الأسرة المسلمة في الحج
الحمد لله الذي أرسل إلينا خير رسله، وأنزل علينا خير كُتبه، وشرع لنا فيه أفضل شرائع دينه، وجعلنا من خير أُمة أُخرجت للناس، فله الحمد في الأُولى والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون.
وبعد:
فلقد فرض الله علينا الحج وجعله من أركان دينه الإسلام الذي ارتضاه للناس دينًا، وجعل في هذه الشعيرة الأسرار والعبر، والدروس والحِكَم، والتربية والتزكية، والفوائد الممتعة، والآداب النافعة، والوصايا الجامعة، والمواقف الرائعة، فالحج هو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات، ينتقل فيها المسلم بقلبه وبدنه وماله إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين، ونيل المغفرة والتوبة من ولي الصالحين رب الخلائق أجمعين، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
فما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ بالألباب.
أخي...أختي:
هل شممتم عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟ هل رأيتم لباسًا قط أجلّ من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيتم رؤوسًا أعز وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصِّرين؟ هل مر بكم ركب أشرف من ركب الطائفين؟ هل هزكم صوت أطرب وأروع من تلبية الملبين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟.
يا لجلال الموقف وروعة اللقاء، وعظمة الخُطى في القدوم على الحي القيوم، وهي راغبة في توبة مقبولة ورجعة إلى الله موصولة، وجنة مأمولة، بعد مغفرة لذنوب قد سلفت، وخطايا أحاطت.
جاء وفد الحجيج في موقف بهيج يعلن البراءة من الشرك وأهله، ومن دماء سُفكت، وأموال حُرِّمَتْ، وتُرَحِّب بأفضل ما قال النبيون: «لا إله إلا الله»، وتكبر مع أغلى دم وأزكاه، دم أريق في سبيل الله، وقد عادت الذكريات لوفد الحجيج بإمامهم الذي يأخذون عنه مناسكهم، وكأنهم ينظرون إليه، صلوات ربي وسلامه عليه، وهو يتقدم ذلك الجمع الغفير، وقد أنار الله به الأفكار، ووضع به الآصار، وغسل به الآثام والأوزار، إنه النبي المصطفى المختار، أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم سعت لله وطافت، وأعذب ثغر نطقت شفاهه وكبرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، انظر خطاه وهو يتنقل بين المشاعر، يهتف إلى الملأ الغفير الطاهر، في مظهر من أجَلّ مظاهر التقوى للرب القوي القاهر، بعبارات ناصعة... لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
المسلم في الحج
أخي المسلم... أخي المربي، أخي راعي البيت المسلم، كن في حجك لله خاضعًا، بنبيك مقتديًا وسامعًا وطائعًا، أما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «خذوا عني مناسككم». (رواه مسلم)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني، خذوا عني». (رواه مسلم). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «اتركوني ما تركتكم، فإذا حدثتكم فخذوا عني، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم». (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فلعلك يا أخي بعنايتك بالخضوع والإذعان والتسليم والامتثال والاستقامة، وترك الجدال تنال من الله يوم القيامة شرف الرؤية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، فالحسنى: الجنة، والزيادة: رؤية الله - عز وجل -، كما تنال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحبة، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة النبي محمد، في أعلى غرف الجنة، جنة الخلد». (مسند أحمد، صحيح بشواهده).
أخي المسلم:
تذكر وأنت في حجك يوم أتم الله - تعالى -على المؤمنين نعمته، وأكمل لهم دينهم، وأنزل الآية التي تدل على ذلك: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر - رضي الله عنه -: إني لأعلم أي مكان أنزلت؛ أنزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة يوم جمعة. (رواه البخاري في صحيحه).
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن وكيع قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾... يوم الحج الأكبر، فبكى عمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك؟ » قال: يا رسول الله، أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل فإنه لم يكمل قط شيء إلا نقص، قال: «صدقت». (جـ7/34408).
يا لنفس عمر - رضي الله عنه -، نفس مؤمنة تكاد تستشف الحقائق من وراء الحجب، ويتعجب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - من فقه عمر - رضي الله عنه - وفهمه الصائب فيجيبه في إعجاب وإكبار واعتراف: «صدقت». صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدق ولي الله عمر - رضي الله عنه -، فلقد حدث ذلك النقص الذي لا يعوض أبدًا، وأول ذلك النقص وفاة صاحب الرسالة ومبلغ هذا الدين - صلى الله عليه وسلم -، فقد مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا اليوم الذي تنزلت فيه هذه الآية بواحد وثمانين يومًا، كما قال ابن جرير - رحمه الله -.
أخي الحاج:
كن رحيمًا بأهلك، إن كانت بصحبتك في الحج، طيِّب خاطرها وأحسن صحبتها، وأكرم رفقتها، فقد حجت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - مع سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، وفجأة جاءت تبكي وتنحدر دموعها على خديها حزنًا على فوات العمرة التي فاتتها بسبب ما اعتراها مما كتب الله على بنات آدم من الحيض الذي عاقها عن الطواف بالبيت، فيأبى - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يجبر خاطرها ويطيب قلبها حتى ترجع من الحج مسرورة، فيأمر أخاها عبد الرحمن أن يذهب بها إلى التنعيم، فتهل من هنالك بعمرة، وهذا من حرصها وحبها للطاعة، فقد شق عليها أن يرجع الناس بعمرة وحج، وترجع هي بحج فقط، - رضي الله عنها -.
