كيف نستشعر مناسك الحج والعمرة ؟
قال تعالى: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتقون يَا أُولِي الْأَلْبَابِ "
فرض الله سبحانه وتعالى الحج على كل مسلم بالغ، عاقل، قادر، ليكون في معية الله سبحانه وتعالى قلبا وقالبا، وليتعرض لبركة وكرامة ذلك المكان وذلك الزمان ولو لمرة واحدة في العمر، وليتمكن من أداء هذه الفريضة وهو يعيش معانيها، ويعي ما يفعل ويستشعر الحكمة من كل نسك يؤديه ليكسب خيري الدنيا والآخرة.
الحج المبرور هو الجسر الذي يوصل من عبره بحق إلى جنات النعيم تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم “ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ”
وإذا ما تفكرنا قليلا لوجدنا أن الحج هو الركن الوحيد الذي يتضمن جميع العبادات والأركان الأخرى، ففيه التوحيد لله والإقرار بالعبودية له وحده، وفيه الصلاة، والصيام، والزكاة، وفيه الصدقة والذكر والدعاء وحسن الخلق والتسامح وغير ذلك من العبادات.
ولقد خص الله الحج دون غيره من أركان الإسلام بسورة كاملة في كتابه الكريم سماها به وهي ”سورة الحج“.
وهي من أعاجيب السور، فهي مكية مدنية، آياتها نزلت في كل زمان ومكان، فمنها ما نزل في مكة ومنها ما نزل في المدينة، ومنها ما نزل ليلاً ومنها ما نزل نهاراً، وآيات نزلت في الحضر وأخرى في السفر.
وقد جمعت هذه السورة وتحدثت عن مواضيع كثيرة من أهمها يوم القيامة والبعث والنشور والجهاد والعبودية لله.
وهنا يأتي سؤال!!
لماذا سميت هذه السورة بالحج ومع ذلك لم يتناول الله فيها الحج بالتفصيل بل تكلم عن يوم القيامة والبعث والنشور والجهاد!!
وما علاقة كل هذه الأمور ببعضها وبالحج؟
عندما نفكر جيدا سنصل الى استنتاج هام، وهو أن الحج هو العبادة الجامعة الشاملة لجميع العبادات، وهي العبادة التي تذكرنا بالدنيا والآخرة وتنقلنا بأرواحنا إلى يوم الحساب، لندرك كيف سيكون مصيرنا، وهي التي تعيد برمجة أنفسنا لتعود بها إلى الفطرة السوية وهي التي تذكرنا بأخوتنا ووحدتنا وغير ذلك من المعاني التي لا يعرفها إلا من حجّ واستشعر كل معاني الحج الحقيقية
ورغم أن رحلة الحج أو العمرة فيها الكثير من المشقة والصعوبات، إلا أن الحاج يشعر براحة نفسية عجيبة إذا أداها بالشكل الصحيح واستشعر مناسكها
فما هو السر في ذلك!!
ولكي تؤتي هذه الشعيرة ثمارها وأهدافها المرجوة، يجب أن نستعد لها ونهيئ أنفسنا لأدائها، وذلك بتعلم مناسكها وأركانها وأحكامها، وأسرارها وفوائدها، ونتفكر فيها لمعرفة المغزى والسر في ما وراء كل نسك.
ولكي نعقل ونستشعر هذه العبادة علينا أن نتسلح بحضور الذهن والقلب معا، ونتذكر أن أجر العبادات يزيد وينقص، بقدر ما نعقل ونعي من العبادة التي نؤديها، وقد قال بن عباس من قبل: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
عوامل استشعار لذة العبادة
كثير منا لم يشعر بحلاوة الذكر والإيمان. ولم يشعر بتلك اللذة التي كثيرا ما نسمع عنها عند مناجاة الرب وأداء العبادات المختلفة، فكثير منا لا يشعر بالراحة والسكون والطمأنينة التي يفترض أن نجنيها بعد صلاتنا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة “أرحنا بها يا بلال“.
فما السبب في ذلك !!
