الاستنباطات الفقهية من الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
آيات متعلِّقة بالحج:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
[سورة البقرة: 196-197]
الاستنباطات الفقهيَّة من الآيات السابقة:
1 ـ الهدي الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المُعتمر هديةً منه لأهل الحرم:
أيها الأخوة الكرام، الاستنباطات الفقهيَّة من هذه الآية كثيرةٌ جداً، فمن هذه الاستنباطات: الهدي في هذه الآية يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المُعتمر، هديةً منه لأهل الحرم، أصل الهدي من الهديَّة، هؤلاء الذين يعكفون على تيسير مناسك الحج للحجاج، هديتك لهم هذا الهدي الذي هو قوام حياتهم، هذا أصل الهدي.
من غير سببٍ موجب، نحن عندنا هدي جبر، وعندنا هدي شكر، وعندنا هدي جزاء، وعندنا هدي إحصار..
﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾
[سورة البقرة: 196]
أيها الأخوة الكرام، الاستنباطات الفقهيَّة من هذه الآية كثيرةٌ جداً، فمن هذه أي من أحرم بعمرةٍ ثم تحلل إلى وقت الحج فأحرم، هذا عليه هدي تمتعٍ، أي هدي جبر نقصٍ، أما من حج مفرداً، حجَّ فقط وبقي محرماً إلى يوم عرفة فهذا لا شيء عليه، أما إذا حج قارناً، أي أنه أحرم بعمرةٍ، وبقي محرماً إلى أن أحرم بحجٍ، فهذا عليه هديٌ، لكنه هدي شكرٍ لا هدي جبرٍ، أن الله آتاه قوة، وآتاه جَلَداً، أعطاه قوة على تحمُّل هذه العبادة، فعليه شكرٌ لله عزَّ وجل هدي شكرٍ، أما الذي تمتع من العمرة إلى الحج فعليه هدي جبرٍ، أما الذي أُحصر أي منعه مرضٌ، أو منعه عدوٌ، أو منعه أمرٌ قاهر عن أن يتابع الحج فعليه هدي إحصار، أما الذي يقع في بعض محظورات الإحرام، لو دخل الحرم بثيابه خطأً، فعليه هديٌ، لو ترك واجباً من واجبات الحج، عليه هديٌ..
صار عندنا أربعة أنواع للهدي؛ هدي جبر للمتمتع، وهدي شكر للقارن، وهدي إحصار، وهدي جزاء.
والهدي اسمٌ على مسمى، هديةٌ يقدمها الحاج إلى أهل الحرم.
الشريعة رحمةٌ كلها عدلٌ كلها مصلحةٌ كلها:
أخواننا الكرام، لا أنسى هذه الكلمة التي قالها بعض العلماء: " الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة عدلٌ كلها، الشريعة مصلحةٌ كلها، الشريعة حكمةٌ كلها -لأنها من عند الخالق- أية قضيةٍ خرجت من الحكمة إلى خلافها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى خلافها فليست من الشريعة ".
فإلى عدة سنوات كان يأتي إلى بيت الله الحرام عدد كبير يقترب من مليون، أو مليونين، هؤلاء يذبحون الخراف التي لها ثمن باهظ، يلقونها في العراء، يذبح ويلقي، أدَّى النُسُك، فهذه الغنمة لحم، والجو حار جداً تتفسَّخ خلال ساعات، أقسم لي أحد الأخوة الكرام -وهو يسكن في منطقة قريبة من منى- أن رائحة اللحوم المتفسِّخة لا تغادر هذه المنطقة ولا في ثلاثة أشهر، تصور مليون غنمة ذُبِحَت وأُلقيت في العراء، أهذا هو النُسك؟ أهذا هو أمر الله عزَّ وجل؟ أهذه هي الشريعة؟ لا والله، الهدي هديةٌ تقدمها إلى أهل الحرام، هدية يجب أن تصل إلى البطون، يجب أن تؤكل، يجب أن يأخذها الفقراء، إذاً كل منسك ينبغي أن يكون حكيماً لصالح الأمة، مبنياً على العدل.
قرأت مرَّة خبراً في جريدة أنه تمَّ إعدام عشرين مليون رأس غنم في أستراليا ودُفِنَت في باطن الأرض، للحفاظ على أسعار الغنم في العالم، ألا تشعر أن هؤلاء متوحشون؟ متوحشون، كم أمة تموت من الجوع؟ الصومال، السودان، بنغلادش، هذه الدول الفقيرة التي تموت من الجوع، عشرون مليون غنمة يطلق عليها النار، وتُدفن للحفاظ على أسعار اللحم العالية.
