ملك مصر وحكمة تكليمه لسيدنا يوسف
مما يلفت النظر في قصة سيدنا يوسف في بداية لقائه -عليه السلام- بملك مصر أن الله ذكر لفظة: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ)
رغم أنه من المفهوم أنهما لابد وأن يتحدثا عند أول لقاء، ولكنلأن القرآن العظيم يحوي جميع أوجه البلاغة بأفضل صورها، ولأن الله لا يذكر في آية ولا كلمة ولا حرفا في كتابه الحكيم إلا لحكمة
فمن المؤكد أن الله يريد أن يلفت نظرنا لفائدة مهمة في هذه الجملة (فَلَمَّا كَلَّمَهُ)
وهي ما يسمى في العرف الحديث بمقابلة العمل أو Interview
فالملك رغم كونه من غير المسلمين آنذاك إلا أنه كان ذكيا وحكيما في إدارة شئون بلده
فبالرغم من أنه كان ينوي أن يجعل سيدنا يوسف من خاصته والمقربين إليه
وهذا مفهوم من قوله تعالى: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)
إلا أنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن كلمه واختبر أمانته وصدقه ورجاحة عقله، وهل له خبرة في مجال معين أم لا …الخ
وبعد أن تأكد من كل هذا: (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)
وكأن القرآن يريد أن يلفت أنظارنا إلى فائدة مهمة وهي وضع الرجل الكفء في العمل المناسب له
وترك ظاهرة الوساطة والمحسوبية والمعارف في شغل الأعمال
هذه الظاهرة التي تفشت في أوساط بلاد المسلمين أكثر من غيرها من البلاد
فلو ان كل عمل في أي مجال من المجالات شغله من هو كفء له ومتمكن فيه، مع مصاحبة ذلك لصفة الأمانة؛
لحاز كل رجل في عمله ثقة من حوله ومن يرأسه
ولصارت بلاد المسلمين هي أكثر بلاد العالم تقدما في شتى المجالات
يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره:
بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشفَّ خفَّة يوسف على نفسه؛ وتيقَّن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز؛ غريزة الجنس.
وتيقن من أن يوسف تقبّل السجن، وعاش فيه لفترة طالتْ؛ وهو صاحب عِلْم، وقد ثبت ذلك بتأويل الرُّؤيا؛ وقد فعل ذلك وهو سجين، ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته، أو بعد إثبات البراءة.
ولكلِّ ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله: { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54] وذلك ليسُدَّ باب الوِشَاية به، أو التآمر عليه. ومكانة ” المكين ” هي المكانة التي لا ينال منها أيُّ أحد.
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما تكلَّم عن الوحي من جبريل عليه السلام قال:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }[التكوير: 19-20] فالمعنى: أن يوسف عليه السلام أَهْل ٌللثقة عند الحاكم؛ وهو الذي سيُنفذ الأمور، وله صِلَة بالمحكومين، وإذا كان هو المُمَكَّن من عند الحاكم؛ فهو أيضاً أمين مع المحكومين.
والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يُرجِّح الحاكمُ من يراهم أهلَ الثقة على أهل الخبرة والأمانة، فتختل موازين العدل.
وعلى الحاكم الذكيّ أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معاً: أمانة على المحكوم؛ وثقة عند الحاكم. وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله.أهـ
مختارات