مع الصحوة .. لا بأس بشيء من الدموع
الذين عاشوا في نسيم الصحوة ما قبل عشرين عاماً سيحزنهم كثيراً هذا المقال، وستسبل أعينهم دمعاً سخيناً..
ليس مقالاً، بل هو انهمار للذاكرة في لحظة مرّت فيها أطياف الماضي بخاطري المكدود.. أطياف أنفس طاهرة، هم ملائكة في زيّ بشر، وسماوات تمشي على الأرض..
خارطة الذكرى شاسعة، ستتعب إن أردت أن تحدق في تفاصيلها، ولهذا لا مفر من تحديد عدسة لرؤية زاوية ما.. وتناسي بقية الأطياف والمواقف والأيام.. نفعل ذلك فقط لنستطيع أن نتذكر.. لنستطيع أن نثير الأماكن التي تركناها في عقولنا موصدة منذ سنوات بعيدة..
عدستي التي اخترتها تحمل لون الدموع.. تحمل ظلال الخوف من الله.. لها صوت النشيج.. حولها هالات الرهبة.. بهذه العدسة سأحاول النظر _عبر هذه الأسطر_ إلى أيامي أنا.. مع الصحوة..
شيء حاولت الصحوة أن تعطينا إياه.. بعضنا أخذه والبعض لم يأخذه.. هذا الشيء هو الخوف من الله..
انتشلت الصحوة أبناءها من حواري المدن، وأزقة القرى، ودهاليز الحياة العادية.. تلك الحياة التي أترعها الإعلام بكل تافه يبعد عن الله ويقرّب من الغفلة.. انتشلتهم ثم أخذت تعيد نفخ المعاني البكر، المعاني التي حرص النبي صلى الله عليه سلم على بقائها مزدهرة في قلوب أصحابه، ومن أهمّهما شعور الخوف من الله.. ومراقبته..
من الطبيعي جداً أن يهتزّ منكب الذي بجوارك في صلاة العشاء مثلاً لأن الإمام قرأ فيما قرأ: " يوم يقوم الناس لرب العالمين ".. أو: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " أو " أزفت الآزفة "..
صلينا في ضحى عام 1416 في جامع إسكان جامعة الإمام صلاة الخسوف، أذكر هدير البكاء في المسجد، وكيف أشعرني ذلك الدويّ الخاشع بأنني أبعد الناس عن الله، وأن الناس كلّهم يعرفون أشياء عن الله أجهلها.. وبات أحدنا يسعى إلى أن يتقرّب أكثر من هذا الرب الذي يستحق أن يُخشى منه..
في إحدى مساجد حي الخالديّة في تبوك كانت تجمعنا حلقة نقرأ فيها القرآن بعد صلاة الفجر مع أستاذنا أبي عمر، صاحب الصوت الشجيّ الرائع.. ذلك اليوم لم يكن عاديّا بدليل أنني ما زلت أذكره بوضوح.. اجتمعنا بعد أن مكثنا فرادى نراجع حفظنا، التأمت الحلقة بجلوس أبي عمر في طرفها.. انتظرنا كلمة منه، أو توجيهاً، أو أن يبدأ بالتسميع فإذا به يخرق القاعدة، ويقرأ من حفظه بصوته الشجيّ آيات من سورة الأعراف: " ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار.. " قطّع قلوبنا في ذلك الصباح.. وبكى وأبكى.. فُجعنا بالقرآن، أحسسنا بأن القرآن يمكنه أن يجعلك تشهق بعنف.. وبعد دقائق من القراءة والتي أتت بدون تنسيق وبلا تخطيط فيما يبدو.. قام أبو عمر مؤذنا لنا بالانصراف.. وانتهت حلقة ذلك اليوم بدون تسميع، وبلا توجيه.. ولا غرابة فقد سكب في قلوبنا أنقى وأرقى موعظة.. سكب كلام الله وانصرف..
وأينما يممت وجهك في أيام الصحوة فلا بد أن تسمع من يحذرك من النار، ومن يشوّقك إلى الجنة، ومن يذكرك بالله، ومن يوحي إليك بأن الحياة ليست لعبا ولهواً..
كنت تسمع النصائح تنهمر من حناجر صقلها القرآن.. وكنت تراها في أعين أدمعها القرآن.. كنت تعيش مع ثلة تشبه بدرجة كبيرة تلك الثلة الأولى التي غيرت التاريخ: ثلة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
أركبني أحد الأساتذة في سيّارته عقب صلاة العشاء ليوصلني إلى بيتي وليهمس في أذني بكلمة ظل صداها يرن سنيناً قال لي: أين يا عليّ النور الذي كنت أراه في وجهك أول أيام استقامتك؟ سألني هذا السؤال ثم جعل إجابته مكبوتة في نفسي.. جعل إجابته استفسارات تتوالى في فؤادي.. جعلني أوقن أن وجهي مرآة صادقة لما في نفسي.. صرت خائفاً من هذا الرب الذي يستطيع أن يفضح سريرتي في أي لحظة.. أجبته بالصمت.. ولم يلحّ علي أن أجيبه أبداً أبداً.. لأنه كان يريد هذا الصمت..
علماء دعاة مشايخ وعاظ أساتذة شباب زملاء كل هؤلاء كانوا يصنعون بتوجيهاتهم ونصائحهم وإرشاداتهم وهمساتهم شعوراً أيقظ ركود الضمير وغفلة النفس ورقدة الإحساس.. صار أبناء الصحوة أيقظ ما يكون لمعنى الله.. والموت والحساب..
