مظاهر تنويرية
تويتر مجهر ثاقب الرؤية تستطيع من خلاله ملاحظة الأشخاص والتيارات عن قرب، فتعرف الملاحدة، والليبراليين، والتنويريين وغيرهم، كيف يفكرون، وعن ماذا يتحدثون، بل وتعرف تفاصيل حياتهم اليومية إن أردت ذلك !
لن أسهب في التقدمة لهذه المقالة، والتي خصصتها لبعض المظاهر التنويرية والتي باتت واضحة للعيان، فالتنويريون وإن اختلفوا قليلاً أو كثيراً في مستوى الثقافة وطريقة الطرح والقضايا التي يكثفون حولها اهتمامهم إلا أنّ هناك مظاهر تكاد تكون سمة بارزة على مجموعهم، يتفاوت تركيزها ولكنّها في العموم موجودة، وملحوظة لمن يتابعهم، وقد تبلورت هذه المظاهر في الأيام القليلة الماضية، مع تصاعد الحديث حول قضيّة شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، ما بين مندد وغيور مؤكد على ضرورة محاكمته، وآخر يطلب الرأفة والرحمة وكأنّ لديه تفويضا للتنازل عن حقوق المصطفى.. وليس سرا إن قلنا أن التوجّه التنويري بعامّة كان يغرّد مع مدّعي الرحمة..
دعونا الآن نلقي نظرة على هذه المظاهر:
1_ من المظاهر التنويرية: سكتة لطيفة بعد كل باقعة أو مصيبة تصيب قلوب المؤمنين، فما يراه طلبة العلم والدعاة وأهل الخير مصيبة في الدين تستدعي التسابق إلى دفعها وإنكارها، يرى التنويريون وجوب التأنّي حيالها، والنظر مليّا بما يرجعون به إلى الناس.. يستغرق هذا النظر يوماً أو أكثر، وبعضها تنتهي سخونة الموقف وما خرجوا حياله بنظرة أو موقف أو قول !
يخيّل إليّ أنّهم قد وطّنوا أنفسهم ألا يكونوا مع المحتسبين في رأي، وأنّ أي قول يقول به الدعاة والعلماء فهو مظنّة الخطأ ما لم يتبيّن عكس ذلك !.. وكأني بهم ما أن تثور قضيّة حتى تبدأ فيما بينهم المهاتفات والمشاورات وما هو الوجه الذي يليق بهم أن يظهروا به، وكيف أنه ينبغي على بعضهم السكوت، وعلى بعضهم التهوين والتليين، وعلى واحد أو اثنين أن يظهرا بمظهر الاعتدال.. حتى يسهل على مجموعهم نفي أي تهمة ضدّهم، فإن قيل سكّتم، قالوا: فلان تحدث، وإن قيل تساهلتم، قالوا: فلان شدّد..
فإذا ما رأيت التنويري يختفي ويلوذ بسردابه يوماً أو اثنين فاعلم أن هناك قضية ساخنة لا يريد أن يدلي برأيه فيها... هروباً من التصنيف، أو الإحراج.. أو طلباً للأمن عند جميع الأطراف.
2 _ أيضاً من المظاهر التي لم تعد تفوت متابعاً لهم ما يمكن أن نسميه بالملفات الاحتياطية، والقضايا التوهيمية، والتي (ينقنقون) عليها في اللحظات التي ينشغل فيها العموم بالقضايا الدسمة والمؤرقة: فلهم في كل قضيّة ما هو أكبر منها وأكثر أهمية، وهذا باب طوارئ يلجئون إليه، ومصدّ يحتمون خلفه، فإذا ما ثار الثائرون لنصرة نبيّهم اكتشفوا _فجأة_ أن أهل حمص يقتّلون فانصرفوا إلى نصرة أهلنا في حمص _ وهم بلا شك أهل لأن ننصرهم بما نستطيع وفي كل وقت _ مختارين هذا التوقيت ليرفع عنهم المتابعون سوط الملامة.. فإذا ما خفتت القضيّة رجعوا إلى سابق عهدهم من إزجاء الأوقات بالهمز واللمز..
