أنماط: (26) نمط المحتكرين للإسلام
ومن أبشع الأنماط والنماذج وأخطرها نمط المحتكرين للديانة المتسلِّطين على المِلَّة الذين يظنون أن الإسلام وحقيقته سلعة يمكنهم احتكارها والاستحواذ عليها!
ومن المشهور في ديننا ذلك النهي عن احتكار السلع الضرورية التي يحتاجها الناس ومنعها عنهم بغية زيادة سعرها والتكسب من وراء ذلك الاحتكار..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أنْ يُغْلِيَ بِها على المسلمينَ؛ فهوَ خَاطِئٌ» (حسَّنه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة).
وعلى ما يبدو أن ذلك الاحتكار لم يعد اليوم قاصرًا على احتكار السلع أو أقوات الناس؛ ولكنه صار يمتد ليصل إلى احتكار الفِكر والرأي والحقيقة ثم احتكار الدين نفسه للأسف.
نعم هذا هو الواقع المحزن..
صار هناك بيننا اليوم محتكرون للدين مُتسلِّطون على الملة وليس مجرَّد متاجرين به مقتاتين عليه!
إنهم أناس نصَّبوا أنفسهم أو نصَّبهم غيرهم أوصياء على ديننا محتكرين لحقيقته جاعلين من أنفسهم بوابات لا يحق لأحد أن يلج إلى الدين إلا من خلالها!
يستوي في أصل ذلك التسلُّط والاحتكار أولئك الأضداد ممن عينتهم السلطة أو من معارضيهم مع اختلاف في درجات وآليات التسلط وفرض الرأي والتوجه!
بل حتى عوام الناس من البسطاء وجمهور المساجد في خطب الجمعة صار لهم أيضًا نصيب من احتكار فهم الدين والتسلُّط على المُخالِف.. فلا تكاد تجد خطبة يتجرأ الخطيب فيتكلَّم في أمرٍ لا يعجب المستمعين إلا ويناله من أذاهم اللفظي وأحيانًا البدني، وربما لا يستطيع أن يكمل خطبته ويظل على منبره لمجرَّد أن بعض المستمعين المحتكرين قد قرَّروا أن ما قاله ليس هو الدين الذي يعرفون..
هل هناك ضوابط معينة أو معايير علمية محددة لذلك القرار المتبوع بتطاول لفظي أو بدني؟!
الجواب: لا.
عليك فقط أن تأتي على جرح للمؤيد أو للمعارض على سواء.. ولو بمجرَّد تلميح ربما لا يكون مقصودًا.. بمجرَّد تلميح ربما لا يكون مقصودًا -بل غالبًا في إطار هذا الإرهاب الفكري لا يكون مقصودًا- لكن يكفيك جُرمًا أن السادة المحتكرين قرَّروا فهمه كما يحلو لهم!
أتذكَّر يومًا عنَّفني فيه أحد المصلين بعد نزولي من على المنبر لأنني لم أتحدَّث عن الحجاب على المنبر! بينما يرى سيادته أن هذا واجب الوقت الذي ينبغي على كل الخطباء أن يتحدَّثوا عنه!
تصوَّر يا مؤمن!
لم يعترض على موضوع الخطبة -التي كانت بالمناسبة عن الله جل وعلا وعن معرفته والتقرب منه- ولم يقل كما جرت العادة لماذا قلت كذا؟! ولماذا ألمحت عن كذا؟! ولكن هذه المرة كان الاعتراض لماذا لم تتكلَّم عن كذا!
ويكأن الخطيب عليه أن يتحوَّل إلى برنامج ما يطلبه المستمعون ليس ليُعجِبهم؛ ولكن فقط ليَسلَم من إهانتهم وتطاولهم لكن يكفيك جُرمًا أن السادة المحتكرين قرَّروا فهمه كما يحلو لهم وإلا نصَّبت المحكمة!
لماذا تكلَّمت عن كذا؟!
وهل كنت تقصد بإشارتك كذا؟!
ولماذا لم تتكلَّم عن كذا وكذا؟!
