ابن تيمية .. والموجة الإلحادية
ليس هناك عالم ولد قبل زمانه أو مات قبل أوانه، وليس هناك كتاب أذن الله أن يبقى وهو يستحق التلف، ولا كتاب أذن الله أن يتلف وهو يستحق البقاء..
فخلق الله سبحانه الصحابة الكرام، ثم اختار أبو هريرة وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم وأضرابهم لحفظ السنّة ونقل الدين، فالدين الذي أكمله الله وأتمّه ورضيه أحاطه وحصّنه بما يكفل ديمومة كماله وتمامه ورضاه ديناً خاتماً..
فالله الذي أراد أن يشرّع ديناً كاملا وتامّا لعباده فأرسل محمّداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه القرآن الكريم، وآتاه القرآن ومثله معه.. هو سبحانه من خلق أبو هريرة وعائشة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من علماء الصحابة لنقل هذا الحق، وهيأهم لهذه المهمة بإسباغ المواهب المعينة على هذا من حفظ وفهم وورع وتفرّغ وغير ذلك..
وقد صدق الإمام أبو زُرعة عندما علم بفطنته مآل قول من طعن في الصحابة من الشيعة بأنهم إنما يريدون إسقاط الدين بإسقاط حملته !، فالإسلام الذي لم يأت عن طريقهم رضوان الله عنهم لا وجود له، وإنما هو الكفر بالله..
وقياساً على ما سبق فلم يخلق الله عالماً في زمن إلا وهو جزء من صنع الله لدينه، ومن حياطته وحفظه وتجديده، وتجديد الدين هو إعادته كما كان نقياً من الشوائب الدخيلة، وليس بإضافة شيء إليه لم يُعهد في زمن النبوّة..
فعندما علم الحق سبحانه حاجة الأمّة لمن يشق لها طريق علم جديد كانت بدايات مسائله مبعثرة في أقوال العلماء، خلق سبحانه الإمام الشافعي، ثم أعطاه ذكاء وصفاء ورغبة في العلم ثم جعل المقادير من حوله تسير به صوب تلك المهمة فنشأ في هذيل أربع سنين تعلم فيها اللغة فكان أفصح الناس، حتى قيل لو ألف الشافعي كتبه باللغة التي كان يتحدث بها ما فهمها أحد !
وحفظ القرآن صغيرا، ثم حفظ الموطّأ، ودرسه على الإمام مالك، ثم انتقل إلى العراق وتعلّم الفقه الحنفي على محمد بن الحسن وأبي يوسف، وما زال يترقى في سلم العلم والفهم والعبقرية إلى أن فتق الله على يديه علم أصول الفقه، فكانت الرسالة، تلك التي جعلت من الفقه كياناً متيناً، وحصناً حصينا إذا همّ أن يتسلّقه الأدعياء زحلقتهم أصول هي كالجبال رسوخاً وشموخاً فوقعوا على يوافيخهم مبهوتين..
ثم مات الشافعيّ في اليوم الذي قدر الله فيه أن يموت، وأبقى الله ذكره وكتبه لأنّها مما قدر الله أن يكون أسباباً لحفظ هذا الدين كاملا تامّا رضيّا..
ومرّت القرون، وعصفت الآراء والأهواء بهذه الأمّة، حتى كادت _لولا حفظ الله _ أن تفرّغ كلام الله سبحانه عن معانيه، كليّاً أو جزئيا، في العقيدة أو الأحكام، إلحاداً منها في الآيات والأسماء..
فاشتدّ سوق الفلسفة، ونجم الكلام كما لم يكن من قبل، وصار للمعتزلة دولة، وللأشاعرة جولة، ونفق كلام الاتحاديين، وانتشرت شبه المفوّضة.. كان ذلك في القرن السابع، وأراد الله تعالى أن يمحو بالحق تلك الأباطيل، وأن يدفن سبحانه بالنور تلك الظلمات فخلق ابن تيمية واصطنعه لتلك المهمّة الجليلة الثقيلة.. فجاء عليهم وقد عكفوا على أصنام الشبه، وأوثان الأهواء فبعثر تلك الشبه والأهواء وجعلها كأمس الدابر:
إذا جاء موسى وألقى العصا ** فقد بطل السحر والساحرُ
فابن تيمية قدر قدّره الله في الأزل، وأراد أن يكون نهاية زمن الكذب والبهتان، وتلاعب الشياطين بالعقل البشري، ذلك العقل الذي تسلل إليه مردة الشياطين وألقوا إليه شبهة التنزيه عارية عما ينبغي أن يحتف بها لتكون أمناً، فصارت لهم جهنم وبئس المصير..
