخاصمة لحظ النفس تطفىء نور الرضا وتذهب بهجته، وتبدل بالمرارة حلاوته، وتكدر صفوه.
والشرط الثالث: الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح، قال – تعالى – " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا " (البقرة: 273). قال ابن عباس: إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء، وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء.
ثم يبين رحمه الله أن منع الله – تعالى – لعبده عطاء، وابتلاءه إياه عافية فيقول:
" فإنه – سبحانه – لا يقضى لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، ساءه ذلك القضاء أو سره. فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء، وإن كان فى صورة المنع. ونعمة، وإن كانت فى صورة محنة.
وبلاؤه عافية، وإن كان فى صورة بلية. ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذّ به فى العاجل، وكان ملائما لطبعه. ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان فى حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة.
فالراضى: هو الذى يعد نعم الله عليه فيما يكرهه، أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، كما قال بعض السلف: ارض عن الله فى جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك. فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين، فتسقط من عينه ".
إخوتاه، قال الثورى يوما عند رابعة: اللهم ارض عنا. فقالت: أما تستحى أن تسأله الرضا عنك وأنت غير راض عنه؟، فقال: أستغفر الله. ثم قال لها جعفر بن سليمان: متى يكون العبد راضيا عن الله؟ قالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة.
ودخل رجل على أبى العالية فى مرضه الذى مات فيه، فقال: إن أحبه إلىّ، أحبه إلى الله – عز وجل.
وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: إن أعطيتنى قبلت، وإن منعتنى رضيت، وإن تركتنى عبدت، وإن دعوتنى أجبت.
وعن حفص بن حميد قال: كنت عند عبدالله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته، فسألته: ما الرضا؟ قال: الرضا: لا يتمنى خلاف حاله.
ونظر رجل إلى قرحة فى رجل محمد بن واسع فقال: إنى لأرحمك من هذه القرحة، فقال: إنى لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج فى عينى.
بشير الطبرى كان عنده مزرعة فيها أربعمئة جاموسة.. ثروة تقدر بمليون جنيه اليوم.. فهجم الروم يوما عليها، فساقوا الجواميس كلها، وكان عنده مئة عبد يحرسونها، فأرسل هؤلاء العبيد إلى بشير أن قد أخذت الجواميس، فركب مع ولد له إليهم.. فلما وصل إلى المزرعة لقيه العبيد يبكون.. يا سيدنا، يا مولانا: أخذت الجواميس، فقال: وأنتم أيضا: اذهبوا فأنتم أحرار لوجه الله.. فقال له ابنه: أفقرتنا يا أبتاه، فقال: اسكت يا بنى، إن الله أراد أن يبتلي رضائى به، فأحببت أن أزيده.. رحمك الله يا بشير.. إن الله يمتحننى أأرضى بقضائه أم لا، قلت له: لا، أنا راض جدا، وهذه الزيادة أيضا من أجلك يا رب.. اذهبوا فأنتم أحرار لوجه الله !!
العبـد ذو ضجـر والــرب ذو قــدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فى ما اختار خالقنا وفى اختيار سواه اللوم والشوم
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -:
" وثمرة الرضا: الفرح والسرور بالرب – تبارك وتعالى – ورأيت شيخ الاسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – فى المنام، وكأنى ذكرت له شيئا من أعمال القلب، وأخذت فى تعظيمه ومنفعته – لا أذكره الان – فقال: أما أنا فطريقتى: الفرح بالله، والسرور به. أو نحو هذا من العبارة ".
إلهى.. سسنا كيف شئت، فسوف نرضى.. إلهى:
إذا ارتحل الكرام إليك يوما ليلتمســوك حـالا بعد حــال
فإن رحالنا حطّت لتـرضــى بحلمك عن حلول وارتحال
أنخنا فى فنــائـك يـا إلـهــى إليك معرضين بلا اعتـــدال
فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا يـا ذا الـمعـالـى
يقول ابن الجوزى – عليه رحمة الله وبركاته – فى " صيد الخاطر " تحت عنوان " فصل: تذكر أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ":
" من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله – عز وجل – فى أفعاله، وأن يدرى من أين ينشأ الرضى، فليتفكر فى أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإنه لمّا تكاملت معرفته بالخالق – سبحانه – رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف فى مملوكه، ورأه حكيما لا يصنع شيئا عبثا، فسلم تسليم مملوك لحكيم، فكانت العجائب تجرى عليه ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف.
ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح.
هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ الآفاق فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر فى دار الخيزران، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه، وشق السلى على ظهره، وهو ساكت ساكن.
ويخرج كل موسم فيقول: من يؤوينى، من ينصرنى؟
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا فى جوار كافر، ولم يوجد من الطبع تأفف.
إذ لو كان غيره لقال: يا رب، أنت مالك الخلق، وقادر على النصر، فلم أذل؟
كما قال عمر رضى الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق؟ فلم نعطى الدنية فى ديننا؟!!
ولما قال هذا، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنى عبدالله، ولن يضيعنى "، فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما.
فقوله: إنى عبدالله، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بى ما يشاء.
وقوله: لن يضيعنى، بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئا عبثا.
ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر، ولله خزائن السماوات والارض.
وتقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته ويمثل بعمّه وهو ساكت.
ثم يرزق ابنا ويسلب منه، فيتعلل بالحسن والحسين فيخبر بما سيجرى عليهما.
ويسكن بالطبع إلى عائشة رضى الله عنها، فينغص عيشه بقدفها.
ويبالغ فى إظهار المعجزات، فيقام فى وجهه مسيلمة والعنسى وابن صياد.
ويقيم ناموس الامانة والصدق، فيقال: كذاب ساحر.
ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان، وهو ساكن ساكت.
فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر.
ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع فى كساء ملبد وإزار غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ.
هذا شىء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغى نبى قبله، ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت.
هذا آدم عليه السلام: يباح له الجنة سوى شجرة، فلا يقع ذباب حرصه ألا على العقر. ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول فى لمباح: " مالى وللدنيا " !
وهذا نوح عليه السلام: يضج مما لاقى، فيصيح من كمد وجده " لا تذر على الارض من الكافرين ديارا "
(نوح: 26)، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ".
هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم:، يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائلا:
" إن هى إلا فتنتك " (الأعراف: 155)، ويوجه أليه ملك الموت فيقلع عينه.
وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول: " إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عنّى "، ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى.
هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: هب لى ملكا، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ".
هذا - والله – فعل رجل عرف الوجود والموجد فماتت أغراضه وسكنت اعتراضاته فصار هواه فيما يجرى ".
فإذا رضيت يا عبدالله، فاعلم أن الله راض عنك.. فدليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه.. فارض عن الله تصل إليه.. وتذكر دائما أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
مختارات