تعجلوا بالحج
أيُّها المسلمون:
يقترب منَّا هذه الأيام موعدُ فريضةٍ من فرائض الله التي افترضها سبحانه على عباده، وحثَّ عليها في كتابه، كما حثَّ عليها رسولُه وندب إليها أمَّته، هذه الفريضة هي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، التي هي رُكن من الأركان التي قام عليها بناء الإسلام العظيم، وركيزة من الرَّكائز المهمة لهذا الدِّين الحنيف؛ يقول جل جلاله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وقد بين الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أن الإسلام مبني على أركان خمسة، لا يقومُ إلا بها، ولا يكمل إلا بوجودها، ومنها الحجُّ إلى بيت الله العتيق؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)؛ متفق عليه.
عباد الله:
الحَجُّ والعُمْرَةُ من أفضلِ العباداتِ وأجلِّ القُرُبَاتِ، بهما تُحَطُّ السيئات، ويَثقُلُ ميزانُ العبدِ بالحسناتِ، ويُرفَعُ في الجنةِ إلى أَعلى الدرجاتِ، يرجِعُ أقوامٌ من تلكَ المشاعِرِ المقدَّسةِ إلى بيوتِهم ليس عليهم ذنوبٌ، كيومِ ولدتْهُم أمهاتُهُم؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَن حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ، رَجَعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمُّه)، بل إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يشير في حديث آخر إلى أنَّ الحج من بين أفضل الأعمال عند الله، وكلنا يتطلع إلى القيام بالأعمال التي فضلها الله سبحانه وأعلى شأنها حتَّى ننال أجرها وثوابها؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)؛ أخرجه الشيخان.
أيُّها المسلمون:
الحَجُّ رُكنٌ من أَركان الإسلام ومبانيه العظام، دَلَّ على وجوبه الكتاب والسُّنة والإجماع، فمن جحده أو أبغضه بعد البيان كَفَرَ، يُستَتَابُ على ذلك، فإِنْ تاب وإلاَّ قُتِل، ومن أقر بالحج وتهاون في فعله مع قُدرته عليه، فهو على خطر؛ فإنَّ الله قال بعد إيجابه على الناس: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]؛ يقول القرطبي عن هذه الآية: " هذا خرج مخرج التغليظ، ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أنَّ من مات ولم يَحج وهو قادر، فالوعيد يتوجَّه عليه " ؛ انتهى، وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: (يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم).
عباد الله:
الحج واجب على كل مسلم مستطيع مرة واحدة في العمر، فمتى استطاع المُسلِمُ الحَجَّ وتوفرت فيه شروط وجوبه، وجب أن يُعجِّل بأداء فريضة الله فيه، ولم يجز له تأخيره ولا التهاوُن به؛ قال العلامة ابن باز رحمه الله: " من قدر على الحج ولم يحج الفريضة وأخَّره لغير عذر، فقد أتى منكرًا عظيمًا ومعصية كبيرة، فالواجب عليه التوبة إلى الله من ذلك والبدار بالحج "، وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟ فأجاب: " الصحيح أنه واجب على الفور، وأنه لا يَجوز للإنسان الذي استطاع أن يحج بيت الله الحرام أنْ يؤخره، وهكذا جميع الواجبات الشرعيَّة، إذا لم تقيد بزمن أو سبب، فإنَّها واجبة على الفور ".
فيا أيُّها المسلمون:
يا من وجب عليهم الحج، بادروا به ولا تؤخِّروه، وتأمَّلوا في حال الأجداد كيف كانوا يحجون؟! وكيف ساروا على أقدامهم وامْتَطوا رواحِلَهم شهورًا وليالِيَ وأيامًا؛ ليصلوا إلى البيت العتيق، ويقضوا تَفَثهم، ونحن ولله الحمد في نعم من الله ومنن، طرق واسعة وسيارات مريحة، وأرزاق مُيسَّرة وثَمرات متوفرة، لكن منَّا من يلبس عليه الشيطان ويفتعل له الأعذار، إمَّا بشدة الحر أو قوة الزحام أو كثرة الحجاج، وكأنَّه لن يَحج حتى يرى الطريق له وحدَه، والمشاعر قد خلت من عباد الله سواه.
عباد الله:
لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالحج؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (تَعَجَّلوا إلى الحج - يعني: الفريضة - فإنَّ أحدكم لا يدري ما يَعْرِض له)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أراد الحج، فليتعجل، فإنَّه قد يَمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)، ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على الترغيب، فحذر أولئك الذين لم يحجوا وهم مقتدرون على ذلك من الوعيد الذي سيلحقهم إنْ لم يستجيبوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يَموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، وقال: (من مات ولم يَحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سُلطان جائر، فليمت أي الميتتين شاء: إمَّا يهوديًّا أو نصرانيًّا)، ومما أثر عن السلف أنَّهم كانوا يبادرون لتأدية فريضة الحج، ويحذرون من تأخيرها، اسمعوا لما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فلينظروا كلَّ من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين "، هذا قول عمر، وأما علي صلَّى الله عليه وسلَّم فقد قال: " من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى البيت ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا ".
