53. سراقة بن مالك
سراقة بن مالك
"كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! "
[محمد رسول الله]
هبت قريش ذات صباح وجلة مذعورة، فقد سرى في أنديتها أن محمدا قد بارح مكة مستترا بجنح الظلام؛ فلم يصدق زعماء قريش النبأ …
واندفعوا يبحثون عن النبي ﷺ في كل دار من دور بني "هاشم" …
وينشدونه في كل بيت من بيوت أصحابه، حتى أتوا منزل أبي بكر، فخرجت إليهم ابنته أسماء (١).
فقال لها أبو جهل: أين أبوك يا بنت؟.
فقالت: لا أدري أين هو الآن.
فرفع يده ولطم خدها لطمة أهوت بقرطها (٢) على الأرض.
* * *
جن جنون زعماء قريش حين أيقنوا أن محمدا غادر مكة، وجندوا كل من لديهم من قفاة الأثر (٣) لتحديد الطريق الذي سلكه، ومضوا معهم يبحثون عنه … فلما بلغوا غار "ثور" قال لهم قفاة الأثر:
والله ما جاوز صاحبكم هذا الغار.
ولم يكن هؤلاء مخطئين فيما قالوه لقريش، فقد كان محمد وصاحبه في داخل الغار، وكانت قريش تقف فوق رأسيهما، حتى أن الصديق رأى أقدام
القوم تتحرك فوق الغار؛ فدمعت عيناه …
فنظر إليه الرسول ﷺ نظرة حب ورفق وعتاب.
فهمس الصديق قائلا: والله ما على نفسي أبكي …
ولكن مخافة أن أرى فيك مكروها (٤) يا رسول الله.
فقال له الرسول الكريم ﷺ مطمئنا:
(لا تحزن يا أبا بكر، فإن الله معنا).
فأنزل الله السكينة على قلب الصديق، وراح ينظر إلى أقدام القوم.
ثم قال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدميه لرآنا.
فقال له الرسول ﷺ: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين، الله ثالثهما؟!!).
وهنا سمعا فتى من قريش يقول للقوم:
هلموا (٥) إلى الغار ننظر فيه.
فقال له أمية بن خلف ساخرا: ألم تر إلى هذا العنكبوت الذي عشش على بابه؟!! والله إنه أقدم من ميلاد محمد.
غير أن أبا جهل قال: واللات والعزى … إني لأحسبه قريبا منا يسمع ما نقول، ويرى ما نصنع.
ولكن سحره ران (٦) على أبصارنا …
* * *
بيد (٧) أن قريشا لم تنفض يدها من أمر العثور على محمد، ولم ينثن (٨) عزمها عن ملاحقته؛ فأعلنت في القبائل المنتشرة على طول الطريق بين مكة والمدينة: أن من يأتها بمحمد حيا أو ميتا فله مائة من كرائم الإبل.
* * *
كان سراقة بن مالك المدلجي في ندي (٩) من أندية قومه في "قديد" قريبا من مكة.
فإذا برسول من رسل قريش يدخل عليهم، ويذيع فيهم نبأ الجائزة الكبرى التي بذلتها قريش لمن يأتيها بمحمد حيا أو ميتا.
فما كاد سراقة يسمع بالنوق المائة حتى اشرأبت (١٠) إليها أطماعه، واشتد عليها حرصه … ولكنه ضبط نفسه، فلم يفه بكلمة واحدة؛ حتى لا تتحرك أطماع الآخرين.
وقبل أن ينهض سراقه من مجلسه دخل على الندي رجل من قومه وقال:
والله لقد مر بي الآن ثلاثة رجال، وإني لأظنهم محمدا وأبا بكر ودليلهما.
فقال سراقة: بل هم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلوها (١١).
فقال الرجل: لعلهم كذلك، وسكت …
ثم مكث سراقة قليلا حتى لا يثير قيامه أحدا ممن في الندي …
فلما دخل القوم في حديث آخر انسل (١٢) من بينهم، ومضى خفيفا
مسرعا إلى بيته، وأسر (١٣) لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة من أعين الناس وأن ترتبطه له في بطن الوادي.
وأمر غلامه بأن يعد له سلاحه، وأن يخرج به من خلف البيوت حتى لا يراه أحد … وأن يجعله في مكان قريب من الفرس …
* * *
لبس سراقة لأمته (١٤)، وتقلد سلاحه، وامتطى صهوة (١٥) فرسه، وطفق يغذ (١٦) السير ليدرك محمدا قبل أن يأخذه أحد سواه، ويظفر بجائزة قريش.