هذا المثال غيضٌ من فيض ونموذج بسيط على ما يحدث اليوم في بلادنا من احتكار تسلُّطي للدين على مستوى عوام الناس فما بالك بخواصهم ونخبتهم!
أولئك الذين يتحملون النصيب الأكبر من المسؤولية عن تلك الحالة والتي ترسخ فيها أن من يختلف معهم ليس من الإسلام وأن الإسلام بريء من تشدُّدِه أو تفريطه..
يستوي في أصل ذلك الخطاب الإقصائي -مع اختلاف في آليات تنزيله على الواقع- أولئك الذين هم موالون للسلطة، ومن هم في خندق معارضتها.. ولا يتورَّعون عن تضييق مفهوم الدين وقصره في مناهضة الحاكم وحسب؛ حتى أن تعليم الناس الخير أو دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والرغبة في توبتهم وأوبتهم وتغييرهم للأفضل صار في عرف هؤلاء - هروبًا أو ضعفًا وتخاذلًا وحتى لو كان ذلك الداعي ممن لم يسكتوا عن حق أو يتخاذلوا عن مبادئهم وقيمهم والصدع بما يدينون به في مواطنه!
لكن مجرَّد أنه لم يتكلَّم أربعًا وعشرين ساعة فيما يريدون ويجيدون فإن ذلك يكفي لنبذه ولفظه واحتقار جهده وبذله واعتباره هروبي منبطح!
خطاب إقصائي مُتكبِّر استحل متبنُّوه أن يُعيِّنوا أنفسهم قضاةً يحاكمون الناس على فهمهم هم للدين، وبدلًا من أن يتواضعوا كما تواضع من هم أفضل منهم فقالوا: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب - حكموا على رأيهم بأنه الصواب المُطلق ورأي غيرهم هو الخطأ المبين الذي ينبغي أن يُقمع..
خصوصًا لو كانت السلطة في أيديهم..
حينئذ فليمنع هذا الخطيب ولتوقف هذه المجلة وليكتم هذا الصوت لا بنقاش أو معايير علمية تقبل الأخذ والرد والتحسين؛ لكن بتلك العبارة المطلقة الواسعة: هذا ينافي الفكر الوسطي وهذا ينافي صحيح الدين ووسطيته
والسؤال هو: من الذي عينكم لتُحدِّدوا الفكر الوسطي؟!
من جعلكم كهنة وأوصياء على ديننا وأعطاكم الحق لتُحدِّدوا بدون دليل أو نقاش أن هذا ينافي صحيح الدين وهذا يوافقه؟!
من منحكم سلطة توزيع الصكوك التي تقرر أنه هذا ليس هو الإسلام؟!
ودائمًا تصدر حينئذٍ عبارةً أخرى في وجهك يصيح بها أولئك المحتكرون المتسلِّطون فحواها: لسنا ضد الإسلام ولكننا ضدكم فأنتم لستم الإسلام!
ولا أنتم كذلك الإسلام..
ولا أحد من المخلوقين يُمثِّل الإسلام..
الإسلام هو القرآن والسُنَّة الصحيحة..
الإسلام هو سِعةٌ وتنوُّعٌ ورحمةٌ وجدالٌ بالحسنى بل بالتي هي أحسن..
أين في ديننا هذا التسلُّط والوصاية من هؤلاء وأولئك؟!
الإسلام أرحب وأرحم بكثيرٍ من ذلك التضييق الرسمي وغير الرسمي..
الإسلام دينٌ بلا تأليه للأحبار، أو ادِّعاء حقٌ إلهي لهم، أو كهنوت يُجتبى إليه أشخاص بأعيانهم، وهو دينٌ لا وصاية فيه لمخلوقٍ على مخلوق، وليس فيه صكوك ولا احتكار فارفعوا أيديكم عنه، وانسوا أن تجعلوه يومًا ما سلعةً يُتاجِر بها أحد، أو أن يحتكرها أحدًا خصوصًا أولئك المحتكرين للإسلام..
مختارات