الَّلبِنة العاشرة
إنَّ ناشئةَ اللّيل هي أشدُّ وطئاً و أقومُ قيلا..
{ إنَّ ناشِئَةَ اللّيل } أي كلّ ما يَنشأ من أوقاتِ اللّيل.. و َعبَّرَ القرآنُ بالمُفردة القرآنية { ناشِئَةَ } إذ المَحَ للمعنى الخَفيّ ؛ حيثُ ناشِئَةَ اللّيل تُنشؤكَ و تُربّيك كأنَّكَ طفلُ اللّيل الوَليد..!
تَنشأ أزمِنَةُ اللّيل زَمَناً زَمَناً لتَنشىء في عُمرك أوسِمَةً تتهيّءُ لِزمنِ الفِردوس الأعلى..
بعضُ القومِ يسيلَ عُمرهم في اللّيل و النَّهار و أنت تَلِدُ كلّ ليلةٍ الفَ حياة ؛ يبعثُكَ ربُّك بعدها { مقاماً محموداً } !
لقد وصّف القرآن اللّيل بأنّهُ { أشّدُ وطئَاً } أي أثقلُ على النّفس.. و في معنىً آخر أثبتُ في صناعة الخير !
رُبّما كان هذا بعضاً من معنى قول العلماء أن الصّوت يُعيدٌ بِناءَ الخلايا من الداخل.. أو ربّما برمجتها ؛ إذ يتفاعلُ الدّاخل الإنسانيّ مع ذَبذبات الإيقاعِ و التّرتيل.!
و أنَّ إيقاع الكلمةِ ينغمسُ في الخليّة فيُشكِّلُها و يُنشِؤُها كطفلٍ يشتدّ على غناء أُمّه !
هكذا إذن يبدو المعنى.. حيث يُمسك القرآن كل كَلِمة مَتلوَّة من صوتِك فيملَؤُها حواراً في داخلك.. و يخلِقُ بها أحاسيسَكَ و أفكارك و يصنَعُك من جديد.
تنغمرُ الرّوح في قيام الليل في عُذوبةٍ عجيبة ؛ حتى كأنّها تتوسَّلُ لنهاية اللّيل أن لا يأتِ..
فثمةُ سقي لا تكون إلا في هدأه الليل !
ماذا يصنعُ القرآن و هو يسحَبُك من فِراشك و لذيذِ اختيارك !.. إنّه يصنعُ الإنسانَ الجديد..
و ما أشقّ أن تصنع إنساناً !
بل ما أشقّ أن تكونَ إنساناً.!
ما أشقّ أن تُطيق نفسك البشرية حَملَ { فُجورَها و تقواها } بكلّ تناقُضِها..
ما أشقّ ان تمتَلِكَ القرارَ للاختيارِ بين شحوبِ اللّيل و بين شُعلَةِ النّور الأبديّة !
ما أشقّ الإختيار بين شهوتك التي تَلتَهِمُك و بين لحظةِ الشّوق في روحَك الى طيّفٍ رَفيف ينبِضُ نوراً يمسحُ عنكً أثقالاً ؛ تغيبُ به في دندنَةِ الملأ الأعلى..!
ما أشقّ أن تقدر أن تبكي على ظلامِ قلبِكَ حتى يُضيء !
أن تقدِرَ أن لا تودِعَ قلبك في غير خزائن السّماء !
يا هذا.. شقيٌّ من يَهَبُ قلبه لغير الله.. شقيٌّ من يَرهَنُ قُلبه لغير الله..
هاهو سبحانه في قيام الليل يعلِّمُكَ الإرادةَ و يعلِّمكَ كيف تمتَلِكُ بها الحريّة التي توقِفُكَ على المسؤولية..
هاهو يَهبك ريشةً تمحو بها اعوجاجَك.. تكتبُ بها اختياراتك.. ترسم بها ألوانَ سعيِك !
يفرضُ القيامَ على محمّد و أصحابه عاماً كاملاً ؛ فهذه هي التَهيئة الجادّة للتكليف الآتي { إنّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً } !
فالرّسالة تحتاجُ مثل شخص - يحيى - حتى يتقبّل الأمر { خُذ الكِتاب بقوّة }..
والشّريعةُ تحتاج { صبراً جميلاً } في تكاليفها لا يصنعهُ الا مدرسة { قُم اللّيل إلا قَليلاً }.!
و لذلك كُلّه كان من دَيدَن بعض الصالحين أنّه اذ ابتدأَ الطّريق أخذَ نفسَهُ بالعزيمةِ في القيام و القرآن عاماً كاملاً، يدرِّبُ نفسه لاحتمال القول الثّقيل !
مختارات