خطاب تبليغي
إذا كان الخطاب الصفوي خطابًا تنشئة الخاصة، وتتداوله الصفوة؛ فإن الخطاب التبليغي تصنعه الخاصة، وتقوم باستخدامه شريحة متوسطة بين الخاصة والعامة، إذ توجهه إلى عامة المسلمين. الخطاب التبليغي يشكل أداة مهمة لتوحيد الثقافة عند حدودها الدنيا، كما أنه يعد الوسيلة الأساسية لتذكير الناس بالمبادئ والأصول والأدبيات الإسلامية. ولهذا فإن رقعة تداوله واسعة جدًّا ومن هنا فإنه اكتسب صفة (الشعبية). وشعبيته هذه تملي عليه أن يتصف بخصائص وسمات، ويتعرض لأزمات ومشكلات يحسن بنا الوقوف عندها، ولعل أهمها الآتي:
1- الوضوح: من المهم أن يكون الخطاب التبليغي واضحًا غاية الوضوح، حيث إن تدني المستوى المعرفي لأولئك الذين يتلقونه يوجد في أذهانهم الكثير من الالتباس والخلط في التفسير. ولو أنك سألت عشرة من الناس عن خلاصة ما فهموه من إحدى خطب الجمعة لوجدت تفاوتًا بيَّنًا في خلاصاتهم. إن من الحيوي أن ندرك أن سوء الفهم ليس حادثًا نادرًا، وأن الواحد منا لو شرح فكرته عشرين مرة، فليس هناك أي ضمان لاستيعاب السامعين لها على النحو الذي يريد.
إن اللغة ناقل غير كفء، وإن الناس حين يسمعون كلامًا يفهمونه في ضوء ما لديهم من خلفيات معرفية، بل إن كثيرًا منهم يقرؤون تلك الخلفيات ويبلورونها عوضًا عن الاشتغال بفهم ما سمعوه.
ومن هنا فإن من المفيد أن نحاول التأكد من أن الناس فهموا فعلاً ما نقوله لهم كما نعنيه تمامًا. تكرار بعض المقاطع، وعدم تركيز المعاني في ألفاظ قليلة، وعدم الإكثار من ذكر أعداد التقسيمات والفوائد والمضار من الأمور التي تضفي على الخطاب طابع الوضوح، وتجعله قريبًا من تناول الأفهام. وقد كان – صلى الله عليه وسلم- يكرر بعض الجمل المهمة حتى تُحفظ عنه. والتكرار يساعد الذاكرة، ويخفف العبء عن جهاز الإدراك والتحليل. ومن الملاحظ في القرآن الكريم وفي السنة النبوية أن الخصال والميزات والأقسام على نحو عام لا تتجاوز الخمسة إلا على سبيل الندور، وذلك حتى لا يشق على الناس حفظها.
وأعتقد أن التركيز على شرح التعريفات يساعد الناس على الفهم الصحيح، وإذا أوردنا مصطلحًا غريبًا فلنحاول تبسيطه قبل تجاوزه.
2- التأثير والإقناع يشكل هدفًا مزدوجًا للخطاب التبليغي الشعبي، وربما كان طابع التأثير ألصق به، حيث إنه في الغالب لا يشتمل على معلومات جديدة، ولا يكشف عن خبايا وقضايا مجهولة، إنه يذكر بالأصول والحدود والآداب، ويستنهض الهمم للزوم الجادة والأخذ بالتي هي أقوم، كما أنه يحذر الناس من عواقب المعاصي والشرور التي انزلقوا إليها. وهذا كله جعل حامل هذا الخطاب محتاجًا إلى أن يمتلك قدرًا غير قليل من الحماسة لمقولاته وقدرًا من العاطفة الجياشة؛ لأنه من غير ذلك لا يستطيع التأثير في عواطف السامعين، ولا يظهر الفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة- على حد قول أحدهم-. وهذا يملي على الخطباء والوعاظ خصوصًا وحملة هذا الخطاب عمومًا أن يدخلوا في موازنة دقيقة، بين البقاء أوفياء للحقائق التي يبشرون بها والأدلة والبراهين التي يستندون إليها، وبين كسب القلوب التي يحاولون التأثير فيها، إنهم يجدون أنفسهم في حالة من التردد بين الحقيقة والعاطفة؛ وإن التاريخ ليشهد، وإن الواقع لينطق بأن الذين أخفقوا ويخفقون في إقامة هذه الموازنة أكثر بكثير من الذين ينجحون. وظاهرة (القصّاص الكذبة) ليست ظاهرة تاريخية، نقرأ عنها، وإنما هي ظاهرة مستمرة، فتذوق منها مرارة يومية. ومن المعروف أن بعض القصّاص والوعاظ وضعوا أحاديث ونسبوها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- وكان دافعهم – في أحسن الأحوال- تكثير سواء المهتدين. وحين ذُكَّر أحدهم بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: " من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " قال: نكذب له لا عليه!! وفي أيامنا هذه انتشر في العالم الإسلامي وباء المبالغة والتهويل في ذكر المحاسن والإيجابيات وذكر المساوئ والسلبيات. وهذا لا يختلف كثيرًا عن تضليل العقول بالكذب الصراح! وهناك أشخاص يلبسون ثياب الدعاة الهداه، لكنهم لا يملكون شيئًا من رشد الداعية ولا تذمم الفقيه، وهم ينشرون الخرافات والأوهام والغرائب والشذوذات ويصورونها للناس على أنها من الأمور الثابتة والبينة التي لا تقبل الجدل والنظر!