لكن مليون غنمة تُذبح وتُلقى في العراء، يجب أن يصل هذا الهدي إلى محله، يجب أن يصل إلى بطون الفقراء، فالحاج الذي يذبح ويلقي هذا ليس حاجاً، ولا فقيهاً، ولم يعرف مناسك الحج، الآن أُلغي هذا، لن تستطيع أن تذبح إلا في المسلخ، والمسلخ يذبح، ويبرِّد، ويرسلها إلى فقراء المسلمين في العالم، فهذا معقول، الآن شيء مقبول أن هذا اللحم انتهى إلى بطون الجياع.
2 ـ الحج فريضة مقدَّسة جداً إن بدأها الإنسان فعليه أن يتمها:
أما معنى قوله تعالى:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
أتموا..أي إذا بدأت ينبغي أن تتابع، ليست قضية مزاجيَّة، والله أنا الحج لم يعجبني سأرجع، هذه بالحج ليست واردة إطلاقاً..
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
فريضة مقدَّسة جداً، إن بدأت عليك أن تتم، وقال بعض العلماء: " إتمام الحج والعمرة أن تأتي بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة ". كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول:
(اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لا رِيَاءَ فِيهَا وَلا سُمْعَةَ)
[ابن ماجة عن أنس بن مالك]
أحياناً الإنسان يحج فتجد الزينات، والسجاد، و العراضات، وإطلاق الرصاص، والاحتفالات، والولائم، صار اسمه الحاج..
(اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لا رِيَاءَ فِيهَا وَلا سُمْعَةَ)
[ابن ماجة عن أنس بن مالك]
والحج كما قال عليه الصلاة والسلام:
(الْعَجُّ وَالثَّجُّ؟)
[الترمذي عن أبي بكر]
3 ـ تناقض الرفاه غير المعقول بالحج مع مناسك الحج:
كذلك تقصي الرفاه غير المعقول بالحج يتناقض مع مناسك الحج، إنسان حجز فندقاً من ذوات النجوم الخمسة، في أيام الحج ليتمتَّع، ليترفَّه، فكافأه الله على هذا - طبعاً ليس حراماً أن تحجز هذا الفندق، أنا لا أقول هذا حرام - لكن تقصي الرفاه بأنه تاه عن هذا الفندق ثلاثة أيام في منى، ولم يهتد إليه، الحج أساسه العج والثج، الحج الرحلة قبل الأخيرة، الحج أن تخلع كل مظاهر الدنيا، كل مظاهر الزينة، أن تؤدي المناسك متقنةً ظاهراً، ومخلصةً باطناً. قال بعض العلماء:
إذا حججت بمالٍ أصله سُحُتٌ فما حججت ولكن حجَّت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ما كل من حج بيت الله مبـرورُ
* * *
4 ـ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ من أساليب التوكيد في القرآن الكريم:
فما معنى قوله تعالى:
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾
[سورة البقرة: 196]
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾
المعنى واضح، أما
﴿ كَامِلَةٌ ﴾
فقال: هذا يقاس على قوله تعالى:
﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
[سورة الحج: 46]
ولكن أين محلها في الأساس؟ هي في الصدور، تحصيل حاصل، قال: هذا من أساليب التوكيد في القرآن الكريم..
﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾
[سورة الأنعام: 38]
هذا من أساليب التوكيد:
﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾
[سورة الأحزاب: 4]
القول أين يتم؟ لو قلنا: تلك عشرةٌ. أحياناً يستخدم العدد للتكثير، فإن أردنا العدد بمعناه الحسابي..
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾
[سورة البقرة: 196]
يقول لك: دفعت المبلغ بالتمام والكمال، إذا نقدته عشر ليرات ذهبية بالتمام والكمال بالتمام عشرة، بالضبط، وبالكمال أي كلها جديدة، حروفها حادة، بالتمام والكمال، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
[سورة المائدة: 3]
5 ـ مناسك الحج لا تؤدَّى إلا في مكانٍ واحد:
أما الاستنباط الخامس:
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾
[سورة البقرة: 199]
أي ممكن أن يكون هناك تمايزاً في أي مكان في العالم، هناك فندق خمس نجوم، وفندق أربع نجوم، وثلاث نجوم، ونجمتان، ونجمة، وهناك فندق نجومه مطموسة - من الدرجة العاشرة- وهناك مكان لا يحتمل أن ينام فيه حيوان أحياناً، مبيت، فيه مراتب، والمركبات مراتب؛ هناك مركبة خشنة متعبة، و مركبة فخمة جداً، والبيوت مراتب، وكل شيء بالحياة مراتب، إلا مناسك الحج فهي لا تؤدَّى إلا في مكانٍ واحد.
