ليس دائرة معارف . . ولكنه سفر الحوالي
كنت أعيش في جدة قبل ثمانية عشر سنة، وكنا ننطلق كل يوم أحد أنا وأخي لحضور درس الدكتور سفر الحوالي الأسبوعي..
نخرج من حي السليمانية مخترقين الجامعة.. فسورها ملتصق بحينا من الجهة الجنوبية.. ثم ومن دوار الجامعة نسلك جنوبا.. نصل إلى شارع محمد فدا.. نقطعه ببطء.. لأنه مكتظ بكل شيء في العالم تقريبا.. ثم نصل إلى شارع
باخشب فنتجه من هناك غربا.. وما هي إلا عشرات الأمتار حتى يلوح لنا أكبر مسجد في جدة.. إنه جامع الأمير متعب..
مسجد تراثي عريق تحيط به تلك الأيام عشرة تسجيلات إسلامية أو تزيد من بينها المقر الرئيسي لدار البلاغ، أشهر تسجيلات في جدة، وهي تقابل في تلك الأيام " التقوى " في الرياض و " أحد " في القصيم.. بل أظنها استوت على سوقها قبل أن تولد مؤسسة أحد.. وأيضا مؤسسة محسن التي أنتجت سلسلة تربوية للأطفال من أروع السلاسل الهادفة..
ولا أقارن مساحة ذلك المسجد إلا بمسجد العباس في الطايف.. كان يمتلئ عن بكرة أبيه بالحضور لدرس ما بعد المغرب " أجوبة اللقاء الأسبوعي ".. وكان الدرس تظاهرة علمية واجتماعية بل وتجارية.. فقد كانت البسطات
بعد الدرس تعيق الحركة من كثرتها والتحامها ببعضها..
لم أكن أفهم من كلام الشيخ سفر إلا أقل من الربع.. أما ثلاثة أرباع كلامه فقد كان يناقش فيه أقوال فرق ومذاهب ونحل لم أسمع بها من قبل.. فلو سألتني في تلك الأيام ما الأشعرية.. فقد أجيبك أنها أكلة شامية.. أو أنها منظومة في مصطلح الحديث.. بحكم أن الشيح حسن أبكر في المعهد العلمي أدخلنا في تلك الأيام عالم حفظ المنظومات.. والتي لم أحفظ منها غير عشرين بيتا من بداية تحفة الأطفال.. وأول سبعة أبيات من الرحبية.. وهذا من أدلة الفلحنة المبكرة.. ما علينا
ومما أذكره أنه ما إن ينتهي درس الشيخ ونؤدي صلاة العشاء حتى تجد تلك التسجيلات كلها تبيع وتوزع على التسجيلات الأخرى مادة ذلك الدرس.. حتى لو أراد الشيخ تدارك خطأ أو هفوة وقعت أثناء كلامه في الدرس لم يستطع الشروع في ذلك التدارك إلا وقد وصل الشريط إلى صامطة جنوبا والقليبة شمالا وعسفان غربا.. والنعيرية شرقا..
وكما كان الدرس تظاهرة.. فقد كان الشيخ حفظه الله ظاهرة، جمع الله فيه تلك الأيام وما بعدها ما تفرق في غيره: فقد كان محتسبا على أهل الفسق والتجاوزات الشرعية، وينمي روح الاحتساب في تلاميذة، وقد كان يهاجم العديد من المنكرات ويوجه بمخاطبة المسؤولين حولها من درسه، فلا يختم الدرس إلا وقد رسمت خطوات عملية للقضاء - بطرق سلمية طبعا - على منكرين أو ثلاثة مما استشرى خطرها في المنطقة..فقد كان أسد الحسبة في تلك المدة بدون منازع..
وكان عالما بالعقيدة مطلعا على غيرها من فروع العلوم الشرعية واللغوية.. شاعرا متذوقا.. وكتبه وأشرطته تثبت رسوخ قدمه في علم العقيدة، حتى أن بعض خصومه لاحقا.. كانوا يوصون بحضور درسه ولو حبوا!
ومن عجائبه العلمية أنه لا يؤلف كتابا إلا وصار مرجعا، أو كتاب فكر مهم في بابه..
فلا يكتب كاتب عن العلمانية مثلا إلا ويتخذ رسالة الدكتوراة للشيخ " العلمانية " مرجعا رئيسا له..
وكتاب وعد كسينجر كان استباقيا، رائدا..
وكتاب القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى.. من أهم ما ألف - في نظري - عن نبوءة معركة هرمجدون..
أما كتاب " يوم الغضب " الذي يتحدث عن رجسة الخراب فلست من يقيمه.. فقد تحدث عنه مفكرون يهود.. وهو قراءة عميقة لنبوءات توراتية عجز أصحاب التوراة أنفسهم أن يفكوا طلاسمها.. وكأن البشارات اليوم تؤيد تلك القراءة.. وتثبت صحتها ساعة بعد ساعة.
الشيخ سفر الحوالي كان مختلفا عن الرباعية المباركة التي شكلت الجزء الأهم من الوعي الديني في تلك الحقبة.. وأعني بالرباعية: المشايخ الفضلاء ناصر العمر وسلمان العودة وعايض القرني.. والشيخ سفر الحوالي.. ففي كل خير.. إلا أن الشيخ سفر تميز بالريادية والاستباقية وبقراءته النافذة للسنن الإلهية..
