الأصل الحادى عشر : لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل
الأصل الحادى عشر: لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل
عندنا فى مصر تجد الميكانيكى طوال الاسبوع بملبس العمل المزيت تراه وهو لابس " العفريتة " الزرقاء، ويداه مزيتة ووجهه فيه الشحم، ويوم الاحد لا تعرفه !.. فتراه قد رجل شعره ووضع عليه الفزلين والكريمات، ولبس البدلة ووضع المنديل الاحمر والازرة الالماظ، وارتدى النظارة الشمسية، وخرج فى أحسن صورة، وهو يقول: وقت الشغل شغل، أما آخر الاسبوع فتنزه وفسح وترويح.. هذا الاسطى لو جاء الورشة بهذا اللبس ماذا يقول له صاحب الورشة؟ سيقول له: ارجع، فليس هذا شكل من يريد أن يشتغل !!.. هذا ما اقصده بقول: لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل.. فبعضنا يريد أن يعيش الجنة فى الدنيا مثل هذا الرجل.
إن بعضنا يريد أن يلتزم بالدين وفى نفس الوقت يريد شقة واسعة، ومحمولا وسيارة مكيفة، وعروسا عينها زرقاء وشعرها أصفر وطويلة وعريضة ومطيعة وطالبة علم، وعشرة أولاد صبيان، وبنتا تدللـه، وخداما وخدامة.. لا.. الدنيا دار ابتلاء " لقد خلقنا الانسان فى كبد " (البلد: 4).
" الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (الملك: 2).
المؤمن فى هذه الدنيا فى شغل.. ومتى الفراغ؟.. الفراغ فى الجنة.. فحينما تدخل الجنة افعل ما شئت.. الدنيا دار عمل، فلا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل، فلست فى فسحة من أمرك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ". [أخرجه مسلم] الدنيا سجن المؤمن، والسجن له ظروفه.. السجن له ملابسه وأكله وشربه، وله أحكامه ومواعيده، وله ضوابطه.. الدنيا سجن، فلا تحاول فى السجن أن تعيش الجنة.
السجن له مواعيده.. مواعيد الفسح.. هناك مواعيد للصلاة لا يصح النوم فيها ولا الشغل أثنائها، هذا هو سجن الدنيا.. لابد أن تقطع هكذا.. لكن الذى يريد أن يعيشها على أنها الجنة، فيأكل على مزاجه ويشرب على مزاجه ويمشى على مزاجه وينام على مزاجه، ويفعل ما يريد وما يشتهى، سيضل الطريق لا محالة.
لابد أن تعيش الدنيا كما يريد الله لا كما تريدها أنت.. فأنت الآن فى سجن التكاليف الشرعية.. وإن كنت مكتفا بهذه التكاليف النبيلة، فهناك أناس غيرك مكتفون أيضا بالعادات والتقاليد، لكن ليس لهم أجر ولك أنت أجر.. فلو كنت تمرض فالكفار يمرضون، ولو كنت تتعب فالمنافقون يتعبون.. إذا كنت تؤذى فى سبيل الله، فهناك من يؤذون من أجل مناهج باطلة بل وكفرية.. " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " (النساء: 104) أنت ترجو بالذى تعمله أجرا هم لا يرجونه.. وهذا هو عزاؤك.. ان الله – تعالى – سيعطيك.. فضع نفسك فى سجن التكاليف الشرعية ليكون الخروج على باب الجنة.