مهما كنت غنياً لابدَّ من أن تطوف حول الكعبة ضمن الزحام، مهما كنت غنياً لابدَّ من أن تسعى بيت الصفا والمروة مع عامة الناس، ملك، غير ملك، غني، قوي، أي إنسان، مناسك الحج توحِّد المسلمين، وهناك مكان آخر يتوحَّد المسلمون فيه، هو بيت الله، أنت خارج المسجد هناك مدير عام، و معاون مدير، و موظَّف كبير، و رئيس دائرة، و حاجب، أما يوم الجمعة فيستطيع الحاجب أن يجلس في الصف الأول إذا جاء مبكراً، والمدير العام قد لا يتاح أن يجلس إلا في آخر صف إذا جاء متأخراً.
بيت الله، هذه من عظمة هذا الشرع، يجوز أن تشعر أنك أقل من فلان خارج المسجد؛ بالدائرة، بالمستشفى، بالمدرسة، بالمعمل، بالحي، هناك بيت فخم، وهناك ساكن في ملحق، بيت أربعمئة متر، وشخص ساكن بقبو، هناك تفاوت، أما بالمسجد فلا يوجد تفاوت، يوم الجمعة هناك خطبة الجمعة، أو في الصلوات الخمسة، أو في دروس العلم، تشعر أنك تساوي أي إنسان مهما علا، هنا مراتب دنيا لا توجد.
الحج تواضع و خضوع لله وعبوديَّة:
لذلك كان عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه، وعن يمينه غلامٌ صغير وعن يساره كبار الصحابة، فجيء بضيافة، فحسب السنة بدؤوا بالنبي ثم من على يمين النبي، الذي على يمينه طفل صغير والذي على يساره كبار الصحابة، قال له:
(يَا غُلامُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ فَقَالَ مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ)
[البخاري عن سهل بن سعد]
طفل صغير، هذا الإسلام عدل مُطلق، لا يوجد مراتب، أجمل ما في الإسلام أنه بالمسجد وبالحج لا توجد مراتب، الإنسان أحياناً يرتدي ثياباً يقول لك: ثمن البدلة ثمانون ألفاً. ممكن أن يرتدي ثياباً غالية جداً، أما في الحج فيرتدي منشفتين لا يوجد غيرهما، منشفة بيضاء، هذا من عظمة الإسلام..
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾
[سورة البقرة: 199]
أنت مع الناس، لذلك أخواننا إذا أتيح لكم أن تحجوا أو أن تعتمروا، إيَّاك ثم إياك ثم إياك أن تذهب إلى هناك وأنت ناظر إلى مكانتك، إلى رتبتك، إلى ما على كتفك، إلى ما على صدرك، إلى ما في جيبك، إياك هناك أنت عبدٌ لله.
الإنسان في بلده لو كان في المطار مثلاً ينتظر إنساناً، مهما كان مُتعباً، هل رأيتم في مطار دمشق إنساناً يجلس على الأرض من تعبه؟ لا من أجل مكانته. هناك في الحج شيء طبيعي جداً مهما كنت عليَّ المقام تجلس على الأرض.
إذا كان هناك سيارة عامة قلنا لإنسان: تأخذ عشرة آلاف وتركب على السطح، على ظهر السيارة، أو باص نقل داخلي هكذا في المدينة، أما في بلده إن قلنا له: خذ خمسة آلاف واصعد اركب على السطح، فلا يقبل، هذا الشيء في الحج شيء طبيعي جداً، كبار الشخصيات بعرفات نصف تحت ونصف على سطح المركبة.
الحج تواضع، الحج خضوع لله، الحج عبوديَّة، هذه كلها أقنعة، نحن تقنَّعنا فيها؛ أنا اسمي كذا، وهذا قبل اسمه يضع: د. وهذا قبل اسمه عميد، هذه كلها أقنعة مزيَّفة، أنا حجمي المالي كذا، أنا ثيابي من المحل الفلاني، أنا ثيابي كلها مستوردة، أنا سيارتي كذا، هذا كله هناك ملغي، دع الدنيا في بلدك وتعال عبداً لله عزَّ وجل، هذا كله من معاني:
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾
[سورة البقرة: 199]
أنت والفقير سواء، من عظمة هذا القرآن الكريم..