المرأة المسلمة في الحج
كم للمرأة المسلمة من موقف في الحج لها فيه ذكرى، وكم من مقام لها فيه معنى، هل السعي بين الصفا والمروة إلا ذكرى من ذكريات أمنا هاجر - عليها السلام -؟ وهل فاض ماء زمزم إلا بفيض من إيمانها ودعائها وندائها واستشرافها لترويَ عطشها وعطش ابنها؟ يا من قصدتِ البيت الحرام لأداء ركن من أركان الإسلام، أما طاف بخيالِكِ وعقلِكِ وأنتِ تطئين بقدمكِ ثرى مكة، الصورة المشرقة للمرأة المؤمنة الواثقة بربها- هاجر التي جاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل، وأسكنها بواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، وهي ترضع ولدها، وليس بمكة يومئذ أحد، ولا ماء، فوضعهما إبراهيم هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قَفَّى منطلقًا وتركهما، وهي تتبعه وتقول له: يا إبراهيم؛ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به إنس ولا شيء؟ وأعادت عليه ذلك مرارًا وهو لا يلتفت إليها، فقالت: يا إبراهيم؛ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت كلمتها الرائعة الخالدة الناصعة: إذًا لا يضيِّعنا. فهل رأيتِ أختنا المؤمنةَ قوة الإيمان وقوة الثقة بالله والاعتصام به والتوكل عليه والتسليم له - سبحانه -؟
أما طاف بخيالك أيتها المسلمة صورة مشرقة لأمك - أم المؤمنين - خديجة - رضي الله عنها - وهي تتابع في لهفة وشوق مسيرة الدعوة وثمرات الرسالة؟ أما تراءت أمام ناظريك لمحة ممتعة لأسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - ذات النطاقين التي كانت تقطع المسافات الطويلة في وهج الشمس والظهيرة تحت لهيب الشمس المحرقة حاملة الزاد من بطن مكة إلى غار ثور حيث يأوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوها أبو بكر الصديق، وقد أرادت أن تربط الزاد لهما فلم تجد ما تربطه به، فشقت نطاقها نصفين لتربط الزاد بنصف، وتنتطق بالنصف الآخر، فسميت بذلك «ذات النطاقين»، تلك المرأة التي أسهمت في نصرة الحق وفي إتمام خطة الهجرة، - رضي الله عنها - وأرضاها.
أختاه:
أما تذكرت وأنت بخيمة الحج أمك - أم المؤمنين- عائشة - رضي الله عنها - حين قدمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وهي تخبر أنها كانت مع أخواتها من المؤمنات الصحابيات المحرمات يكشفن وجوههن إحرامًا، فإذا مر بهن الركبان والرجال الأجانب أسدلن الأغطية على وجوههن؟ أما تذكرت ذلك فسرتِ على نهجها وفعلت فعلها؟ فإنك لا ترضين لنفسك أن تأتي للحج للبحث عن المغفرة فتكوني عونًا لإبليس على فتنة المؤمنين وإغواء المحرمين بإظهار محاسنك ومفاتنك أمام المسلمين، فتبوئي بالإثم العظيم، ويعود الناس بذنوب مغفورة، وأعمال مشكورة وترجعين أنت آثمة مأزورة، ومعاذ الله فأنت لا ترضين ولا نرضى لك ذلك، فأنت أبعد وأعقل عن هذه التصرفات الخاطئة، أنت من المحتشمات الحييات العفيفات.
أختاه المربية:
لا مانع من اصطحاب بعض أطفالك للحج إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فقد ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة خرجت حاجة رفعت صبيًا لها فقالت: يا رسول الله؛ ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر». (مسلم). وفي رواية لأبي داود عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالروحاء فلقي ركبًا فسلم عليهم فقال: مَن القوم؟ فقالوا: المسلمون، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من مَحَفَّتها (هودجها)، فقالت: يا رسول الله؛ هل لهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر». (صحيح).
شباب المسلمين في الحج
كثير من الناس يؤجل فريضة الحج حتى يشيب، فليس مناسًا في تقديره أن يحج وهو صغير، هذا إذا كان في نيته الحج أصلاً، وإن كادت هذه النماذج أن تنقرض، لكن بقي منها بقية.
لكننا نرى شباب السلف رضوان الله عليهم يعتنون بذلك في شبابهم فيسارع أحدهم إلى أداء ذلك الركن العظيم وهو في شبابه وقوته.
عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه - قال: جاء غلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أريد هذه الناحية؛ الحج، قال: فمشى معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «يا غلام؛ زودك الله التقوى، ووجهك في الخير، وكفاك الهم». فلما رجع الغلام سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه إليه وقال: يا غلام، قُبِل حجك، وكُفِّر ذنبك، وأخلف نفقتك». (رواه ابن خزيمة في صحيحه، والترمذي 5/3444، وقال: حديث حسن غريب).
وفي رواية عند الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل وقال: يا رسول الله؛ إني أريد سفرًا فزودني فقال - صلى الله عليه وسلم -: «زودك الله التقوى وغفر ذنبك، ويسَّر لك الخير حيثما كنت». (صحيح الجامع: ح3579).
وكذا فإن محمد بن أنس الظفري، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن أسبوعين، فمسح رأسه وحج به حجة الوداع وهو ابن عشر سنين. (معرفة الثقات 3/367).
فاللهم ارزقنا حج بيتك الحرام، والحمد لله رب العالمين.
مختارات