علم نفس المنافق
في ظني لا أحد تمس الحاجة لدراسة تصرّفاته، ومحاولة استكناه ما تنطوي عليه نفسه في هذا الزمن أكثر من الرجل المنافق، فهو حقيق بالمتابعة، وأهل لأن يُكشف حاله، لأنّه صنف يجب أن يميّز عن غيره، ويجب أن يخصّ بالدراسة التي تفك شيئا من أسراره، وغرائبه، لتستطيع التعامل معه أولا، ثم لتكفّ عن نفسك ودينك ومجتمعك ما قد يصيبك من شرّه.
لقد خص القرآن الكريم، وهو الكتاب المنهج هذه الفئة المريضة بقدر كبير من الذكر والتفصيل، ليتّضح حالهم، لأنّهم ولغموضهم، وغرابة تصرّفاتهم يحتاجون إلى مزيد عناية في الشرح، وإسهاب في التوضيح، فها هي ثاني سورة في كتاب الله (سورة البقرة) يبيّن الله تعالى فيها حال الكفار بآيتين، ثم يثنّي بالحديث عن المنافقين بثلاث عشرة آية، فأتى على ذكرهم، وذكر شيء من حالهم، وتوعّدهم، وأتى سبحانه بأمثلة تزيد واقعهم بروزا وبيانا.
ولديّ ظن قريب من اليقين أن النفاق لم ينجم ويظهر على طول التاريخ الإسلامي كنجومه وظهوره في زمنين:
الزمن الأول: العهد النبويّ (بعد الهجرة إلى المدينة، وحتى موت النبي صلى الله عليه وسلم).
الزمن الثاني: في هذه السنوات الأخيرة (بعد أحداث سبتمبر إلى الآن).
ولهذا السبب فإني أرى ضرورة إعادة قراءة صفات المنافقين من المصدر الأول، ونبش صفحات التاريخ، لرؤية ما كان يفعل هذا الطابور المندس في الصفوف الإسلامية، ولماذا يفعل ذلك؟
ولأن التخريب الحاصل من هذه الزمرة الفاسدة سيكون قاتلا لأي مجتمع تسكن في أحشائه، فقد أشار القرآن الكريم في غير موضع إلى ضرورة التنبّه إلى الدسائس الآتية من جهتهم، وبيّن سبحانه أن حالهم مكشوف ومفضوح لذوي العلم والبصيرة، وليس كما يعتقد البعض بأن المنافق شيء ملفّف لا يُدرى كنهه، لذلك يجب السكوت عنه ليعبث بمقدرات الأمّة العقديّة.
يقول الحق سبحانه: " ولتعرفنّهم في لحن القول " فمعرفتهم حقيقة، فكل عالم ذو بصيرة يعرف المنافق إذا ما تأمل أقواله، والمعرفة علم بالتفاصيل، فهو علم خاص ودقيق، أدق من مفهوم العلم العام، فالمنافق يجد ضيقا شديدا في نفسه، من كثرة كبته لمعتقده الفاسد، لذلك تجد تصوّراته الخاطئة، وأوهامه الفاسدة تنبثق عادة من خلال أقواله، فتطيش تلك الأوهام المنافقة وتتطاير من خلال أحرفه، فيظهر حاله، فيُعرف.
بل يستحيل أن يأمر الله سبحانه المؤمنين أن يحذروا المنافقين وهو يعلم أن حالهم مستور غير منكشف " هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون "، بل يعد هذا من الأمر بما لا يستطاع وهذا منفيّ، ولا يمكن وجوده في الأوامر الإلهية.