6 ـ الحج عبادةٌ بدنيةٌ ماليةٌ شعائريَّة تؤدَّى في مكان وزمان مخصوصين وهيئةٍ خاصَّة:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾
[سورة البقرة: 197]
جاء الحج ثلاث مرات، الأول: أن الحج، أي زمان الحج أشهرٌ معلومات، إنسان حج من بلد عربي، والله وكما سمعت يحتل منصباً رفيعاً في وزارة، قريب من معاون الوزير، وهو في العودة يحدث زميله قال له: والله الحج شيء مرتَّب، أي فيه عناية فائقة، و خدمات عالية، و الله شيء جميل، ولكن والله أنا ألوم هؤلاء السعوديين. قال له: لماذا؟ قال له: لو عملوه على مدار السنة لكان أفضل، لأن هناك ازدحام. هذا لا يفقه من الحج شيئاً، لو جعلوه على مدار السنة، الله ماذا يقول؟
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾
[سورة البقرة: 197]
في مكان مخصَّص، وفي زمان مخصَّص، وفي نُسُك مخصَّص، الحج عبادةٌ بدنيةٌ ماليةٌ شعائريَّة، تؤدَّى في مكان مخصوص، وفي زمان مخصوص، وعلى هيئةٍ خاصَّة.
فأول كلمة حج أي زمان الحج..
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾
[سورة البقرة: 197]
أي من دخل في مناسك الحج، كلمة حج الثانية لها معنى ثان..
﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا ﴾
[سورة البقرة: 197]
آخر كلمة تعني في زمان الحج، وفي مكان الحج.
الاستخدام من أروع ما في البيان العربي:
يقولون بالبلاغة: عندنا شيء اسمه الاستخدام. أنا أقول لإنسان عنده بستان فيها نبع ماء، وله ابن، أقول له: أقرَّ الله عين الأمير، وأجرى له ماءها، وكفاه الله شرَّها. أقرَّ الله عين الأمير، أي عين قلبه، كفاه الله شرها أي عين الحسود، أجرى له ماءها أي عين الماء، فالاستخدام أن نستخدم كلمة ثم نستخدمها ثانيةً بمعنى آخر من معانيها، ونستخدمها ثالثةً بمعنى ثالث، هذا من أروع ما في البيان العربي..
﴿ الْحَجُّ ﴾
[سورة البقرة: 197]
زمان الحج..
﴿ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾
[سورة البقرة: 197]
نُسك الحج..
﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾
[سورة البقرة: 197]
أي في أيام الحج، وفي أمكنة الحج، هذا أيضاً استنباط لطيف بالآية الكريمة.
7 ـ الحج دعوة والعمرة زيارة:
بعض الأحكام الشرعيَّة: العمرة بين أن تكون واجباً لقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
وبين أن تكون سُنَّةً، على كلٍّ الحج دعوة والعمرة زيارة، كلام دقيق، ما دام الحج في وقت مخصوص فهو دعوة، أنت تقيم وليمة يوم الخميس الساعة الثانية، هذه دعوة تدعو إليها من تشاء، أما كل إنسان بإمكانه أن يزورك في بيتك متى يشاء، الزيارة على مدار السنة أما الحج ففي أوقات محددة، فالحج دعوة، والعمرة زيارة، ومن معاني الدعوة أن تقول: " لبيك اللهم لبيك ".
إلا أن الإنسان إذا حج عدة مرات فالأولى أن يكتفي بالعمرة، ليتيح المجال لمن لم يحج أن يحج البيت، لأن هناك درجة من الازدحام تؤذي الحجاج جميعاً، وكأنها تصرفهم عن مناسك الحج لشدة الازدحام.
8 ـ الإحصار:
الشيء الثاني: الإحصار، فالإحصار الإنسان أحياناً تنشأ معه مشكلة، أو مرض خطير، ماذا يفعل؟ الله قال:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
قال: الإحصار - عند السادة الأحناف- يكون من كل حابسٍ يحبس الحاج عن البيت؛ من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرمٍ في الطريق.
إنسان مثلاً حبسه عن البيت عدو، صار هناك مشكلة أمنية بديار الحج، أو مرضاً خطيراً، أو خوفاً، أو ضاعت كل أمواله فلم يستطع أن يكمل، أو ضلَّت راحلته، أو زوجةٌ مات زوجها في الطريق لا تستطيع أن تُكمل، هذا اسمه إحصار.