فالجهمية لينزهوا الرب نفوا أسماءه وصفاته، والمعتزلة نفوا الصفات، وأثبتوا أسماء بلا معانٍ لنفس الغرض، والأشاعرة أثبتوا سبع صفات ونفوا البقيّة، والمتكلمون قالوا لا نثبت ولا ننفي، والمفوّضة أثبتوا أسماء وصفات لا معاني لها معلومة، ونفوا القدر المشترك، أما الحلولية فأحلّوه _ سبحانه _ في الحوادث، والاتحاديّة جعلوه عين المخلوق..
فصار الله سبحانه معنى كليا منحصراً في الأذهان لا وجود له في الأعيان، قريبٌ من الجمادات، بل من المعدومات، بل من الممتنعات..
فهدموا الدين بهدم أهم عقيدة جاء الدين لتأكيدها _ لأنها موجودة في أصل الفطر، وفي سليم العقول _، وهي عقيدة وجود الرب سبحانه بأسمائه وصفاته.. لأن حقيقة الكثير من تلك الشبه مآلها إلى أن ليس فوق القبّة رب !
فجاء ابن تيمية، فعلّمه الله سبحانه ما يشاء من العلوم، وهيأه ليعي من أنواع العلوم ما لا تستطيع القدرة البشرية المجردة عن توفيق الله سبحانه أن تطيقه..
فكان إماماً في القرآن وعلومه وتفسيره، يقرأ في تفسير الآية المشكلة مئة تفسير، ثم _إن لم يستبن قولاً صواباً _ يخلو بنفسه في الفلاة يعفر وجهه بالتراب ويبكي ويقول: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني..
وإماما في الحديث وعلومه، يقول عنه الذهبي وهو المحدّث الضخم، الحديث الذي لا يعلمه ابن تيمية ليس بحديث !
وإماما في الفلسفة واللغة عارفاً بالشعر يظن علماء هذه الفنون عند قراءة كتبه وسماع دروسه أنه لا يعلم غيرها لتضلّعه بها..
فلو أنصفنا تلك العلوم التي احتوتها جمجمة شيخ الإسلام وجعلنا لها وقتاً معقولاً ليلم بها إنسان ذكي وتترتب في عقله بالكيفية التي كانت مترتبة في عقل شيخ الإسلام لما قدّرنا لذلك الأمر أقل من ثلاثمئة سنة كلها قراءة واطلاعاً وحفظاً وتأملاً.. ولكن الله تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه، وقد خلق الله سرّاً من أسراره في هذا الكون اسمه " البركة "، يقول تعالى: " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ".. فالأرض مخلوقة في يومين والرواسي والأقوات والبركة مخلوقة في يومين ومجموعها أربع.. والسماء في يومين ومجموعها ستّ..
فالبركة ليست معنى هائماً عائماً، بل هي حقيقة موجودة مخلوقة، خزائنها بيد الله، وهي سرّ من أسراره سبحانه، فيجعل أرضاً ما مباركة " إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين "، وكلمة ما مباركة " تحية من عند الله مباركة طيبة "، وشجرة ما مباركة " يوقد من شجرة مباركة زيتونة "، وكتاب ما مبارك " وهذا كتاب أنزلناه عليك مبارك ".. ومبحث البركة وأسرارها _في ظني _ مبحث إيمانيّ جليل أتمنّى أن يهيئ الله له من يبحثه ويستخرج كنوزه..
ففتح الله على شيخ الإسلام ابن تيمية بركات من السماء والأرض، فاختصر في عمره ما لا تتسع لها أعمار مديدة، وجعل سبحانه الأحداث تدور من حول شيخ الإسلام بالكيفية التي تستدرّ منه البيانات تلو البيانات والإملاءات تلو الإملاءات وتجعله يحرر ويقرر ويكتب ما ينفي الله به خبث تلك الآراء الفاسدة، والأهواء المضلة، فيعود الدين جذعاً، وقد نفي عنه زيغ المبطلين وتحريف الجاهلين..
فلم يقرأ لشيخ الإسلام من مهتدٍ ولا ضال إلا وأذعن لعبقريته وشهد بلوذعيته ورفع قبعة التوقير لذهنه الوقاد وفهمه الثاقب.. حتى لقد ظننت أن الزمخشريّ وهو إمام فاضل من أئمة الاعتزال لو أدرك شيخ الإسلام لرجع لقول أهل السنة..
وقد زعمت زعماً أن من قدّر له الوفاة قبل شيخ الإسلام من المبتدعة قد يكون أخف جرماً ممن جاء بعده واطلع على تراثه.. لأنه لا يصح لمن قرأ كتبه واطلع على نفيه لشبه القوم أن يرجع بعد قراءته بنفس الرؤية التي كان عليها قبلاً...