إن تنمية الخطاب التبليغي وتنقيته من الشوائب تعد مسؤولية عامة لكل أهل الفهم والغيرة، وإن قوله – صلى الله عليه وسلم-: " بلغوا عني ولو آية " يفيدنا أن في إمكان السواد الأعظم من الناس أن يقوموا بواجب البيان والتبليغ. وإن هذا الخطاب يحمل – على نحو جوهري- عبء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني أن أعدادًا كبيرة من المسلمين تسهم في تشويهه، وتستطيع في الوقت ذاته – لو أرادت – النهوض به.
إن بداية الطريق لرفع سوية هذا الخطاب وجعله ألصق بالحق وأقوم لله – تعالى- بالقسط- وربما كانت تتمثل في أن نضع في أذهاننا جميعًا أن الواحد منا بمجرد التصدي للوعظ والإرشاد والأمر والنهي، يضع قدمه على أرض هشة وخطرة، حيث يعرّض نفسه للسحب من رصيد الحقيقة لحساب الرغبة في التأثير في الناس والعدول بهم إلى الطريق الصحيح. وحين يترسخ هذا المعنى في نفوسنا وعقولنا فإنه يكون قادرًا على توليد حاسة جديدة نتلمس من خلالها أشكال الزيف وضروب الزيغ.
3- الخطاب التبليغي ينقل رسالة، ويحاكم الحياة العامة إلى نموذج إسلامي نقي وسام مستمد من نصوص الكتاب والسنة وحياة السلف الصالح، ومقتبس من الصور الزاهية للنجاحات الإسلامية في كل زمان ومكان. وله دور جوهري وعظيم في بقاء الإسلام حيًّا في النفوس وفي تنمية النزعة نحو التعالي القيمي والأخلاقي لدى المسلمين في أصقاع الأرض، لكن لصعوبة تقدير حجم المسافة التالة التي يجب أن تفصل بين المثال والواقع، وما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فإن الخطاب التبليغي مصاب بالنزوع إلى مثالية مفرطة في قراءة النموذج الإسلامي الذي يمكن لمعظم الناس أن يكيفوا حياتهم معه، كما أنه مصاب بالمثالية الزائدة في قراءة الواقع التاريخي حيث يتم أخذ الناس بالعزيمة، كما يتم تصوير حياة السلف بناء على تتبع سير رجال محدودين لا يشكلون أكثر من 1% من السابقين. وبناء على الإفراط في هذا أو ذاك، فإن لدى كثير من حملة الخطاب التبليغي شعورًا بالمرارة الشديدة من انحراف مسلمي عصرنا وتنكبهم لجادة الاستقامة. وهذا جعل ذلك الخطاب يتشح بوشاح من اليأس والإحباط، وينعكس ذلك باستمرار في صور صارخة من التقريع واللوم والعتب. وهذا مع مخالفته لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحث على التبشير والبعد عن التنفير؛ فإنه يزرع في نفوس الناس نوعًا من احتقار الذات ونوعًا من الضيق من سماع القائمين على أمور الوعظ والإرشاد.
إن بين تعريف المسلمين بواقعهم وبين تنفيرهم وتيئيسهم هامشًا ضيقًا يجب إدراكه بعناية. وإن التشجيع واللغة اللطيفة والقول الليّن تستخرج أنبل ما في نفوس الناس من معاني الاستجابة والاندفاع للعمل.
4- في ظل موجات اللهو وفي ظل الدفق الثقافي الهائل الذي يتعرض له الجمهور الإسلامي صارت معرفة الناس بأمور دينهم آخذة في التقهقر وصار من المهم بمكان التركيز على (المعرفة الفقهية) ولا سيما الأحكام المتعلقة بالسلوك الشخصي للمسلم. إن الفقه في الدين يشكَّل في كل الأحوال فضيلة من الفضائل الكبرى وباباً عريضاً من أبواب الخير.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم-: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".