من بعض المذاهب لا إحصار إلا من حصر العدو، أما عند الأحناف فالإحصار موسَّع، كما قلت قبل قليل: من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة.
المحصر يذبح الهدي ويحلِق، وبهذا قد تحلَّل، لذلك بعضهم يحتاطون في نيَّة الحج وفي التلبية يقول: لبيك بحجٍ إلى بيتك الحرام، أو حيثما حبسني حابس. تنشأ أحياناً مشكلة كبيرة في الصحة، فربنا عزَّ وجل شرعه حكيم، وفيه رحمةٌ للعالمين.
أنواع الحج:
ذكرت قبل قليل في أول الدرس: أن هناك حج مفرد وهو ما يفعله أكثر الحجاج السوريين، يحرم بالحج فقط، أما كل إنسان حينما تمضي أيام الحج - أي حينما يمضي اليوم الرابع من العيد - فبإمكانه أن يأتي بعمرة ويبقى مفرداً ولا شيء عليه، المُفرد ليس عليه هديٌ الهدي على المتمتع، وعلى القارن، وعلى من ارتكب إحدى محظورات الإحرام، والهدي على من أُحصر، أما المفرد فلا شيء عليه، إلا أن المفرد بإمكانه أن يأتي بعمرةٍ بعد انقضاء أيام الحج ولا شيء عليه.
نحن عندنا إنسان آفاقي، وإنسان أهله حاضرو المسجد الحرام، عندنا المواقيت؛ ميقات أهل الشام، ميقات أهل العراق، ميقات أهل اليمن، هذه المواقيت تشكل شكلاً اسمه الحرم، من كان داخل الحرم فيحرم من بيته، هذا من أهل الحرم، من كان آفاقي، أي مكان إقامته خارج منطقة الحرم فهذا الذي يحرم من الحرم، من مداخل الحرم، لبيت الله الحرام.
شروط المتمتع:
إذا كان الإنسان ميسوراً وأراد أن يتمتع فهناك شروط، أول شرط: طبعاً المتمتع يحرم بعمرة، ويأتي إلى بيت الله الحرام، فيطوف البيت سبعة أشواط، ويسعى بين الصفا والمروة، ويصلي ركعتين، ويحلق، ويتحلَّل، الآن ليس محرماً، قد يقبع في مكة يومين، ثلاثة، خمسة عشر يوماً، بحسب مجيئه للحج، فهذه الأيام يمضيها بثيابه العاديَّة، ويغتسل، يتعطَّر، يقلِّم أظافره، يحلق لأنه متمتع.
اليوم الثامن من ذي الحجَّة يحرم من بيته، من فندقه، من مكان إقامته، وينطلق، هذا جاء بعمرة، وتمتَّع، وجاء بحجة، هذا اسمه متمتِّع، من أجل أن يُقبل تمتعه هنا شروط، من هذه الشروط تقديم العمرة على الحج، فلو حجَّ ثم اعتمر لا يكون متمتِّعاً.
ومن هذه الشروط أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، أشهر الحج شوال، ذو القعدة، ذو الحجَّة.
من شروط التمتع أن يحج في تلك السنة..
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
أي في سفر واحد عمرة وحج، الشرط الرابع: ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾
[سورة البقرة: 196]
الخامس: أن يحرم بالحج من مكة، فإذا عاد إلى الميقات فأحرم لا يلزمه دم، ما عاد متمتعاً، لو أحرم أن يحرم من مكة، أحرم من مكة صار متمتعاً، لو عاد إلى منطقة الحرم إلى بدايتها وأحرم، صار حاجاً لم يعد متمتعاً.
الإسلام دين عظيم يسع كل الحالات:
طبعاً هناك سؤال هو: هل يجوز أن نحرم للحج قبل أشهر الحج؟ هذا سؤال أحياناً يكون غير منطقي، قال لي أخ: من يومين أذاعوا بمحطة فضائية أنه لا يقبل الهدي إلا إذا سقته معك من بلدك. فنظرت أنا فيه مستغرباً. فقال لي: ما قولك؟ قلت له: والله جرب خذ معك جملاً في الطائرة، تحتاج لعشرة مقاعد، فهل يعطون الجمل بطاقة طائرة؟ الطريق إلى الحج حصراً بالطائرة، هناك شيء غير منطقي، هناك تبدلات، الأحكام تتبدل مع تبدل الظروف، هذا شيء غير طبيعي.
وقف خطيب على منبر قال: كل إنسان يصرف مئة ليرة أربع خمس وعشرينات أكل الربا، لأن الله قال: يداً بيد وسواءً بسواء، فاستنبط أن المئة صاروا أربع، صار في فضل وقع بالربا.