* * *
كان سراقة بن مالك فارسا من فرسان قومه المعدودين، طويل القامة، عظيم الهامة، بصيرا باقتفاء الأثر، صبورا على أهوال الطرق …
وكان إلى ذلك كله أريبا لبيبا شاعرا …
وكانت فرسه من عتاق (١٧) الخيل.
* * *
مضى سراقة يطوي الأرض طيا، لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها، فتشاءم من ذلك، وقال: ما هذا؟! … تبا (١٨) لك من فرس، وعلا ظهرها غير أنه لم يمض بعيدا حتى عثرت به مرة أخرى فازداد تشاؤما، وهم بالرجوع؛ فما رده عن همه إلا طمعه بالنوق المائة.
* * *
لم يبتعد سراقة كثيرا عن مكان عثور فرسه حتى أبصر محمدا وصاحبيه فمد يده إلى قوسه، لكن يده جمدت في مكانها …
ذلك لأنه رأى قوائم فرسه تسيخ (١٩) في الأرض، والدخان يتصاعد من بين يديها، ويغطي عينيه وعينيها …
فدفع الفرس فإذا هي قد رسخت (٢٠) في الأرض كأنما سمرت فيها بمسامير من حديد.
فالتفت إلى الرسول ﷺ وصاحبه، وقال بصوت ضارع:
يا هذان ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي …
ولكما على أن أكف عنكما.
فدعا له الرسول ﷺ، فأطلق الله له قوائم فرسه …
لكن أطماعه ما لبثت أن تحركت من جديد، فدفع فرسه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل.
فاستغاث بهما، وقال: إليكما زادي ومتاعي وسلاحي فخذاه، ولكما على عهد الله أن أرد عنكما من ورائي من الناس …
فقالا له: لا حاجة لنا بزادك ومتاعك، ولكن رد عنا الناس …
ثم دعا له الرسول ﷺ فانطلقت فرسه.
فلما هم بالعودة، ناداهم قائلا:
تريثوا أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه.
فقالا له: ما تبتغي منا؟!.
فقال: والله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينك، ويعلو أمرك فعاهدني
إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني، واكتب لي بذلك …
فأمر الرسول صلوات الله عليه الصديق فكتب له على لوح من عظم، ودفعه إليه … ولما هم بالانصراف قال له النبي:
(وكيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!).
فقال سراقة في دهشة: كسرى بن هرمز؟!.
فقال ﷺ: (نعم … كسرى بن هرمز).
* * *
عاد سراقة أدراجه، فوجد الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلوات الله عليه فقال لهم: ارجعوا، فقد نفضت الأرض نفضا (٢١) بحثا عنه …
وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر (٢٢)، فرجعوا.
ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة وأصبحا في مأمن من عدوان قريش، عند ذلك أذاعه … فلما سمع أبو جهل بخبر سراقة مع النبي وموقفه منه؛ لامه على تخاذله وجبنه وتفويته الفرصة … فقال سراقة يجيبه على ملامته:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا … لأمر جوادي إذ تسوح قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا … رسول ببرهان، فمن ذا يقاومه؟!
* * *
دارت الأيام دورتها …
فإذا بمحمد الذي خرج من مكة طريدا شريدا مستترا بجنح الظلام يعود
إليها سيدا فاتحا تحف به الألوف المؤلفة من بيض السيوف وسمر الرماح …
وإذا بزعماء قريش الذين ملأوا الأرض عنجهية وغطرسة (٢٣) يقبلون عليه خائفين واجفين؛ يسألونه الرأفة ويقولون: ماذا عساك تصنع بنا؟!.
فيقول لهم في سماحة الأنبياء: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) …
عند ذلك أعد سراقة بن مالك راحلته، ومضى إلى رسول الله ﷺ ليعلن إسلامه بين يديه؛ ومعه العهد الذي كتبه له قبل عشر سنوات.
قال سراقة:
لقد أتيت النبي ﷺ "بالجعرانة" (٢٤)، فدخلت في كتيبة من الأنصار، فجعلوا يقرعونني (٢٥) بكعوب (٢٦) الرماح ويقولون:
إليك، إليك (٢٧)، ماذا تريد؟! … فما زلت أشق صفوفهم حتى غدوت قريبا من رسول الله ﷺ، وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب وقلت:
يا رسول الله …
أنا سراقة بن مالك … وهذا كتابك لي …
فقال الرسول:
(أدن مني يا سراقة أدن … هذا يوم وفاء وبر).
فأقبلت عليه وأعلنت إسلامي بين يديه.
ونلت من خيره وبره …
* * *
لم يمض على لقاء سراقة بن مالك لرسول الله ﷺ غير بضعة أشهر حتى اختار الله نبيه إلى جواره …
فحزن عليه سراقة أشد الحزن، وجعل يتراءى له ذلك اليوم الذي هم فيه بقتله من أجل مائة ناقة، وكيف أن نوق الدنيا كلها قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة (٢٨) من ظفر النبي ﷺ.