ما الذي يجعل الصحوي يستيقظ في نصف الليل ليصلي لله؟ مع أن أباه وأمه غارقان في النوم.. وحيّه بأكمله يكاد يتحوّل إلى شخير عال في تلك الساعة المتأخرة من الليل؟
لقد علمونا أن الليل هو الوقت المناسب لمناجاة الله.. وأن في الليل شذى من لم يستنشقه لم يحظ أبداً بنسيم الأنس..
كنت أرى في صلاة الفجر أثر الدموع في أعين شباب الصحوة جراء مناجاتهم ربهم، وكان قيام الليل أمرا اعتياديّا يصنعه جميع الشباب، وكان ضوء مصابيح المساجد يمتزج بأنوار تلك الأوجه الوضيئة.. هذا ما أراه الآن في عقلي.. ولا أدري أكانت حقيقة أم أنّ جمال الذكريات هو الذي يصنع هذه الرؤى الحالمة..
علمت أن الميّت يُسأل عما صنعه في حياته، فتذكرت أبي _رحمه الله_ والتلفاز الذي اشتراه لنا فتسللت إلى الغرفة التي يقبع فيها ذلك التلفاز وفتحت صندوق التلفاز وأخذت أقطّع أسلاكه الداخلية حتى شعرت باستحالة إصلاحه.. صف هذا التصرف بما شئت.. خاصة وهو صادر عن ذي الثلاث عشرة سنة ولكن انظر إلى زواياه الجميلة.. إنه حب الطفل لأبيه.. وخشيته عليه، وخوفه من الله.. من أين أتت تلك المشاعر النديّة والأحاسيس الواضحة؟ تلك اليقينيات التي يتصرف طفل على ضوئها؟ إنها الصحوة التي صرخت في نفسي بحنجرة عائض القرني وعبد الله حماد الرسي وسعيد بن مسفر وأحمد القطان.. فقالت له: اتق الله..
كنت أعود إلى بيتي في الليل بقدر كبير من المبادئ، نعم كان في بيتي مبادئ ولكني كنت أستقي في المسجد ومع المشايخ أشياء لم أجدها إلا عندهم، صرت أحتقر الكثير من الخلافات.. صرت أنظر إلى صراعات المنزل على أنها أتفه من أن أنظر إليها، لقد جعلتنا الصحوة أكبر من واقعنا.. حتى أن بعض أساتذة المدرسة لم يكونوا يصبروا على تعليقات الطلاب الصحويين الذين دائما يظهرون معهم بحجم أصغر وبتصرفات أقرب للطفولية.. لقد كان الصحويّ لاذع الكلمة لأنه سمع أكثر مما سمع غيره.. وعرف أكثر مما عرفوا.. ولأن منطقه توضّأ بماء السماء حتى طهر..
وعلى جبل من جبال الطائف قرأ أبو سهيل آيات من سورة الرعد.. ونحن ننظر للرعود في صلاة المغرب فصار الإخوة يبكون.. وانخلعت قلوبهم لقول الحق: " وهم يجادلون في الله.. وهو شديد المحال ".. كانت شديدة وخاصة أن هزيم الرعود كان خلفيّة فظيعة لقراءة مزلزلة..
وفي محاضرة إيمانية هزّ أحد المشايخ القلوب في مخيم بجوار جبال رضوى بينبع..
وفي مسجد السكن بجامعة الإمام أجهش الجميع بالبكاء وهم يستمعون لذلك الذي كان يخبرهم عن أهوال يوم القيامة..
وفي حي المروج بتبوك اشتقنا للجنة ونحن ننصت للشيخ سلطان وهو يصفها وكأنه خرج منها للتوّ !!
ومن بين ركام المواقف والمشاهدات والمسموعات نشأ جيل صحوي فريد، يخشى الله ويتقه في العموم.. جيل يعتني بالغيب اعتناء غيره بالشهادة.. جيل يعرف معنى الدموع.. يبكي بغزارة.. ويشهق بعنف.. ويخاف الله.
ثم مضت السنين.. فكذبوا عليّ وعليك.. وأقنعونا أن أولئك الأطهار يعشقون الدم..ويهوون إزهاق الأنفس البريئة..
كذبت شرذمة الصحافة على أشباه الصحابة.. ولوثوا سمعتهم.. وجعلوا المعتقلات تبتلعهم واحداً تلو الآخر..
كذبوا على أولئك.. ووصموهم بأخطاء القلّة منهم.. وكرهوا النور الذي في قلوبهم.. وجعلوهم وحوشاً بشرية.. حتى أنكروا هم أنفسهم.. وضاقت عليهم الأرض..
فوجب على كل صادق علم خيراً فيهم.. أن يبديه.. دفاعاً عن جيل نذر نفسه للقرآن.. ولمعاني القرآن.. ولمبادئ القرآن.. أصاب كثيرا.. وأخطأ قليلا.. جيل يلوح في الذاكرة وكأنه جيل سعد وأبي عبيدة وخالد وزيد بن حارثة..
إذا ما عدت بذاكرتك إلى الخلف عشرين عاماً فسوف تعلم جيداً الفرق بين جيل يفتخر وهو يمسك المصحف.. وجيل يستحي حين يمسك المصحف.. جيل يقرأ سيرة عمر فيخشع.. وجيل ينظر لمسلسل تركي فيدمع !!
وما أنا غير شاهد على هذين الجيلين.. وحديثي عن تلك الأيام لا يعني أني كنت مؤثراً عليها.. أو متأثراً بها.. ولكني أنقل ما كنت أراه، وأشتاق لرؤيته اليوم.
مختارات