لكي نتمكن من الشعور بلذة العبادة علينا أن نوفر أربعة عوامل هامة
** أن يدرك العقل والقلب أهمية العبادة:
كلما زاد إدراكنا لأهمية هذه العبادة كلما زاد سعينا وحرصنا عليها، واشتدت حركتنا نحوها. فالإنسان يتحرك نحو أي أمر وفقا لما يدركه من أهمية ذلك الأمر وخطورته ودوره في حياته وفي الوصول إلى أهدافه.
والإدراك مرحلتان: الأولى العقل، والثانية القلب. فلا يكفي أن يصدّق العقل بأهمية هذه العبادة إذا لم يؤمن بها القلب وأحبها وسعى لنيلها.
** تخصيص الوقت الكافي لأداء العبادة:
علينا أن ندرك أن راحة المؤمن ليس بالانتهاء من العبادة بل في العبادة وبالعبادة نفسها قال تعالى: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". لذا علينا عدم الانشغال أو التفكير بأمور أخرى أثناء العبادة حتى لا تأخذ قسطاً من تفكيرنا واهتمامنا.
من يقرأ القرآن الكريم وهمّه إنهاء السورة لن يستطيع أن يحلق في أجواء القرآن.
من يبدأ الدعاء وهو يفكر في الوقت الذي سينتهي منه لن يتمكن أن يستشعر معاني أو روح الدعاء.
من يصلي وهو يريد الانتهاء من الصلاة لن يتمكن من الخشوع أو يحصل على الفوائد الدنيوية والأخروية التي يكتسبها المسلم من الصلاة، ولن يحصل على الراحة التي تتبعها.
لذا علينا أن نخصص وقتاً كافيا للعبادة، بحيث نجمع فيه قوانا العقلية والجسدية وجميع الحواس في العبادة.
** الاستعداد والتهيؤ للعبادة قبل وقتها:
عندما نريد أن ندخل امتحاناً ما أو مقابلة شخصية، فلا بد أن نتهيأ ونستعد لذلك الامتحان نفسيا وذهنيا وجسديا لنتمكن من اجتيازه. وكذلك العبادة بحاجة إلى استعداد وتهيؤ لها.
فمن يبدأ صلاته وجوارحه وقلبه مشغول بالدنيا لن يتمكن من التفاعل معها وأداءها كما ينبغي!!
ولكننا متى ما اعددنا العدة لها وفرغنا أنفسنا تماما وتهيأنا لاستقبالها وأداءها قبل دخول وقتها، سنتمكن من التفاعل معها بمشاعرنا وأرواحنا وأداءها كما ينبغي.
وقد جعل الله ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان حتى نتهيأ لها ونستعد خلال الليالي السابقة لها من رمضان، فنتمكن من بلوغها وتأديتها واستقبالها كما ينبغي.
** ترك الذنوب:
ترك الذنوب من أهم الشروط لتذوق لذة وحلاوة العبادة. فالعبادة شراب صافي لذيذ، إذا خلطناه بشراب الذنوب العفن، سيتكعر ولن نستطيع أن نتلذذ بطعم العبادة.
فالحق والباطل لا يجتمعان في وعاء واحد، والنور والظلمة لا تجتمعان.
*** كيفية الاستفادة من مناسك الحج والعمرة
للحج معاني كثيرة وأسرارا عظيمة منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه، ولكي نستفيد من هذه الشعيرة، ونؤدي مناسكها بحذافيرها كما أمرنا الله، علينا استشعار هذه المعاني والأسرار، فنستشعر بركات وفضل ذلك المكان والزمان.
والتعيس من أدى هذه الفريضة دون أن يستشعر مناسكها ومعانيها ودون أن يتغير فعاد كما ذهب، فكان كالصائم الذي أدى فريضة الصيام ولم ينله من صيامه إلا الجوع والعطش. أو كالذي صلى فلم ينل من صلاته إلا الثلث أو الربع أو لم ينل شيئا.
فلابد للمسلم الذي يقوم بأداء هذه الشعيرة، أن يستشعر المعاني العظيمة التي تكمن وراءها، ففي كل ركن من أركان الحج معنى وسر وحكمة.