أيُّها المسلمون:
هناك في بقاع الأرض المختلفة مسلمون مثلكم يَجمعون الدِّرهم إلى الدرهم، والدينار إلى الدينار، وكل مُناهم أن تكتحل عيونهم برُؤية كعبة المسجد الحرام، حتى إذا جاء الموسم وأذن المؤذن بالحج ولمَّا يكتمل الجمع بعدُ، تولَّوا وأعينهم تفيض من الدَّمع حزنًا ألا يجدوا ما يبلِّغهم بيتَ الله وكعبة الله، مع أنَّهم معذورون، بل مأجورون من الله على نياتهم، ولسان حالهم:
إنَّ كثيرًا منَّا عبادَ الله:
في هذه البلاد وفي غيرها تجاوز العشرينَ سنةً أو الثلاثينَ أو الأربعينَ، أو ربَّما الخمسينَ، ولم يَخْطُر ببالِه أن يَحُجَّ بيتَ اللهِ الحرامَ، أو نَوى لكنْ تكاسل وأَخَّرَ وسوَّفَ، وقد تكرَّمَ اللهُ عليه بصحةٍ في الجِسمِ، وعافيةٍ في البدنِ، وسَعةٍ في المال، وأمنٍ في الوطنِ، ثم هو يُسافِرُ ويتنزه إلى مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاءَ موسمُ الحَجِّ حضرت الملهيات والمثبِّطاتُ، وكأَنَّ الحجَّ ليس ركنًا من أركان الإسلام العظام، أو كأنَّه غيرُ مكلَّفٍ أو غيرُ مخاطب بقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
عباد الله:
كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟! كيف يبخل على نفسه في أداء هذه الفريضة، وهو يُنفق الكثير من أمواله فيما تهواه نفسه؟! وكيف يخاف على نفسه من التعب وهو يرهق نفسه في أمور دُنياه؟! وكيف يتثاقل عن فريضة الحج وهو لا يَجب في العمر سوى مرة واحدة؟! وكيف يتراخى ويُؤخر أداءه، وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصولَ إليه بعد عامه؟! فإلى كل من فرط في أداء فرضه وقصَّر، وإلى كل من تيسر له الوصول إلى البيت، فسوَّف وأخَّر، عما قليل سوف يُسارع المشمِّرون ويتركونكم، ويَمضي المجدُّون ويُخلِّفونكم، ويرتحل حجاج بيت الله العتيق وأنتم تبقون أُسارى قيودِ التعويق، فهل قعدت بكم الهمم الفاترة؟! وهل آثرتم المساكن الطيبة والمراتب الفاخرة؟! هل رغبتم في عَرَض الدُّنيا، ونسيتم الآخرة؟!
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].
الحج عبادة جليلة وفريضة عظيمة، تشمل أنواعًا من التقرب إلى الله تعالى في غاية من الذل والخضوع والمحبة له سبحانه في أوقات ومناسك معظمة ومواطن مُحترمة، يبذل المسلم من أجل شهودها النفس والنفيس، ويتجشَّم الأسفار ويتعرض للأخطار، وينأى عن الأوطان، ويفارق الأهل والأولاد والإخوان، كل ذلك محبة لله - تعالى - وشوقًا إليه، وطاعة له وتقربًا إليه؛ ولذلك يتكرم الله - تعالى - على عباده، فيجازيهم على هذا الإحسان بالإحسان، الذي صحت به الأخبار وفصلته الآثار، روى ابن ماجه في سننه عن عبدالله بن عمر أن رسول الله قال: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)، وروى ابنُ خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث عبدالله بن عباس أنَّ رسولَ الله قال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خَبَثَ الحديد والذهب والفضة)، فبُشراكم يا حجيج بيت الله، وهنيئًا لكم، بشراكم إجابة الدعوة، وهنيئًا لكم سقوط الذنوب، فلا يبقى على الجسد بعدها من درن.
أَمَا إنَّ فضل الله الواسع، فلم يقف عند حدِّ الدنيا، بل تعدَّاها إلى الآخرة؛ روى الشيخان من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله قال: (الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنَّة)، فيا لكرم الله! جنة عرضها السموات والأرض تنال بحَجَّة مبرورة، اللهم إنَّا نسألك باسمك الأعظم الفردوسَ الأعلى من الجنة.
عباد الله:
إنَّ مداومة الحج من العمل المرغَّب فيه المحبوب إلى الله - تعالى - ففي الصحيحين: (العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، وأخرج ابنُ حبان بسند صحَّحه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري: " إنَّ الله - تعالى - يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تَمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلَيَّ - لمحروم "، فإن كان من لا يَحج في كل خمسة أعوام محرومًا، فما عسانا نقول لمن لم يحج حج الفريضة، مع تيسر السُّبل وسهولة السفر وقصر المدة؟! أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُون، وليبادر من فرَّط في هذا الأمر قبل فوات الأوان، فكم مُفرِّطٍ قد ندم! وكم متهاونٍ فوجئ بحبل عمره قد انصرم!
أيها المسلمون:
يا من تريدون أداء فريضة الحج، تعلَّموا الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الحج، فإن دراستها وتفهمها فرضُ عين بالنسبة لكم، واحرصوا على تطبيقها والامتثال لها؛ ليتقبل الله منكم هذه الفريضة، وسائر الطاعات.
ثم صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
مختارات