عند هجوم الليبرالية على عالم ما تظهر لديهم قضيّة المعتقلين بكثافة، ولمّا يتطاول متطاول على مسلّمات الشريعة تأتي سالفة الاستبداد، وإذا ما نهش ناهش من أحد الصحابة انتبهوا إلى أزمة الإسكان، يتقنون تقليب الأمور للتمويه، فلديهم ملفات احتياطية يحتمون بها عن القضايا الكبرى التي تهم أهل الغيرة والاحتساب.
يجدون في حالات الهدوء وقتاً للحديث عن: فلسفات نيتشه، ومقولات ديكارت، بل وقصص أسفارهم التي لا تنقطع، وبعض الأغاني التي حفظوها مؤخراً، بل والتحدث عن قططهم اللطيفة، وهواياتهم السخيفة، ثم عندما يقول " حمزة " عن نبيّهم أنه ند له، تأتي أهميّة التركيز على وحشية بشار الأسد ! آلآن اكتشفتم وحشيّته؟ يمكنكم تأخير الحديث عن هذه الوحشية بعد أن تدافعوا عن نبيّكم وتنصروه بتغريدة أو اثنتين فقط، لا أظن هذا سيكلّفكم الكثير !!، ولكن هيهات، قد علم الله من هو أهل لنصرة خير البشر، ولن ينصره من زعم أن سيادة الأمة غير المعصومة مقدمة على سيادة الشرع المطهر المعصوم.
يقول الشيخ فهد العجلان عن هذه النقطة: " يحدثك عن القضايا الكبرى لتسكت عن أي قضايا شرعية غير مرغوب فيها (لديه) وينتقل بعدها ليتحدث في الرياضة والفن والسينما والموسيقى وبقية القضايا... " !!
3 _ من المظاهر أيضا: حماسة لأمور الدنيا وشؤونها منقطعة النظير، وبرود غريب في تناول القضايا الشرعية، بل تجمّد لدى بعضهم عندما تنتهك حرمات الله، ويعتدى على جناب الرسول صلى الله عليه وسلم.. إذا كتب في أزمة الأراضي البيضاء شعرت بالدماء تغلي في رأسه، وإن كتب تغريدة حيية عن قضية شرعية يكاد يقتلك الصقيع المتلبّد فوقها !
ملف المعتقلين أهم لديهم من عرض محمّد.. والديمقراطية أهم من الشريعة.. ومجابهة المستبد السياسي أولى من محاكمة الملحد الديني !! يقول الشيخ ماجد البلوشي: " كم هو موجع أن بعض الأفاضل يكتب بحرقة شديدة وحماسة هادرة فيما يتصل بمعاش الناس ؛ فلما صاحت به الشريعة في نصرة نبيّها تلجلج خطابه ووهت لغته " .
4_ من المظاهر أيضاً: تقديم رأي الأغلبية تنظيراً، وتقديم رأي الأقلية تطبيقاً. مع أن اللائق بمن أزعجنا بالتنظير للديمقراطية وإظهار أهميّتها أن يحترم المكوّن الأهم بل والأبرز في فلسفة وإجراء والديمقراطية وهي التعويل على رأي الأغلبية، فالتعريف الشعبي للديمقراطية أنها: " رأي الأغلبية ". ومع ذلك تجد هؤلاء المتنوّرين عادة ما يعاندون هذه الأغلبية، فالأغلبيّة تقف موقفاً صارماً من المتطاول على نبيّها، والموافق لفلسفتهم في هذه الحالة هو الوقوف في صف الأغلبية ولو من باب أن هذه رغبة ومطالب جمهور الأمة فيجب الوقوف معها وتأكيدها، إلا أن الواقع أثبت أنهم مفرّغون من أهم عنصر ديمقراطي، وحتى لا تبين عوراتهم بشكل واضح فقد قاموا بسترها بورقة توت متهشّمة اسمها: حريّة الرأي.. فهم مع الأغلبية إن كان صوتها يدعم فكرتهم، فإذا لم يعجبهم صوت الأغلبية توجّهوا إلى الأقليّة بحجّة حرية التعبير والفكر وإبداء الرأي !