إن من المهم جداً أن تشكل معرفة الحلال والحرام قاعدة الثقافة لدى الجماهير المسلمة من أجل تأسيس وعي مرتبط بالشريعة الغراء وتأسيس وازع داخلي يوجه سلوك المسلم في سره وعلنه. وإن خطبة الجمعة تشكل فرصة ذهبية لمثل هذا التثقيف. ولو أن الخطيب عرض في الخطبة الثانية حكماً فقهياً مما تمس حاجة الناس إليه لأفاد الناس بمعرفة نحو من مئتين وستين مسألة في خمس سنوات وهذا يشكل خلفية فقهية جيدة إذا تم اختيار تلك الأحكام بعناية.
إننا لا ننتبه أحياناً إلى أن الناس يتقبلون الأحكام الفقهية وكل ما يشكّل معطيات علمية ثابتة أكثر من تقبلهم للوعظ والإرشاد الذي يمنح المتحدث نوعاً من التفوق المباشر عليهم. كما أن الحديث في الأمور الفقهية – بوصفها أمورًا بعيدة عن التقدير الشخصي- يمنح المتحدث مصداقية لدى المستمعين أعلى من المصداقية التي ينالها الوعاظ.
5- اعتدال الخطاب التبليغي شيء جوهري، فعمل الداعية أشبه بعمل الطبيب الذي يرى أن من الضروري أن يطلع المريض على علته، وأن يدله على الترياق، ويفتح أمامه باب الأمل في الشفاء. وهذا في الحقيقة ينطوي على موازنة دقيقة؛ فحين يكون تناول الدواء مزعجاً ومكلفاً فإن الناس يعرضون عنه. وحتى لا يعرضوا عنه فإن عليك أن توضح أهميته بالنسبة إليهم. ولا تستطيع بلوغ ذلك ما لم تبين لهم خطورة الداء الذي لديهم، وحين تفعل ذلك فإنك تعرضهم للشعور باليأس والإحباط؛ وهذا ما يجعلهم يعرضون عن الدواء!.
قد يكون من المفيد في هذا أن نقرن الحديث عن الأزمات بالحديث عن الحلول الممكنة لها، وأن نحاول دائماً عدم تضخيم الأمور؛ فاللغة بسبب عجزها الظاهر عن تحديد الصفات والكيفيات تغرينا بالمبالغة، إذ يمكن دائماً أن نصف كثيراً من الأحداث بأنه نكبة أو كارثة كبرى.
وسيظل بث روح الأمل والاستبشار بالتقدم والازدهار أقرب إلى روح الشريعة الغراء وأعون للناس على النهوض.
6- يحتاج صانعو الخطاب التبليغي إلى إغنائه بالمفاهيم والأفكار التي تدل الناس على دورهم الشخصي في الحياة. في العقود الخمسة الماضية – على الأقل- كان لدينا تركيز مبالغ فيه على المقولات الإصلاحية العامة، حيث كانت هموم الأمة تسيطر علينا سيطرة كبيرة، وكان ذلك ينعكس بصورة مباشرة على خطابنا التبليغي، وصار من المألوف أن يتحدث الخطباء أمام العامة عن انكسارات الأمة وسيطرة الأعداء عليها وسلبهم لخيراتها، كما صار من المألوف المقارنة بين أحوال السلف وما نالوه من المنعة والتمكين وبين أحوالنا وما نحن فيه من ضعف واستلاب. ولم نخرج من ذلك بأي شيء ذي قيمة سوى إشاعة الإحباط وتوفير مادة لجلد الذات!.
إن الحديث عن هموم الأمة وعن الإصلاحات الكبرى والشاملة ينبغي أن يظل –إلى حد بعيد- في نطاق الخطاب الصفوي النخبوي. أما الخطاب التبليغي فالأولى به الاهتمام بدلالة الناس – على نحو مفصل ومسهب- على ما عليهم عمله للارتقاء بذواتهم وتحسين كفاءاتهم ومهاراتهم، وما عليهم عمله لتحسين صلتهم بالله – تعالى- وتحسين علاقاتهم بعضهم مع بعض، وكل ما يمكن أن نطلق عليه (الخلاص الشخصي).