علينا أن نستحضر أن رحلة الحج أو العمرة ليست رحلة أبدان فقط، نؤدي فيها مناسك معينة ثم نعود!!
ولكنها في المقام الأول رحلة أرواح وقلوب. فهي رحلة ربانية هدفها أن يتزود القلب منها بالإيمان والتقوى، ويحصل فيها على النور والبركة والمغفرة، وأن السبيل إلى ذلك هو أن لا ننشغل أو نشغل قلوبنا إلا بالله.
علينا أن نفرق بين الأهداف والوسائل، فنتذكر أن مناسك الحج والعمرة ما هي إلا وسائل نستخدمها لنحقق هدفنا الذي من أجله شددنا الرحال إلى الله، وأن هدفنا الأساسي هو تحقيق التقوى والهدى والمغفرة والرضوان من الله تعالى.
لو تأملنا سورة الحج لوجدناها قد بدأت بهذه الآية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يذكرنا بأن يوم القيامة قد اقترب وأن علينا أن نطبق شرائع ديننا الحنيف على الوجه الصحيح ونتقي الله في جميع أقوالنا وأعمالنا وضمائرنا.
فعندما نعقد نية الحج أو العمرة علينا أن تستشعر أننا سنذهب إلى رحلة عظيمة، وأننا سنشد الرحال إلى ملك الملوك، فالحج رحلة إلى الله، وعلينا أن نخوض هذه الرحلة ونحن نتسلح بالعقل والبصيرة، ونتزود بالتقوى.
علينا أن نضع نصب أعيننا أن الله قد دعانا إلى بيته، ويسر لنا أمر الحج، وأذن لنا بزيارته وهو ملك الملوك، وان هناك فئة كبيرة لم يأذن لهم بعد، رغم تلهفهم لزيارته !!
وهذا بحد ذاته نعمة عظيمة نحسد عليها يجب أن نستشعرها ونقابلها بالشكر والحمد له سبحانه.
ونحن في طريقنا لأداء المناسك علينا أن نستحضر أن كل خطوة نخطوها، ما هي إلا رمزا لخطوات حياتنا صوب الطريق إلى الآخرة. واننا نسلك درب النجاة لنصل إلى الجنة. لذلك علينا أن نغتنم كل خطوة في هذه الرحلة لمضاعفة الأجر وبذلك تتضاعف خطانا فنتمكن من الوصول الى الجنة بسرعة.
علينا أن نتذكر أن رحلة الحج والعمرة ما هي إلا مثل حي شبيه برحلة الموت والرحلة إلى الدار الآخرة. فما أشبه الحاج الذي يخرج من بيته وقد اغتسل ولبس ملابس الإحرام وخرج من مشاغل الدنيا ليخلص لله بقلبه وعقله، وترك الأهل والمال والولد خلفه في سبيل ذلك، ما أشبهه بمن يخرج من الدنيا للقاء ربه.
فالاغتسال يقابله التغسيل.
وملابس الإحرام تقابل ملابس التكفين.
والخروج من مشاغل الدنيا وتوديع الأهل وترك المال والولد، يقابله الخروج الجسدي من الدنيا وترك المال والاهل والولد.
علينا أن نتذكر أننا الآن مقبلون على الآخرة، ولنستشعر دنو أجلنا وخروجنا من الدنيا! لذا علينا أن نستعد ونوفي ما علينا من حقوق وديون لأصحابها استعداد للرحيل من هذه الدنيا.
فنرد المظالم إلى أهلها، ونقضي ديوننا ونطلب الصفح ممن أساءنا إليهم، ونتوب إلى الله، وبهذا نبدأ رحلتنا بدءاً طيباً كريماً.
وعندما نصل إلى الميقات علينا أن نستحضر في أذهاننا صورة إقدامنا على الله ومثولنا بين يديه، وندرك أننا قد وصلنا إلى مفترق الطريق بين الدنيا والآخرة، وأنه قد حان ميقات انتقالنا إلى الحياة الأخرى.