ولذلك لم يقل الله للمؤمنين بعد غزوة أحد: كفاكم ما حدث واقعدوا فى بيوتكم.. لا.. بل قال – سبحانه وتعالى – " ولا تهنوا فى ابتغاء ".. خلفهم وإياكم أن تتركوهم.. نعم: شغل مستمر، وعمل متواصل، وجهد غير منقطع، ومع ذلك تجد بعض الناس يريد أن يتناول كل الشهوات، وأن يعيش دوما فى عافية.. يا أخى، إن النبى محمد صلى الله عليه وسلم أوذى وطرد وشتم بل وتفل فى وجهه الشريف.. اضطهد أعز وأطهر مخلوق على ظهر الارض.. صلى الله عليه وسلم.. شتموه ووضعوا التلااب على رأسه.. خنقوه بثوبه ورموا الحجر عليه.. وحفر له حفرة فى غزوة أحد ليقع فيها.. فوقع وجحشت ساقاه.. ودخلت حلقات المغفر فى وجنتيه.. شقوا رأسه وأدموا وجهه وضربوا كتفه.. ورموه بالسهام.. وفى الطائف رموه بالحجارة حتى جرح كل جسده – فداه أبى وأمى ونفسى صلى الله عليه وسلم.. وقع من على الفرس فجحش جنبه الشريف.. مرض بالحمى حتى لم يطق حمّاه أحد.. عاش غريبا.. مطاردا من كفار يريدون قتله.. فداه أبى وأمى ونفسى رسول الله.
من يوم نودى صلى الله عليه وسلم بـ " يا أيها المدثر * قم فأنذر " (المدثر: 1 – 2)، قام ولم يرقد أو يركد بعدها لحظة.. ذهب زمان النوم يا خديجة.
إخوتاه، إن المتفقه فى سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم لا يجد لحظة استراح فيها، فأيامه كلها جهاد وتعب ومشقة.. وإن العين لتذرف رأفة ورحمة به.. مشى كثيرا وجرى كثيرا.. جاع شهورا وكان يأكل الدّقّل (أردأ التمر) وربما لا يجده.. سهر السنين الطويلة.. ونام على الحصير.. ولم يلبس الديباج أو الحرير.. عاش هذه الدنيا فى كد ونصب، ليقيم الحق ويبلغ دعوة ربه، بأبى هو وأمى ونفسى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أرسل بالمدثر فقام صابرا محتسبا، فلم يهدأ حتى جاءه نصر الله، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
هكذا عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتريد أنت أن تعيشها نظيفة حلوة !.. تريد أن تعيشها ممتعا معافى ! تريد أن تعيشها فى راحة وأمان ! لا يا أخى.. هذه دنيا الأصل فيها المشاكل والأحزان، وإلا لما كان هناك اشتياق للآخرة.. الدنيا – يا أخى – للعمل والتعب والجد والاجتهاد، فلا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل.
الدنيا شغل.. شغل للآخرة، فالزم الشغل حتى تمر هذه الدار بسلام.. فإذا أردت زوجة فلتكن ما تكون.. قصيرة أو نحيفة أو.. أو.. المهم أن تكون صاحبة دين و " بنت أصول ".. ولا تتنازل عن هذين الشرطين أبدا.. وارض بها مهما كانت صفاتها، واتخذها بلغة [أى ما تتبلغ به] إلى الجنة.. وفى الجنة سيصنعها الله لك من جديد " إنا أنشأناهنّ إنشاء * فجعلناهنّ أبكارا * عربا أترابا " (الواقعة: 35 – 37)، بل ويزيد لك سبعين حورية من الحور العين.. الزم الشغل ولا تحزن على شىء من الدنيا ولا تفكر فيها، فإن جاءتك أو لمّحت إليك، فسخرها فى خدمة ما أنت فيه من عمل الآخرة، وإلا فاطرحها جانبا وامض فى طريقك إلى الله.
إخوتاه، إن الذى يسير على هذا النهج هو رجل الآخرة الذى يريد الوصول، فلا يخلع ثياب العمل حتى يلقى الله، أما الذى يريد أن يلبس ثياب الفراغ أثناء العمل فينشغل قلبه بالزوجة والمال والاولاد فهو رجل الدنيا يعيش لها، ولذا لن يصل إلى الله مطلقا حتى يخلع ثياب الفراغ، ويلبس دائما ثياب العمل لآخرة.
فوظف – أخى فى الله – كل أركان حياتك فى العمل للآخرة، وواصل الشغل ليل نهار.. فأنت فى مقام مستعبد، ولا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة فى زمان الاستئجار، وكل زمان المتقى نهار صوم.. فواصل السير ولا تنقطع.
* * *
مختارات