هكذا عقليات متحجرة، هكذا تفكير متزمت ينفر الناس من الدين، بالبديهة بعض الدول الأجنبية عندهم بالقضاء شيء اسمه: المحلفون، يأتون بخمسين شخصاً من الطريق، مثلاً شخص عادي قد يكون جاهلاً، أمياً، سمَّاناً، متجوِّلاً، شخصاً، يأتون بهم ويسمعونهم وقائع الجريمة، تجد هناك فطرة بالإنسان سليمة، هؤلاء الجهلاء الأميون، غير المتعمِّقين، لم يدرسوا الحقوق، ولا يوجد عندهم أي خبرة بالقضاء، والله الأصابع تشير إلى فلان، أن فلاناً مجرم، هؤلاء اسمهم محلفون، هؤلاء على الفطرة، هؤلاء يمثلون الضمير البشري.
قل لإنسان: أنا ذبحت غنمة، وألقيتها بالطريق، والحرارة ست وخمسون، وأنا أديت الحمد لله مناسك الحج. هل هذا الدين دين الله؟ تتلف مالاً ثميناً جداً الناس في أمس الحاجة له، تتلفه وتجعله يسبب تلوث البيئة وأنت حاج؟ لا والله أنت ما فهمت شيئاً بالحج.
أحياناً تنشأ ظروف، أريد أن أًقبّل الحجر، معقول أعمل معركة هذا بكوعي، وهذا أدفعه بصدري حتى أصل إلى الحجر؟!! مرة كان لي تعليق مضحك قلت لهم: تصوروا أباً حوله ثمانية أولاد، عنده ابن شرس، فأحب هذا الابن الشرس أن يكسب رضا والده، مسك أول أخ ضربه على وجهه دفعه جانباً، أمسك بالثاني وركله بقدمه، أمسك الثالث خبطه على وجهه، حتى تفرقوا، وجاء ليقبل يد والده. والله هكذا أرى أناساً عند الحجر وحوشاً، معقول؟ أنت جئت من بلاد بعيدة دافع مئات الألوف، من أجل سنة تضحي بفريضة تؤذي الحجاج؟.
مرة أحد أخواننا العلماء جزاه الله الخير - من باب الدعابة - قال لي: أنا مذهبي شافعي، فدخلت لكي أطوف، فبالطبع هناك نساء، وبشكل خطأ امرأة مست يدها يدي، فكيف يخرج من الطواف، والآن الوضوء خارج الحرم تحتاج ساعة، أو ساعتين لتخرج وتتوضأ وترجع، قال: تقلدت الإمام الحنفي، وأنا أطوف انتقلت من شافعي لحنفي، جاء إنسان زنجي داس على رجلي أدماها، الدم سال، انتهى الطواف صار هناك دماً سائلاً قلدت المالكي أيضاً. قال لي: بدأت شافعياً، صرت حنفياً، انتهيت مالكياً، فكذلك هذه الاجتهادات نعمة كبيرة.
أنا مرة كنت في البعثة، فجاءت امرأة من ريف دمشق تسأل أحد العلماء: أنها جاءتها الدورة قبل طواف الإفاضة ماذا تفعل؟ فما نظر لوضعها قال لها: عليك بدنة. أي أن تذبح جملاً، ثمنه مئة ألف. فبركت مثل الجمل، هذه الحجة تنتظرها من ثلاثين سنة، كل ما تملك جمعته لهذه الحجة، هذا الحكم الشرعي؟ عند الأحناف عليها ذبح بدنة، عند الشافعة عليها أن تغدو أميرة الحج، ينتظرونها، سبعة أيام تطهر وتطوف، وتأتي عند الإمام مالك تطوف البيت ولا شيء عليها.
تصور إنسانة بالحج معها ملايين، وسألتنا نقول لها: عليكِ بدنة، ادفعي مئة ألف للفقراء وأطعميهم، فلا مانع. إنسانة لها ابن مقيم بجدة وزوجها تاجر نقول لها: اجلسي عند ابنك سبعة أيام وبعد أن تنتهي تطوفين بالبيت. إنسانة فقيرة لا أحد ينتظرها ليس معها قرش زيادة عن نفقة الحج نقول لها: طوفي ولا شيء عليكِ.
انظر إلى الإسلام وعظمته، يسع كل الحالات؛ يسع حال امرأة فقيرة، يسع حال امرأة غنية، يسع حال إنسان ليس ملتزماً بعمل، حر، تاجر ليس عليه دوام.