وسبحان الذي جعل المنافق كائنا يحب أن يتحدّث، فالثرثرة ممارسة لصيقة بالمنافق، وهذا ولع خلقه الله في نفوسهم لتظهر من خلاله حقائقهم لأوليائه الصالحين، فهم يحبّون الهذر، لينفسوا به عن ذلك الارتباك الذي يسكنهم، فتجدهم يتحدّثون لتهدأ ثورة نفوسهم، فيبنون مسجدا ضرارا للكفر والتفريق والإرصاد، ويقيمون مؤتمرا أو ينشئون صحيفة أو يرفعون موقعا لأحد هذه الأهداف الثلاثة أو لبعضها أو لها مجتمعة، فيتحدّثون في قنواتهم الكلامية هذه، سواء كان حديثا شفهيّا أو مكتوباً، وسواء خرج على شكل بيان أو مقالة أو تقرير أو حتى قرار، فتجد " لحن القول " مُترع بدلائل النفاق، هذه الدلائل التي هي من الآيات على صدق كلام الله تعالى، ومن زعم أن المنافق لا يمكن أن يعرف فعليه أن يجد حلا لتناقض كلامه مع نص القرآن الكريم.
من أهم ما يميّز نفسيّة المنافق المتأزّمة كونه مرتزقا بالفطرة، يبحث عن زيادة دخله من خلال نقص دينه وعقله ! فهو يعبد الحياة الدنيا، والتي يُعتبر المال إكسيرها المقدّس، فتجده يجري خلف الريال، أو الدولار الأمريكي أو حتى الشيكل الإسرائيلي، المهم هو أن يملأ معدته التي لا تشبع بأي شيء، فالمقصد أن يعيش، فهو لا يطمع في دار أخرى، فعليه أن يستغل فرصته الوحيدة في الحياة، فيحياها متخما بالقدر الكافي. وهذا في الحقيقة موت على شكل حياة، ولكن لا مشكلة لديه في هذا، بما أنّه قد حصل على حياة..
قد يبيع المنافق قيمه ومبادئه وكرامته، كما تبيع إحداهنّ الهوى لنيل أدنى مقابل !، وهذه _ أي القيم والمبادئ _ أوّل ما يستغني عنه في مسيرة البحث عن لقمة العيش، وقد يسرق أيضا قيما ومبادئ ليست له، تماما كما يسرق البعض أحذية المصلين من عند المساجد، وقد يبيع المنافق أهله، وقبيلته، حتى تضطر القبيلة أن تعلن عدم مسؤوليّتها عن أقواله !، حدّثني أحدهم عن قريب له يعلن على الدوام من خلال ما يكتب معاداته لأهل الدين والدعوة، يقول صاحبي: إن جميع من هم حوله ينبذونه، ويكرهونه، لذلك فهو لا يحضر اجتماعات عائلية، ولا مناسبات قبليّة، وكل مقالة يدبّجها للنيل من الشرف، يقابلها عشرات العبارات والاستنكارات والتذمرات الآتية من أقرب الأقربين له، فهم منبوذون من قبائلهم، لأنهم ما رعوا أعراف تلك القبائل، والتي يأتي الدين في المرتبة الأولى منها. فهم صعاليك القبائل، يهيمون في صحارى التيه، تماما كالشنفرى، وتأبط شرّا، والسُليك بن السلكة، أولئك الذين طُردوا من قبائلهم، فصاروا يعيشون في الصحاري مع الذئاب ! الفرق بينهم أن أولئك الصعاليك عاشوا مع الذئاب، وهؤلاء المنافقين عاشوا مع الكلاب !
بل إن التاريخ ليعلن أن أوّل من يبيع وطنه هم شرذمة المنافقين، فعادتهم أن ينسحبوا من كل معركة مصيرية، فقد انسحب عبد الله بن أبيّ بثلث الجيش الإسلامي في معركة أحد، والتي كاد أن يُقتل فيها النبي الكريم.