إن المجال الخاص هو مجال التأثير الحقيقي للإنسان العادي؛ ومن المهم أن يتعلم كيف يتحرك في ذلك المجال. إن الناس في حاجة إلى من يعلّمهم كيف يوجهون إدراكهم، ويسيطرون على رغباتهم، ويحافظون على أوقاتهم، ويديرون الموارد والإمكانات المحدودة التي في حوزتهم وينبغي أن يكون هذا من المهام الجوهرية للخطاب التبليغي.
7- الحصيلة اللغوية لدى العامة وأشباههم ضئيلة، وهذا يعني أن جهاز التفكير لديهم سيكون ضعيفاً، كما أن آفاق الفهم والاستدلال تكون لديهم أيضاً محدودة. وهذا يملي على صانعي الخطاب التبليغي العديد من المهمات، أذكر منها الآتي:
أ- إثراء ذلك الخطاب بالتشبيهات والأمثلة الحسية. وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية الكثير من ذلك. إن التشبيه ينقل الإدراك من معالجة أمر معنوي إلى معالجة أمر مادي ملموس. وإدراك المحسوس أسهل بكثير من إدراك المجرد والمعنوي. وكثير من الخطباء اللامعين والمتحدثين المؤثرين صاروا كذلك بسبب وفرة الأمثلة والتشبيهات الحسية التي يستخدمونها.
ب- البعد عن ذكر الشُّبه والمآخذ التي يوردها المخالفون وأعداء الإسلام؛ إذ ما الذي سيستفيده الناس إذا حدثناهم عن شبهة انتشار الإسلام بالسيف أو شبهة الرق في الإسلام... وهم لم يسمعوا بكل ذلك، ولا ينظرون إليه على أنه يثير إشكالية لديهم. إن الخطاب الصفوي هو المجال الحقيقي لتداول هذه القضايا. ونحن حين نثير الشبه أمام الناس نضع الإسلام في موقف دفاعي، هو في غنى عنه
كما أن هناك احتمالاً لأن تعلق الشبهة في أذهان الناس بسبب ضعف الرد المستخدم في تفنيدها. وقد وصف بعض أهل العلم الفخر الرازي في تفسيره بأنه يسوق الشبه نقداً، ويرد عليها نسيئة.
وقد سمعت من أحد من كَتب حول الشبه أسفه لذلك، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت ذلك الكتاب. نعم حين يتحدث الناس عن أمر مغلوط في مجالسهم ومسامراتهم، لا يبقى لنا خيار سوى الحديث فيه.
ج- البعد عن الخلافيات والتفريعات الدقيقة والتعليلات المتعمقة شيء أساسي في الخطاب التبليغي. إن العامي لا مذهب له، ومذهبه مذهب مفتيه، وينبغي أن تكون الفتوى على قدر السؤال وعلى قدر الحاجة، وذكر الخلافيات – من غير حاجة- يؤسس لدى العامة لعقلية التساهل؛ لأنهم لا يعرفون موارد الاختلاف وأسبابه الموضوعية. وذكر التفريعات يربك وعيهم، ويتسبب في إدخال الأوهام عليهم.
د- إن بساطة التفكير لدى العامة تجعل الطريق إلى تغيير سلوكهم يمر أساساً على القلب، وليس على العقل، فلغة المشاعر والأرواح مفهومة لديهم أكثر من لغة المنطق والبراهين. وإن من المهم لكسب عقول الناس أن نكسب قلوبهم. وهذا يتطلب أن يكونوا أثناء مخاطبتهم في وضع نفسي مريح. ولعل مما يساعد على ذلك أن نخفف من مستوى الجدية في كلامنا، وذلك بأن نضفي عليه مسحة خفيفة من الطرفة والدعابة. وقد كان – صلى الله عليه وسلم- كثير التبسم، كما كان يمازح أصحابه، ويقبل ممازحتهم، كما كان يضحك لضحكهم، ويعجب مما يعجبون منه. إن المسلمين مثقلون بأنواع الهموم، وهم في حاجة إلى درجة من التفريج العصبي، وعلينا أن نتيح لهم ذلك. إن الطرفة تُحدِث تواصلاً بين المتحدث وسامعيه أشبه بالتفاعل الكيميائي، وإن عيون الناس حين يضحكون من طرفة سمعوها تلمع بمشاعر الامتنان لمن أضحكهم. كما أن الطرفة تكسر الحاجز النفسي الذي يصنعه موقف الخطيب والواعظ، وهذا ضروري للتأثير في الناس.
إنني أعتقد أن حاجتنا ماسَّة إلى الكثير من البحث والتداول في خصائص الخطاب النخبوي والخطاب التبليغي إذا ما كنا نريد فعلاً للجهود الدعوية والإصلاحية أن تؤتي ثمارها على المستوى المطلوب.
والله ولي التوفيق،
مختارات