فهم يراوحون آراءهم ما بين الحالتين، وإن كانت الحقيقة واحدة ! فهم لا يتّبعون الأغلبية هنا، ولا الحرية هناك، وإنما يتّبعون الهوى في الحالتين..
بل إن مقولتهم الفاجرة " سيادة الأمة " تصرخ في أوجههم الكالحة، أوَليست الأمة قد كادت أن تطبق على ضرورة محاكمة شاتم الرسول؟ فأين هي سيادتها؟ ولماذا لا تصبح هذه المطالبة هي سيّدة الموقف، بدلا من إفراغ الهواء عن العجلة الضخمة السائرة باتجاه المحاكمة: بتغريدات هزيلة، وتساؤلات منهزمة.
هل لأن رسولنا الكريم يعفو ويصفح نسمح لشاتمه أن يسبّه في عقر الأرض التي ملأها توحيداً لله وتوقيراً لحرماته؟ ألم يهدر " نبي الرحمة " دماء بعض من سبّه بشعره.. لماذا يظهرون بعض ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام ويوارون بعضه؟
هل تكون أعراضنا وحرماتنا أكثر أهميّة من جناب الذي بعثه الله نوراً وهدى للعالمين؟ كيف يواجه أحدهم الصحافة ويحاكمها ويعريها لأنها اتهمت ابنه أنه سافر إلى العراق ! ثم لما يُتهم نبيّه الكريم بأنه شخص صاحب أخطاء، مجرّد صديق، لا يستحق الصلاة والسلام يبدأ بالتساؤلات؟ ثم يوجّه بكتابة توبة باردة؟ وأخيراً يدعو إلى التغاضي والأخذ باللين؟ أين كان هذا اللين عندما ظهرت صورتك في كل الصحف وأنت تندد بتلك الأكذوبة التي صاغتها صحيفة الوطن ضد ابنك؟
هذا استطراد جرّنا إليه الحديث عن اتباع الهوى لدى التنويريين سواء وافق الأغلبية أو الأقلية..
5_ أيضاً من مظاهر التنوير: أنهم يضعون إحسان الظن في المكان الذي يفترض فيه تقديم إساءته والعكس صحيح أيضا..
فيحسنون الظن بشاتم الرسول، وأنه لم يقصد مفهوم كلامه، ولا حتى منطوقه، وفي المقابل يسيئون الظن بالمدافع ويصفونه بالتهوّر والشدّة والتياريّة.. وما إلى ذلك.. فهل رأى القارئ مثل هذا الظلم والهضم؟
يقول الشيخ فهد العجلان واصفاً هذا المظهر: " نقد شديد متواصل للإسلاميين وتحليل عميق لمقاصدهم، ولطف تام بالمنحرفين واستخراج كل المقاصد الحسنة من السلوكيات السيئة، ثم يظن أن هذا منهج الرسول " !
أما الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي فقد سمّاهم بمعطّري الجيف، فقال: " بعض الناس عوفي من الجهر بالسوء.. ولكنه ما إن يجهر مجرم بسوء حتى ينبري يدافع عنه وينتحل له الأعذار الواهية.. كمن يحاول تعطير جيفة منتنة "
وقد لاحظ هذه الملاحظة الموفق دائما الشيخ عبد الله الداوود فقال: " نحتاج أن نراجع عقيدتنا (مؤخرا) حيث رأينا دفاعا ومجاملة واعتذارا عن (شيخ _ داعية _ بل وحتى شاتم لرسول الله) أكثر من الدفاع عن عرض رسول الله ".
ويسمي الداوود هذا السلوك بالإنصاف الشيطاني، فيقول: " الإنصاف الشيطاني أن تهاجم الغيورين المدافعين عن عرض رسول الله وتقبح وصفهم، وتصفهم بعدم الرقي ثم تترفق بالشاتم لرسول الله ما أسعد الشيطان بك "
ويقول أيضا: " يستهزئ صحفي برسول الله فيصمتون صمت القبور فإذا نهضنا للدفاع عن رسول الله قالوا: (اتقوا الله) ! "
ويقول الأستاذ محمد أبانمي: " حتى في التنقص من الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ كانت حميّته على محتسب أخطأ أكثر من متجرّئ فجر.. "
6_ أيضا هناك ولع مفاجئ بالأخلاق والهدوء وضرورة ضبط النفس، هذه الأخلاق التي لا وجود لها إذا ما كانت الهجمة ليبرالية والضحيّة قيمة دينية أو مبدأ اجتماعي أو فتوى شرعية أو عالم دين..
