إنه سارتر . . بملامح ابن تيمية
يبدو أننا صرنا محاطين بسياج من الأفكار الوجودية والمادية الشفافة ، والتي تظهر دون وعي منا على صفحات أفكارنا وفلتات أقلامنا . . فغدونا نرى أفكارنا وقد اقتبست نكهات دخيلة ، فصببنا سمن نظرياتهم في دقيق قيمنا . . واختلط حابلهم بنابلنا . .
بات النَفَس الوجودي هو الصبغة العامة لأبناء هذا العصر ، وصرنا نتصارع فيما بيننا دفاعا عن قيم نظنها عقلية أو حتى دينية وهي قيم تعزز المعنى الوجودي الإلحادي . . كل هذا يحدث دون وعي منا . .
ابحث معي في كتابات من نسميهم بالمفكرين وكتاب الرأي والأدباء عن مصطلحات مثل : جنة ، نار ، معصية ، طاعة ، شيطان ، ملك ، برزخ . . تجدها معدومة ، وإن جاءت فكاستعارات ومجازات يريد بها الكاتب معنى الرضا أو السخط أو القبح أو الجمال . . وما هذا - في ظني - إلا ترشحا لأفكار لا تؤمن بغير هذه الحياة " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر "
إننا بدون شك نواجه غزوا فكريا عقديا . . بل من الأدق أن نقول إننا واجهنا هذا الغزو . . وانتهى بنصر للأفكار الوافدة . . فلا نصر للفكرة أعظم من أن تصبح كالهواء يستنشقه الجميع دون أن يشعروا بخصائصه الفيزيائية . .
أعتقد أنه نصر مؤقت . . ولكنه نصر على أي حال . .
لو كتبتَ مقالة تظن فيها (ظنا ) أن إعصار (آيرن) مثلا عقوبة إلهية مباشرة لأمريكا على ظلم المعتقل "حميدان التركي" في محاكمته الأخيرة . . فسوف يسخر منك بعض من هم على شاكلتك الأيديولوجية . . قبل محنطاتنا الليبرالية التي لا تتقن أصلا غير السخرية . .
لو قلت إنك تظن أن دعوة مظلوم في ليمان طره أو السجن الحربي سببت في سقوط نظام مبارك . . لحولوك إلى نكتة . .
لو أطلقت فرضية مثل عشرات الفرضيات التي حللت غرائب القذافي فقلت إنك تظن أن جنيا تلبسه . . فسوف يصدر مجموعة من الأطباء النفسيين براءة مما قلته . . وقد يشخصون حالتك بأنها تدخل ضمن الذهان المرح! ويوصون بإيداعك مصحة . . (عن نفسي لا أظنه ملبوسا . . لأن الجني لا يتلبس شيطانا ) .
يجب أن نكون شكا حول أي الكاتب أو المتكلم يتردد في استخدام معان أو مفردات جاءت في القرآن الكريم . . فهو قد لا يعتقد أن القرآن هو الكتاب المخول لحل مشاكل البشرية . . إذ بماذا نفسر ولع البعض بترداد كلمات ومصطلحات أجنبية في حين تبحث عن مصطلح قرآني في كومة كتبه ومقالاته فلا تجد له أثرا !
عندما كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يصلي الفجر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعه بعد الصلاة يقول : من رأى منكم رؤيا ؟ فقد كان يتعامل مع ما يسمعه على أنه شيء من الواقع والدين . . شيء بدهي جدا أن يقص إنسان رؤيا ثم يفسرها معبر عالم بالتأويل .
ولكننا وبعد أن امتزجت حياتنا بأفكار سارتر الوجودية . . وتحليلات فرويد النفسية صرنا نعتبر الرؤى كناسات العقل الباطن لا أكثر . . وأول خاطر يدهمنا إذا ما سمعنا أحدهم يقص رؤياه هو خاطر الخرافة . . والتعلق بالماورائيات . . ونبدأ بكيل النصائح له ، مع أننا لم نعرف من حاله بعد أنه قد تحول الحديث عن الرؤى لديه إلى ولع مرضي . . فأول تشخيص لأي إنسان يقص رؤيا عابرة هو أنه متشبث بالأوهام . .
بنفس الدرجة العنيفة التي واجهنا بها الرؤيا نواجه فكرة المس ، وفكرة العين والسحر ، وكل ظاهرة لها جانب غيبي. . لاحظوا : أني لا أتحدث عن أشخاص يهمهم أن تبقى هذه الظواهر في مكانها الطبيعي ، أنا أتحدث عن حرب مكشوفة لأي كلمة عابرة تحوم حول هذه الأفكار مع أنها قرآنية ونبوية . . صدقوني ليس ما يحدث صحي كما نعتقد ، إننا نعاني من شكل من أشكال تهميش الغيب ، بل البعض باتوا يميلون إلى جعل هذه الظواهر في قفص الخرافة.
يجب علينا مراجعة أفكارنا وفق الوحي ، فقد يمجد أحدنا فكرة أو ينتقص أخرى وهو في ذلك التمجيد أو الانتقاص لا يصدر عن آية وإنما عن نظرية سواء أطلقها ديكارت أو كانط أو نيتشه . . فيوالي ويعادي لا وفق شرع الله وإنما وفق الفلسفة الألمانية أو الإنجليزية . .