مثلاً هناك أربعة ملايين حاج، لو أرادوا أن ينفروا من المزدلفة في وقت واحد كانوا ماتوا دهساً، عند الإمام مالك لك أن تنطلق من مزدلفة بعد العشاء، والله هذا شيء سهل، عند الإمام الشافعي بعد الثانية عشرة، عند أبي حنيفة بعد الفجر، الأربعة ملايين توزعوا على ثلاثة، فصار مليون بمليون بمليون، شيء جميل، تنوع الاجتهادات يغطي كل الحالات، بالإنسان هناك ثوابت ومتغيِّرات؛ بالثوابت الأحكام قطعية، بالمتغيرات الأحكام ظنية.
في الظروف الصعبة يجب على الإنسان أن يختار الأسهل وبالرخاء يختار الأحوط:
أرجو الله سبحانه وتعالى أن أنقل لكم هذه الحقيقة، في وقت الشدة يجب أن تأخذ بالأسهل، وفي الرخاء يجب أن تأخذ بالأحوط، فالنبي رجم الجمرات وكان معه ألفا حاج، إذا صار بدلاً من الألفين مليونا حاج، والمكان واحد، يجب أن يكون الإنسان عنده حكمة، يقول لك: أنا حججت ثلاث مرات ومعي زوجتي، الإنسان يخرج مُصَفَّحاً من الازدحام، فأي إقبال، وأي بكاء، ينسحق الإنسان سحقاً، وإذا رأى امرأته تنسحق بين الرجال فهل يعرف أن يتجه لله عز وجل؟ أنا بالليل رجمت، بالليل هناك متر بينك وبين الذي يقف بجانبك، تبكي، تبتهل، تدعو.
فبالظروف الصعبة يجب أن تختار الأسهل، بالرخاء تختار الأحوط، خذها قاعدة، وأنا أرى أنه لا ينبغي أن يكون الإفتاء في الحج على مذهب واحد، ممنوع، أرى، وأصر، وأتمنى أن يكون في بعثة الحج أربعة مفتيين؛ مفتي حنفي، شافعي، مالكي، حنبلي، الحنبلي أهون شيء، لكن عند العوام الحنبلي أصعب شيء، يقول له: هل ستسوقها حنبلية؟ ما الحنبلية؟ الإمام الحنبلي كان أورع الناس لنفسه، وكانت فتاواه أسهل الفتاوى، فهو شديد على نفسه، هناك شخص لنفسه يأخذ كل الرُخص، إذا سئل يعطي أصعب شيء، هذا موقف غير صحيح.
9 ـ محرَّمات الإحرام:
الحكم التاسع: محرَّمات الإحرام؛ الجماع ودواعيه، من لمس، شهوة، تقبيل، إفحاش في الكلام، إلخ، هناك جهل يا أخوان، هناك جهل كبير، أنا والله أربأ بإخواننا الحجاج أن يقعوا في هذا الجهل، حدثني أحد رؤساء الأفواج: إنسان قبَّل زوجته أمام الناس بالحج. هل أنت حاج؟ أنت تريد ملهى، لا تريد حجاً.
هناك شخص بمكة يقول لك: أين قبر النبي؟ هنا لا يوجد قبر النبي، قبر النبي بالمدينة، قال له وهو بالكعبة: أخي أين القبلة؟ قال له: هذه الكعبة. فقال له: أنا أقول لك القبلة وليس الكعبة، فأين القبلة؟ قال له: هذه الكعبة. جهل مطبق.
بلغني أن في بعض الدول الإسلامية أنه لا يمكن أن تحج قبل أن تدخل دورة لمدة ستة أشهر؛ نظري وعملي، تجد هذا الحاج من شرق آسيا يمثل بلده أعلى تمثيل، أدب، يعرف كل المناسك، نظافة، أماكن راقية، سيارات مكيفة، تجده يقعد حيث انتهى به المجلس، لكن نحن أصحاب الرسالة، نحن الوسطاء بين الله وخلقه، إلينا جاءت الرسالة، ونحن الغلط من عندنا، والفوضى من عندنا، والنوم بالطرقات، ويقول له: أين قبر النبي وهو بمكة؟ إنسان دعا بالحج أن يبعث الله له ولداً، فالتقى مع زوجته بعرفات، فربما أتاه ولد مثلاً، شيء مخيف، أخطاء فاحشة.
