الجَدْب الكِتابي!
بسم الله الرحمن الرحيم
بَعْضُ الشباب المتطلع للثقافة والمعرفة ممن ثنى ركبه –ولا يزال- زمنا في مفاوز الطلب قد جعل بينه وبين القلم وحشة ومنافَرة، فتجده يستثقل للغاية جرَّ القلم ومصاحبته في دروب التعلم، فينقبض قلمه عن الاسترسال بما يجول بخاطره من علوم واستشكالات ولطائف فضلا عن الأحاسيس والمشاعر والتي هي بطبيعتها التكوينية يخنقُها التجاهل ويفتك بها الصدود فتموت في داخله قبل أن تستهلّ وذلك حينما حرمها أن تنمو نموا طبيعيا على مهادِ الأوراق، وتمضي على صاحبنا السنون تباعا وهو يستوحش امتشاق القلم واستدرار الذهن وحيدا في حضرة الكراس ولوحة المفاتيح، أما أن تكون الكتابة ضمن عاداته الدورية التي لا يتخلى عنها بحال فهذا أمر قصيٌّ بعيدُ المنال، إما زهدا بهذه الوسيلة في التحصيل وعدم استشعارٍ تامٍّ بأهميتها في تجويد العلوم والأفكار أساسًا، وإما لظنِّه أنه إن لم يمتلك قلمَ فلان وفلان من الأدباء ومنمقي الجُمَل البديعة ومفذلكي الصياغات الرفيعة؛ فليس له أن يسلك هذا المجال الذي حكم فيه على نفسه حكما مسبقا بالفشل، وهو حكم نهائيٌّ ناجز غير قابل للاستئناف والمراجعة، فيكتفي في مجال الكتابة والتحرير بالمتابعة والتجمهر والترقُّب؛ وإن اضطر للكتابة في مسوَّداته الخاصة أو في شبكات التواصل مثلا؛ بالغَ في الاختصار والاقتضاب والاكتفاء بطرح رأسِ الفكرة ومبدأ الاعتراض وعليك فهم الباقي !
بل يحاول بعضهم إشعارك -من خلال الأخطاء المتعمَّدة في الإملاء والخط والعبارات العامية المقحمة- أنه على عجلةٍ من أمره وأنه الآن يكتب لك من رأس القلم بلا تحرير وتدقيق، وأنه لولا هذه العجلة لأفاض عليك من معارفه ونزح من بئر معلوماته نزحا، وتمضي جميع مكاتباته وتعليقاته واعتراضاته على هذا النسق المتعجِّل؛ فتنقلب العجلة من كونها ظرفا عارضا له أسبابه المعتادة إلى سمة دائمة يتكئ عليها ما دام حيا!
والخاسر من كل ذلك قلمُه الذي يوشك على الموات، وخواطرُه التي لم تلقَ منه يوما ما حفاوةً وترحيب فأمعنت في الصدود والغياب؛ ومعارفه التي حصلها لكنها لم تتبختر مرقومةً أمام عينيه بعد، وأفكارُه التي لن تتحرر ذهنيا حتى تُعتقل ورقيا!
ومن الأوهام الشائعة لدى بعض الناس اعتقادُه أن الكتابة تتحصل فائدتها التامة في مجرَّدِ نقل ما في الذهن إلى الورق، أو نقل ما في الورق إلى ورق آخر، فهي مجرد تفريغ للبضائع العلمية بعربات المحابر، هذا وهم شائع يحجِّم مدى الفائدة من وسيلة الكتابة إلى الغاية، فتجد من يتوهَّم هذا التوهُّم يكثر في حسابه التواصلي وفي كراريسه الخاصة من الاقتباس والنقل المحض للمعارف، ويمرُّ عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت من جوف أقلامِه ضوءُ عبارة! ليس بهذا يلتمع الذهن بالمعارف، وإنما القلم النافع بحق هو الذي كان يقول عنه الخطيب البغدادي: (كان بعض شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج).
وفي الجملة مَن اعتادَ أن ينقل نقلا مجردا ويقرأ في الكتب ليقتبس منها فقط، فإن عقله يفقد تدريجيا متعةَ الاستكشاف الذاتي، ومن جهةٍ أخرى تتعطل مداركه ليتحول ذهنه مع الوقت إلى مجرد أنبوب توصيل بين نقطتين! وقد شخَّص الحافظ ابن حجرَ حالة أحد هؤلاء الوراقين وسببَ فتور ذهنه وانتقاله إلى هذه الحالة المذكورة، فقال:(كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلَّدَ ذهنه بكثرة النسخ).
لقد كانت الكتابة لدى العلماء قديما وحديثا من أعظم وسائل تحصيل العلوم وتحرير الأفكار وتقييد الخواطر وسوانح الأذهان، ومن قبيل الاتفاقات أنني استمعت قبل أيام لحلقة إذاعية ليست مشهورة وجدتها مرفوعة على موقع اليوتيوب وقد أجريت مع الشيخ العلامة محمد العثيمين في منزله في عنيزة بتاريخ 15/10/ 1403 هـــ، وسئلَ الشيخ فيها عن أبرزَ ما شجعه على التأليف ومنهجه في ذلك، فذكر سببين كانا حافزَين له على الدخول في هذا المضمار النافع، أما السبب الأول فهو الذي ندندن حوله في هذه الخاطرة، وقد وجدَ الشيخ ثمرته عليه، ثم ذكر الشيخ في ذيلِه أثر إدمان النقل على جمود الذهن وتكلُّسِه، فقال:
(الذي شجعني على التأليف أمران: أحدهما أن المؤلف يحرص غاية الحرص على أن يتعمق في المادَّة التي يريد التأليف فيها وهذه فائدة عظيمة للمؤلف، أضف إلى ذلك أنه إذا تعمق فيها وقيَّدَ ما تعمق به في هذه المؤلفات فستمكث في نفسه أكثر.. وكان لي ولله الحمد مؤلفات، منها شيء قد طُبِع، ومنها شيء لم يطبع، فمنها أنني شرعت في تفسير آيات الأحكام واستنباط الأحكام منها، لا على سبيل النقل كما يفعله بعضُ الناس.. والإنسان إذا قصر نفسه على اتباع غيره فإنه يجمد ذهنه ولا يستفيد من نصوص الكتاب والسنة..).
فمن الخطأ أن يستغني طالب العلم عن هذه الوسيلة العظيمة في تحصيل العلوم وتحرير الأفكار والخواطر لا سيما وقد أتاحت الأجهزة الذكية وشبكات التواصل بوسائلها المختلفة المجالَ الرحبَ للتَّسويد والكتابة وثرثرة الأقلام، فلئن اختار طالب العلم الصمت في موضع ما، فليسترسل في آخر ولو في مسوداته الشخصية التي ستغدو مع الوقت –إذا أحسن استغلالها- منجما لعقله وملاذا آمنا لنمو معارفه، وحينما ينجح في جعل الكتابة ضمن حاجاته اليومية التي لا يستغني عنها فهو المستفيد أولا وآخرًا!
ليس المقصود تحويل الناس جميعا لكتَّاب؛ أو دفعهم إلى محاكمة المنقولات دون تمييز أو اقتدار إنما المقصود تنمية الملكة إلى السقف الأعلى المتاح والانتفاع بوسيلة الكتابة في تحرير العلوم والأفكار!
مختارات