وجعل يردد قولته له: (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!) دون أن يخامره شك في أنه سيلبسهما.
* * *
ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى وآل أمر المسلمين إلى الفاروق رضوان الله عليه.
وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس كما يهب الإعصار …
فطفقت تدك الحصون، وتهزم الجيوش، وتهز العروش، وتحرز الغنائم حتى أدال (٢٩) الله على يديها دولة الأكاسرة …
وفي ذات يوم من أواخر أيام خلافة عمر، قدم على المدينة رسل سعد بن أبي وقاص (٣٠) يبشرون خليفة المسلمين بالفتح …
ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غيمه الغزاة في سبيل الله.
فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر؛ نظر إليها في دهشة …
فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر …
وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب …
ووشاحه (٣١) المنظوم بالجوهر.
وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط …
وما لا حصر له من النفائس الأخرى.
.
فجعل عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيب كان في يده …
ثم التفت إلى من حوله وقال:
إن قوما أدوا هذا لأمناء …
فقال له علي بن أبي طالب وكان حينئذ حاضرا:
"إنك عففت؛ فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين …
ولو رتعت لرتعوا (٣٢) … ".
وهنا دعا الفاروق رضوان الله عليه سراقة بن مالك، فألبسه قميص كسرى وسراويله، وقباءه (٣٣) وخفيه …
وقلده سيفه ومنطقته (٣٤) …
ووضع على رأسه تاجه …
وألبسه سواريه … نعم سواريه …
عند ذلك هتف المسلمون:
الله أكبر … الله أكبر … الله أكبر …
ثم التفت عمر إلى سراقة وقال: بخ بخ (٣٥) …
أعيرابي (٣٦) من بني "مدلج" على رأسه تاج كسرى …
وفي يديه سواراه!! …
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
اللهم إنك منعت هذا المال رسولك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك …
ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك …
وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي (٣٧) …
ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين المسلمين (*).
_________
(١) أسماء بنت أبي بكر: انظرها في كتاب "صور من حياة الصحابيات"، للمؤلف.
(٢) أهوت بقرطها: أسقطت حلقتها، وجعلتها تهوي هويا.
(٣) قفاة الأثر: متتبعو الأثر.
(٤) أن أرى فيك مكروها: أن أرى فيك ما أكره.
(٥) هلموا: تعالوا، وأقبلوا.
(٦) ران: غطى.
(٧) بيد أن: إلا أن.
(٨) لم ينثن: لم يتراجع ولم يرتد.
(٩) الندي: مكان اجتماع القوم.
(١٠) اشرأبت: تطلعت.
(١١) أضلوها: أضاعوها.
(١٢) انسل: انسحب برفق وخفة.
(١٣) أسر لجاريته: أمرها سرا.
(١٤) لأمته: درعه.
(١٥) الصهوة: مكان قعود الفارس على الفرس.
(١٦) يغذ السير: يسرع في السير.
(١٧) الخيل العتاق: الخيل الأصيلة الكريمة.
(١٨) تبا: هلاكا.
(١٩) تسيخ في الأرض: تغوص في الأرض.
(٢٠) رسخت في الأرض: ثبتت في الأرض.
(٢١) نفضت الأرض نفضا: نظرت فيها شبرا شبرا.
(٢٢) بصري بالأثر: معرفتي به.
(٢٣) عنجهية وغطرسة: تكبرا وتجبرا وتطاولا.
(٢٤) الجعرانة: مكان بين مكة والطائف، وهو إلى مكة أقرب.
(٢٥) يقرعونني: يضربونني.
(٢٦) كعب الرمح: مؤخرته.
(٢٧) إليك إليك: ابتعد، ابتعد.
(٢٨) القلامة: القطعة الصغيرة التي تسقط من الظفر.
(٢٩) أدال الله دولة الأكاسرة: أزالها وحولها إلى غيرهم.
(٣٠) سعد بن أبي وقاص: انظره ص ٢٨١.
(٣١) الوشاح: قلادة من نسيج ثمين يرصع بالجوهر، ويشد بين الكتف وأسفل الظهر.
(٣٢) لو رتعت لرتعوا: لو أكلت لأكلوا.
(٣٣) القباء: الثوب.
(٣٤) المنطقة: حزام يشد على الوسط.
(٣٥) بخ بخ: كلمة تقال عند التعجب من شيء أو الفخر به.
(٣٦) أعيرابي: تصغير أعرابي.
(٣٧) لتمكر بي: لتعاقبني.
مختارات