تتحوّل الأخلاق فجأة إلى صنم، والطيبة إلى ضريح يدورون حوله متناسين أن الأخلاق لا يؤتى بها لتزيين كفر ما، أو للتقليل من أهميّة غيرة دينية أصيلة ! وأن أعظم الكافرين وأفضلهم خلقاً لا يساوي ذرة في جسد أسوأ المسلمين خلقاً..
ثم عن أي أخلاق يتحدّثون، المطالبون بالمحاكمة يمثلون أرقى الناس خلقا، إذ أن سوء الخلق البادر منهم _ على حد زعم ممثلي الرحمة والشفقة _ إنما هو كونهم طالبوا بمحاكمة إنسان بذيء ! بل غاية في البذاءة.. إذ أنه لا بذاءة ستكون مثل بذاءة من جعل لسانه يتطاول على خير الخلق.. فهل يطلب مني حتى أكون خلوقاً طيبا أن أدافع عن البذاءات والسباب والشتائم؟
7 _ وأخيرا من أخطر المظاهر التنويرية التي ظهرت بجلاء مع قضية شاتم الرسول: جعل الثبات على الدين من أسباب الانحراف عنه ! وأخذ الدين بقوّة من أسباب تركه بضعف !! ويصوغون ذلك بطرق متعددة، فمرّة يقولون: إن تحويل الظنيات إلى قطعيات من أسباب الإلحاد ! ولو حاولت الاستفصال عن هذه العبارة لعلمت أن هذه الظنيات في زعمهم هي قطعيات، أو أن قصة التحويل هذه مزيّفة..
ومن الطرق أنّهم يجعلون منع كتب الإلحاد من أسباب الانحراف، وأن قراءة كتب الإلحاد هي التي تجعل الإنسان يتمسّك بدينه عن قناعة ! ويلمزون في هذا السياق مفردة " الممانعة " ويضعون عوضاً عنها معنى " التحصين الفكري " وكأنّهما معنيان يترافعان وفي الحقيقة أنهما يتكاملان..
ومن الطرق جعل الشيخ والداعية والفتوى من أسباب التنفير عن الدين ! كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. وقد أحسن الدكتور والمفكر " سعيد بن ناصر الغامدي " لما غرّد عن هذا المظهر قائلا: " بعض الملتاثين ما إن تنكشف سوأة المنحرفين حتى يبادر إلى رمي التبعة على الدين وأهله.. كما قالت قريش: محمد فرق جماعتنا وشتت كلمتنا ".
هذه بعض المظاهر التي ظهرت بجلاء في الأيام الماضية من إخواننا الذين يسمون أنفسهم بالتنويريين، والذين لا أشك في نوايا أكثرهم وأنهم يريدون الخير، ولكنّي لا أشك طرفة عين أنهم سلكوا الطريق الخاطئ، وأنه يجب تبيين مسلكهم ليُحذر منه، فقد وافقت طريقتهم هوى في نفوس الناشئة، فالفتى ما إن يصل إلى الجامعة حتى ينشرح عقله لأي حديث عن حرية التفكير واعتداد بالرأي ونبذ الوصاية، وغير ذلك من المعاني المناسبة لنموّهم النفسي.. فتجدهم إن لم يحُل بينهم وبين هذه الأطروحات التنويرية حائل من فقه أو ورع أو يدٍ حانية من ناصح تجدهم سرعان ما تحملهم هذه الموجة إلى أرض التنوير اليباب.. فلزم على العلماء والدعاة والمثقفين كشف هذا التوجّه الغريب، هذا الانحراف الفكري الذي يزداد عمقاً مع الأيام..
مختارات