ويموت شيخ الإسلام في اليوم الذي أراد الله فيه أن يموت.. وتمرّ السنون، ويبقى إرثه ناصعاً، يزيد بريقاً مع الزمن، ويكتب الله له الخلود حتى اللحظة، ويهيئ له الجهابذة ليشرحوه، ويختصروه، ويحققوه، لأنه سبحانه علم أن تلك الأهواء ستخرج رأسها في غفلة من الزمن.. ولكنّها جاءت هذه المرّة بدهاء وخبث فريدين، فكان أوّل مهمّاتها هو القضاء على ذلك المارد الذي اسمه تراث ابن تيمية.. فألّفت الكتب، وسطرت المقالات، وقيلت الأقوال التي تصب كلها في أن هذه القامة مبالغ فيها، وأنها لا تدري ما طحاها، وأنها كاذبة خاطئة.. مما يجعل المنصف يتأكد أن هؤلاء مبتلون بصداع شديد اسمه ابن تيمية !
وأظن أن الضلالات مهما اتسعت، والأهواء مهما امتدّت، فإنها لا تخرج عن دولاب تلك المدارس القديمة.. فإنما هي سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات بمقادير متفاوتة..
فلو قرأ ذي جنّة كتب ابن تيمية بحسن نيّة لأذهب الله عنه ما يجد.. وإني لأجد تعظيماً خاصاً من أصحاب الأهواء لكل من رمى في بركة شيخ الإسلام بحجر، وشبه إجماع على جعل الأقزام الذين يناوشون ابن تيمية أئمة.. وهذا من دهائهم ومكرهم، لأنهم أعلم الناس بمن هو ابن تيمية، وبأنّه قدر أراد الله به أن تنخنس تلك الأهواء، وأن تتهيه في عالم النسيان لا تلوي على شيء..
وبعد:
فابن تيمية ضرورة فكرية لعصرنا المليء بالأهواء والضلالات والنحل بل والنزعات الإلحادية.. من الضرورات أن يقرأ في المنازل، ويدرس في المساجد والجامعات، وأن تنشأ البحوث عنه وعن كتبه وعن عبقريته، وأن تستخلص أقواله من كتبه ثم يعاد صياغتها لتناسب ما نحن فيه من غثاء صار يمسينا به ويصبحنا أغرار لا يعلمون قبيلا من دبير..
وقد أحسن الإمام الجهبذ محمد بن عبد الوهاب عندما ألّف كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد فكان تلخيصاً وتشذيباً لشيء من تراث ابن تيمية.. ففجّر بعضاً من أفكاره، وتقعيداته.. وبقي الأكثر كامناً حتى اللحظة ينتظر من يثوّره، ويستخرج مكنونه.
فإذا ما أبهرك محمد بن عبد الوهاب فاعلم أنّه حسنة من حسنات ابن تيمية، وأن كل ابن عبد الوهاب موجود في بعض ابن تيمية..
إذن: ابن تيمية ضرورة ملحّة، وفي هذا الزمن بالذات، هذا الزمن الذي انفتحت فيه شهيّة ليّ أعناق النصوص، وعدم توقيرها، ونفور بعض العقول المريضة عن التسليم، فلقد ترك لنا _ رحمه الله _ ما يكفي وزيادة، حتى لقد ظننت أن لو قدر الله لأفكار جديدة لم يقل بها أحد من قبل أن توجد، لوجدنا بين أسطر كتبه هذا الإمام ما يدحضها، فقد كان من مذهبه الحجاجي أن يخترع حججاً للخصم أقوى من حججه التي يجيء بها ثم ينقضها نقضا.. فهو الأسد في براثنه، والبحر لا تكدّره الدلاء، وإن جميع الشبه المطروحة من لدن معتزلة العصر ما هي إلا أسخف اللعب التي كان يركلها ابن تيمية ركلاً في كتبه، ثم ينصرف عنها إلى ما هو أشد وأشنع من الشبه العظام فيتجشم لنقضها، فيبصّره الله بمواطن هزالها وضعفها، فينقضها، فتخرّ على رؤوس القوم من فوقهم:
وكان ما كان مما لست أذكره ** فظنّ شرا ولا تسأل عن الخبر
وأنا أقول قولاً أظن أني لست فيه بالأوحد أنه ما من أحد ردّ كلام ابن تيمية الفكري العقدي إلا أحد اثنين: شخص لم يفهم ابن تيمية، أو آخر في قلبه مرض.. ولا وجود لثالث.. هذا والله ما أدين الله به.
مختارات