والله مرة من باب الطرفة أنا كنت موكلاً بفحص رؤساء الأفواج، رأيت رئيس فوج لم يعجبني، قلت له: إذا كان هناك امرأة مسنة، عمرها ثمانون سنة، ما تمكنت أن تهرول بين الميلين الأخضرين، ماذا عليها؟ تأمَّل، وتأمل، وتأمل وقال لي: والله بطل حجها يا أستاذ. قلت له لماذا؟ قال لي: لأن هذه الهرولة ركن من أركان الحج. هذا سوف يدير مئة حاج بالحج؟!، هناك جهل مطبق، علاجه العلم، تفقهوا قبل أن تحجوا، جميل جداً أن تكون فقيهاً بالحج، ولطيفاً.
من أجل سنة نضحي بفريضة، من أجل سنة نرتكب كل الأعمال القبيحة، فتصور هكذا صف جامعي، صف رابع رياضيات، فيه ثلاثة عشر طالباً، وكل الأساتذة دكاترة كبار، دخل إلى الصف حوالي ستين أو سبعين من الأميين وقعدوا معهم، فما بقي هناك محاضرة، ولا فهم، ولا شيء، انتهى العلم، فالإنسان يجب أن يكون دقيقاً، أنت تمثل بلدك، الحقيقة أنا أريد أن أقول لكم كلمة: الحاج سفير بلده.
تجده حاجاً يرفع اسم بلده إلى الأوج؛ وحاجاً يضع سمعة بلده في الوحل من تصرفاته، والله في بعض البلاد الإسلامية عندهم لطف ورقة بالغة، وهناك أناس غير ذلك.
التفقه قبل الحج:
الشيء المؤلم أن هناك ثلاثمئة راكب في هذه الطائرة، تجد عندما يصعدون يتقاتلون، لك محل على البطاقة، بطاقة صعود عليها محل لا يتغير لو وقفت بهدوء، وطلعت بانتظام، أنت حاج تجعل موظفاً يسمعك كلمة قاسية، أنت ضيف الله، ضيف الرحمن، لك مكانتك، فالإنسان بقدر ما يحترم نفسه فالناس يحترمونه، فهذه مشكلة.
والله أنا ذهبت لبلاد سافرت من فترة إليها، كان هناك موظفاً عند العمود، يجب أن يقف الشخص الثاني عندي، هناك خط أحمر، لكي يتكلم معه براحة، لا يوجد أحد عنده، هناك خط أحمر، الأول عند الموظف و الثاني بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، هنا تقف والكل في غاية الانضباط، هذا النظام، والنظام حضارة، النظام رقي، أتمنى إذا أكرمنا الله بالحج أن يكون الإنسان لطيفاً، ظله خفيف، تفقهوا قبل أن تحجوا، طبعاً من محرمات الإحرام اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي، والمخاصمة، والمجادلة.
مرة بهذه الخيام، خيام مفرقة بعرفات يزيلون الفوارق فتصير صلاة جماعة كاملة، فواحد من الحجاج أزال أحد الحواجز بين خيمتين لتصير صلاة جماعة، لأن هناك خطبة، فواحد من الحجيج سب بالدين، من رواد عرفات، لماذا أزلتم الحاجز؟ فأنت لماذا جئت إلى هنا؟ الحج مثل الجامعة، تعد جامعة راقية جداً، أرقى عبادة، وهناك أناس يذهبون إلى الحج بشكل غير معقول، قال عليه الصلاة والسلام:
(من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)
[الجامع الصغير عن أبي هريرة]
الحج فرصة للصلح مع الله عز وجل:
آخر شيء بهذا الدرس قال: " من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له ".
فأنت هل تعرف ماذا يوجد بالحج؟ الحج فرصة كي تصطلح مع الله، فرصة كي تمحى عنك كل الذنوب، فرصة قد تبدأ بها مع الله بصفحة جديدة، فلا شيء، رجعت كيوم ولدتك أمك، الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن نكون قدوة للآخرين، وإذا الإنسان حج، فالحج يحتاج إلى إعداد كثير، إلى تفقُّه، إلى علم، إلى أخلاق راقية جداً، طبعاً أنا ذكرت أمثلة حادة جداً يجب أن تسامحوني، ذكرت أمثلة حادة جداً، و هناك والله أيضاً حجاج كبار، ومهذبون، وأتقياء، وخاشعون، طبعاً الحالات النادرة هي صارخة لكن لا تعني أن الحجاج هكذا لكن هناك حالات من هذه الحالات.
والحمد لله رب العالمين
مختارات