لقد نجحت سنين من الضخ الإعلامي المكثف في العبث بأفكارنا وتشويه رؤانا ، فصرنا نبدأ الجملة بآية ونختمها بمثل صيني ، نظن أننا ننقل عن ابن تيمية قولا في قضية غيبية ونحن في الحقيقة ننقل عن هيجل رأي ميتافيزيقي . . نجح الإعلام بكل أشكاله في تغيير أيقونات فكرية في عقلنا الجمعي عن أماكنها. . أصبحت خارطة القيم والمبادئ لدينا شبه مزيفة . . هناك حقبة جيولوجية خطيرة تعبث بجزرنا العقدية . . وترمي بجبال من القيم في محيطات تشكلت قريبا . . لم نعد ندري على وجه الدقة أنحن ننقل عن الغزالي أم ديكارت . . هل ذكر هذا الشاطبي في الموافقات أم كانط في نقد العقل المحض . .
في اللحظة التي يعلن فيها الإنسان انهزامه الفكري تمتد إصبع تصوراته لتضغط الزر المخصص بتحميل قيم الآخر . . وما هي إلا سنوات قليلة حتى يتم التحميل بنجاح . . الإعجاب غير المشروط بالغربي معناه أنك صرت تمتلك عقلا يدعم برنامج القيم الغربية . . فتجدها باتت تعمل بسهولة . . تماما كما يعمل برنامج الأوفيس في بيئة ويندوز . .
حتى بعض خيارنا صاروا يظنون أنهم إن مزجوا كلامهم بشيء من الأمثال والحكم العالمية فأنهم يغدون أكثر قبولا ، يعتقدون أن الفكرة ستكون أكثر إقناعا إذا ما نسبوها إلى الألمان أو الإنجليز حتى النظافة والتي تكفي أصغر مرآة لإقناع أوسخ ملحد بجدوها . . صار البعض يقنعنا نحن أحفاد الأطهار الأبرار بجدوها مستخدما في ذلك نظافة الشعب الفرنسي . . ورقي الشعب الإيطالي . . وهذه هزيمة . . وتدريب على الانهزام . .
تسلُل القيم ، وانصهار الوافد بالأصيل ، وتماهي الغربي بالإسلامي لم يتبلور - في ظني - كما تبلور لدى التيار التنويري ، فنقد السلفية لدينا هو استنساخ لنقد الكنيسة في الغرب ، والأطروحات الممجدة للإنسان والتي كثفها البعض مؤخرا هي - ودون وعي منهم - انعكاس لنظرية الرجل الخارق ( السوبرمان ) عند نيشه . . والإغراق في الحديث عن الحرية وجعلها أهم من الدين تذكرنا بدوران النظرية الوجودية حول مركز الحرية . . والتي أصدر حولها جان بول سارتر الكثير من الأعمال الأدبية.
ثم ها هم - أعني التنويريين - يُنهون جولة الانصهار بدفاع غير مشروط - تقريبا - عن كل ما هو غربي من أفكار أو أشخاص . . بودي أن أجاملهم باعتبارهم زملاء . . ولكن الحق أحق أن يقال : هم الانهزام على شكل تيار . . نعم إذا جزّأنا التنوير إلى أشخاص لن نجد هذا المزيج الانسلاخي بجرعات متساوية ، بل بعضهم لديهم غيرة وحمية على المبادئ . . ولكن إن باتوا تيارا فما قلته هو حقيقة هذا التيار . .
علينا من الآن فصاعدا أن نتيقظ ، وأن نحاول امتحان أفكارنا ، والتأكد من أصالتها ، وأنها تعود إلينا في النسب ، فليس من المعقول أن سنين الصب المكثف لقيم الآخر لم تؤثر علينا . . بل حاولوا-على سبيل المثال - إمساك خيط فكرة موت الإله -تعالى الله - وتمجيد الإنسان فيما شاهدناه في صغرنا من أفلام كرتونية ، ستجدون ذلك واضحا ، بل صارخا ، تذكروا معي : قرندايزر ، سوبر مان ، بات مان ، سبايدر مان ، زورو . . وغيرها إنما هي تمجيد للإنسان باعتباره مؤهلا لربوبية الكون ، كم كنا مغفلين عندما ظننا أن أسوأ ما في تلك الأفلام هو احتواؤها على الموسيقى ، أو على مظاهر اجتماعية غربية . . وبعض القنوات الإسلامية تزيل الموسيقى ليشاهد أبناؤنا الكفر صريحا دون مؤثرات صوتية . . كم نحن سذج !
أخيرا :ليس كل ما دعونا إليه أو حاربناه تحت راية آية تكون دعوتنا أو حربنا له مشروعة ، أكرر : ليس كل ما دعونا إليه أو حاربناه وكافحناه وشوهناه تحت راية آية أو حديث تكون دعوتنا أو حربنا له مشروعة . . فلا يكفي أن نعلم أن ذلك أمر به أو نهى عنه الشرع حتى نوجه طاقاتنا لتعزيزه أو لاجتثاثه . . بل يجب أن ننظر . . ما هو مقدار دعوة أو تحذير الشرع منه . . وأن نلتزم بذلك المقدار . . فإذا ما رأيت أحدهم يبالغ فيما لم يبالغ فيه الشرع . . عملا أو تركا . . أمرا أو نهيا. . فابحث خلف تلك الآية التي يستدل بها . . ستجد فيلسوفا غربيا جالسا القرفصاء . . وأدخنة غليونه تتصاعد فوقه بكثافه.