وإن شئت أن أجعلها سداسية فسأضيف الشاعر الكبير عبدالرحمن العشماوي والخطيب الشهير عبد الوهاب الطريري.. جزاهم الله عن الدعوة خير الجزاء..
وقد كان الشيخ أول وأشهر من تخوف وحذر من دخول القوات الأجنبية إلى السعودية أيام حرب الخليج الثانية.. وأصدر شريطه الشهير " تداعي الأمم ".. وكتابه " وعد كسينجر ".. وزار الشيخ ابن باز ليوضح له ما يراه من حرمة تلك الاستعانة.. إذن هو قارئ نافذ البصيرة كما يقال.. متجاوز لإمكانيات زمنه بعقود..
كان من أعمق علماء تلك الحقبة في استيعابه للواقع، وجعل ما يجري في العالم جزءا لا يتجزأ من الحديث الديني، فلديه تعرف النظام العالمي الجديد وكيف ستتغير خريطة المفاهيم وفقا لرؤى هذا النظام.. وعنده ستسمع أحاديث الجهاد.. وأخبار المعارك.. وكيف انهار الاتحاد السوفيتي.. وكيف سيتمدد السرطان الأمريكي.. وماذا حدث في الجزائر.. وما هو مستقبل القدس.. وستدرك حجم الخطر الإيراني.. قبل أن يفجر الدكتور النفيسي الحديث عنه بأكثر من عقدين..
رسالته لأهل اليمن هي متن علمي يجب أن يدرس في الوحدة ورأب الصدع.. والتي نشرها في مجلة البيان.. وسارت بها الركبان..
كان من أوائل وأوضح من ندد بأحداث برجي التجارة.. ثم هو من حذر أمريكا من دخولها العراق وأخبر أن العراق هو المستنقع الاستهلاكي الذي لن تخرج منه أمريكا إذا دخلته إلا بأعظم هزيمة اقتصادية.. قد تسبب في انهيارها تماما..
أسمع الآن بعض أشرطته.. فأذهل حقيقة.. فكثير من توقعاته التي كان يذكرها عرضا قبل عقدين أصبحت واقعا مشاهدا.. وكأن لديه خاصية السفر عبر الزمن.. اسمعوا شريطه عن النظام العالمي الجديد والذي أصدره عام 1991 تقريبا.. لتصدقوا ما أقول..
أعود بكم إلى شريط الذكريات..
كان العدد الغفير في ذلك المسجد الكبير يشي بأن هناك نوعية فاخرة من طلبة العلم ستسعد بهم البلاد والعباد بعد عقد على الأقل.. ممن يحملون منهجية الشيخ المنضبطة والمؤصلة.. ويتحلون بعمقه ورياديته.. وتسكنهم روحه الاحتسابية.. ومر العقد.. وشارف العقد الثاني على الانقضاء.. ولم تر عيني سفرا حواليا آخرا..
أين ذهبت تلك الجموع؟ أين تبخرت؟ أي عين أصابتها؟
أتحسف حين أتذكر وأقرأ وأطلع على جهود الشيخ ثم أتفاجأ أن تلاميذه ضيعوه كما ضيع تلاميذ الليث بن سعد ليثا..
هناك طائفة ليست قليلة من طلبة العلم اليوم لا يعرفون الشيخ سفر.. ولا يدركون شيئا عن الدور الذي كان يقوم به هذا الإمام.. ثم ترى تلاميذه - ولست منهم فلم أكن أكثر من مستمع - يغطون في سبات لا أدري هل سينتهي أم لا..
أعلم أن هناك عددا من أولئك التلاميذ قد نفع الله بمهم.. ولكنهم في ميزان النسبة والتناسب مع تلك الأعداد الهائلة لا شيء..
الشيخ سفر مدرسة منهجية نحتاج علمها ووعيها هذه الأيام.. ويجب على الصادقين من تلاميذه خدمة تراثه كما ينبغي.. المسموع والمكتوب.. حتى نستفيد جميعا من ذلك المعين العلمي.. وحتى تتعرف الحشود الشبابية على قامة علمية كان لها ولجهودها فضل لا ينكره أحد فيما وصل له الفكر الإسلامي اليوم من تبلور ونقاء..
لعل الذي دعاني لكتابة هذا التدفق الذكرياتي هو عبوري قبل أيام من دوار الجامعة متوجها إلى طريق محمد فدا.. ومنه إلى شارع باخشب.. حتى إذا صار مسجد الأمير متعب رأي العين. انهمرت في داخلي المشاعر.. أوقفت سيارتي.. دخلت المسجد.. فإذا به مازال كبيرا.. كما كان.. مهيبا كما كان.. الشيء الذي تغير هو أني لم أسمع صوت الشيخ سفر الحوالي.. لم أر جموع الطلبة.. لم أتعثر ببسطة المساويك.. أو الطواقي.. خرجت من المسجد.. فإذا بالتسجيلات كما هي في العدد.. ولكنها صامتة.. باردة.. ليس لديها أشرطة لتبعث بها إلى صامطة أو النعيرية..
لعل هذه المقالة هي بعض ما سكبته بعد تلك الزيارة غير المرتب لها لأطلال الماضي.
نسأل الله أن يمن على الأمة بشفاء الشيخ سفر.. وأن يمد في عمره.. ويبارك في جهوده..
مختارات