من فقه المشورة في اقتناء الكتب
بسم الله الرحمن الرحيم
من حكمة المستشار ووَرَعِه أن إذا أشار على أحدٍ من الناسِ بشيء وخصَّه بذلك أن يفتِّشَ حال المستشير كي يكون الجواب ملائِما للحال، فبعض الناس مولعٌ بإطلاق النصائح المفتوحة والاستشارات المطلقة، سواءً عند الوصية بالكتب أو في أمور الحياة الأخرى، وبعض من يطلب المشورة يسأل سؤالا عاما عن كتاب يُنصح به دون أن يَعرِّفَ المستشار بحـــاله واهتمامه وتحصيله ومبلغه من العلم والفهم، وفي الحقيقة في هذا ضرب من المغامرة، فإن الكتب تتباين تباينا واسعا، فما يلائم فلانا قد لا يلائم غيره، بل إن ما يلائم فلانا من الكتب هذا العام، ربما لا يلائمه هو نفسه بعد عام أو عامَين! فهي كالثياب.. لا يوجد ثوب يلائم جميع الأجساد! والتباين بين العقول وتحصيلِها أعظم بكثير من التباين بين الأجساد!
أما الثناء على بعض الكتب مثلا أو ذكر مزاياها دون الإِشارة بها على شخصٍ معيَّن فالأمر في هذا واسع، إنما المراد الاحتراز والتدقيق عند توجيه فردٍ من الناس، وإذا جهل المُستشارُ حالَ المستشير، وأراد أن يوجهه توجيها ينفعه، فعليه أن يذكر له النصائح العامَّة التي تلائم عموم الناس، وتُصلح أحوالَهم، دون دخول بالتفاصيل الدقيقة التي تصلح لبعض آحادهم دون بعض.
وقد بعث أحدهم لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- يستشيره في صنعَةٍ يكتسب منها، وفي كتابٍ يعتمدُ عليه في علم الحديث وفي غيره من العلوم الشرعية، فأجابه الشيخ جوابا عاما طويلا، ومما قاله له جوابا عن الاكتساب:
(وأما تعيين مكسبٍ على مكسبٍ من صناعةٍ، أو تجارةٍ، أو بنايةٍ، أو حراثة، أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئا عاما، لكن إذا عنَّ للإنسان جهةٌ فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البركة ما لا يحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلف غيره..).
ثم قال الشيخ جوابا عن الكتب: (وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم: فهذا بابٌ واسع، وهو أيضا يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم، أو من طريقه، ومذهبه ما لا يتيسر له في بلدٍ آخر، لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقِّي العلم..)
وتلاحظ أن الشيخ أشار ابتداءً إلى خصوصية بعض الاستشارات وملاءمتها لحال بعض الناس دون بعضهم، مما يتعذر معه ذكر جواب تفصيلي يخص به ذلك السائل، ثم ألقى كلاما عاما يلائم عموم الناس ويصلح أحوالهم، فهذا من فقه المستشار وحذقه، أما الأجوبة التفصيلية التي تلقى على جميع الناس رغم تباين أحوالهم، فهي لم تراعِ هذا الفقه العزيز.
مختارات