وحتى يتعمق هذا الشعور في أنفسنا، علينا أن نتذكر يوم وفاتنا، عندما نلبس ملابس الإحرام التي تشبه الكفن تماماً، أو الملابس المتجردة التي لا زينة فيها.
فماذا سنفعل أنذاك !!!
عندها سندرك أن هذه الدنيا فانية، وسنزداد خضوعاً لله وخشوعاً بين يديه وزهداً في زخارف هذه الحياة الزائلة وزينتها الفانية. وسندرك أن حياتنا ليست هنا بل هي الحياة الأخروية الدائمة.
فنعقد صدق العزم والنية والإخلاص لله تعالى بعدم الانشغال بها، وبذل كل ما يمكننا من جهد لنصل إليه سبحانه ونلقاه بالشكل الذي يرتضيه، ليكافئنا بالمنزلة العالية في الجنة بإذن الله.
وعندما نتوضأ أو نغتسل، علينا أن نستشعر ونستحضر نية تطهرنا من ذنوبنا جميعها، سواء الحسية والمعنوية. وعلينا أن نتوب توبة نصوح من جميع المعاصي، ونعقد العزم ألا نعود إليها مرة أخرى.
وعلينا أن نستحضر ونحن نحرم من الميقات أن الله عز وجل قد وضع لنا حدودا، وشرع لنا شرائع، وأمرنا بالتزامها وعدم تجاوزها، وأن وقوفنا في الميقات للإحرام، هو توثيق وعهد منا لله تعالى بأننا سنلتزم بما شرعه لنا وسنبتعد منذ هذه اللحظة عما حرمه علينا ليس في رحلتنا هذه فقط بل ما حيينا بإذن الله.
فإذا لبسنا ملابس الإحرام علينا أن نتذكر إبليس وكبره وغروره، وكيف أودى به إلى جهنم وبئس المصير. ونستشعر حينها أننا قد خلعنا اللباس الذي يحتمه علينا المنصب والجاه، والتي قد يودي بنا إلى الكبر والغرور، وأننا نلبس ملابس التواضع والتقوى.
ويأتي النطق بصيغة التلبية ليكون تعبيراً منا عن الاستعداد النفسي لتلبية كل نداء إلهي يوجه إلينا، ويتطلب منا بذل أو ترك أي قول أو عمل يأمرنا به ربنا ويكلفنا به سبحانه، سواءً كنا في أيام الحج أو في غيرها.
ونحن نلبي علينا أن نستحضر معني التلبية، فعندما نقول لبيك اللهم لبيك: فنحن نقصد أن اتجاهنا وقصدنا إليك وحدك يا رب، وأن محبتنا وخضوعنا وإخلاصنا لك وحدك يا الله.
علينا أن نتذكر أننا عندما نلبي نداء الله، ونقول ”لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك " فأننا نعده سبحانه بأننا سنلبي نداءه أينما كنا، وأننا منذ هذه اللحظة وحتى بعد ان نعود من رحلتنا، سنسرع لكل طاعة تقربنا إليه وسنبتعد عن أي معصية تثير سخطه وتوجب عقوبته.
ونحن نلبي علينا أن نستشعر تلبية الشجر والحجر من حولنا ونتذكر قول نبينا صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا).
ونحن نلبي علينا أن نستشعر أننا نلبي دعوة الله لنا عندما دعانا سيدنا إبراهيم لزيارة بيت الله، قبل أن نولد عندما أمره الله بأن يؤذن بالحج ووعده سبحانه أن عليه البلاغ. ونستشعر عظمة الله وقدرته في كيفية وصولها لنا.
وعلينا أن نرددها في ومن أعماقنا، وكلنا يقين أن وفودنا إلى بيت الله، كان باستدعاء منه سبحانه، وهذا كرم منه وفضل يستحق منا الشكر والعرفان. فتخرج ”لبيك الهم لبيك“ من أعماق قلوبنا وهي تحمل كل معاني الشكر والحمد والثناء لله رب العالمين.
مختارات