فالذي لم يرع حق أعظم كيان وأعظم إنسان، هل نظنّ منه أن يصمد في مستقبل الأيام ليدافع عن الدين أو المليك أو الوطن؟
المنافق ليس غبيّا ! هذه يجب أن نحفظها جيدا، فهو يبحث دائما عن مبررات لأفعاله غير المنطقية، فانسحابه من المعركة أو خذلانه للجيش المسلم، أو عدم وجوده في الأماكن التي يوجد فيها المؤمنون دائما مبرر لديه، فهو ذو بشرة حساسة لا تقبل أجواء تلك التجمّعات " وقالوا لا تنفروا في الحر "، وبعض المرات لديه نظرة ثاقبة تنقص أهل الخير " لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا "، وبعض المرات تحتف به ظروف قاهرة لا يستطيع دفعها، تمنعه من أن ينصهر في المجتمع المسلم " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم "، وبعضهم يخشى على نفسه الفتنة، لأن الفتنة تتربص به، فهو إنسان من نوع آخر، حساس جدا لهذه الفتن " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " وهو غافل أو متغافل أن الفتنة العظمى تكمن في الصدود والصد عن أمر الله لذلك يقول الحق في حالهم " ألا في الفتنة سقطوا ".
فالفتنة صُوّرت كحفرة بعيدة القعر، وهم يهوون داخلها، ليستقرّوا في قعرها.
يصرّحون: لا نريد الإرهاب، نكره الإرهاب، نحارب الإرهاب، وفي الحقيقة هم بذور الإرهاب، وصانعو الإرهاب، ومخصّبو الإرهاب.
ولهم حال غريبة مع المظاهر الدينية: الصدقة / الجهاد / الفتوى / المسجد.. دائما تجد عندهم ما لا تجده عند محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.. وحالهم متشابه في هذه الأمور، لأنّه ينبثق من مكان واحد، هذا المكان يحتوي على عدم توقير الرب، وعدم الإيمان، وعدم التقوى.. كل هذه العدميّات أنتجت رؤى متشابهة..
فالمنافقون الأولون يلمزون المؤمنين في الصدقات " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون "
والمنافقون السبتمبريّون يلمزون العلماء في الفتاوى، فإن صدرت فتوى في صالحهم رضوا وإن صدرت فتوى ضدّهم إذا هم يسخطون !
تجدهم يشيدون بالعالم الفلاني إذا قال ما يؤمنون به (فتوى بريمر مثلا)، ثم إذا فاجأهم بفتوى أخرى يستطيعون أن يتسللوا من خلالها لهدم ما هو أهم لديهم من الحفاظ على نفسيّته إذا هو في نظرهم المتخلف الذي يجب أن يحارَب (فتوى إرضاع الكبير مثلا).
ولا يظنّن عالم ولا داعية لحظة سماعه لغزلهم _غير العفيف_ بمنهجه وتوجهه أنّه المحبب والمقرّب، وأنّه بمنأى عن لمزهم وهمزهم ونفخهم، وإن تملّكه هذا الظن فليجرّب وليتحدّث عن حلقات القرآن، أو لينقد شيئا من ممارساتهم المكشوفة، ساعتها سيوصف بتدلّي البطن، وبخفة العقل. فلا مقدّس لدى هؤلاء إلا العدميّات المذكورة آنفا: عدم الإيمان، عدم التقوى، عدم توقير الرب.
أيها الداعية سيحاربون ما تدين الله به، بما يدينون الروم ذات القرون به، وسيعقدون اتفاقيات مع الشيطان ذاته لحربك، وتشويه سمعتك، وطعنك في خاصرتك، وكتابة نهايتك بطعنة أو طعنتين.
أيّها الداعية إن المنافقين ودّوا لو تُدهن فيدهنون، أما إن آثرت الصدق مع نفسك، والإخلاص لقضيّتك فإنّهم حينها إن يروا كارثة يقولوا هذه بسببك، وإن يسمعوا تفجيرا يقولوا هذا من أفكارك، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك.
نعم أنت الآن أيّها الداعية المملّس عليهم محبوب، أنت الآن المشجب الذي يعلّقون عليه مدائحهم، أنت بالنسبة لهم القُليس الذي يطوفون حوله لا حبا فيه ولكن كرها في الكعبة شرّفها الله، فانتبه قبل أن يهدموك، واحذرهم أن يفتنوك.
ابن بينك وبين مدائحهم سورا ليس له باب، فإن تسوّروا المحراب ليصلوا إلى قلبك فاغلظ عليهم، واتل عليهم القرآن فإنّه يحرق هشيمهم، وجاهدهم به جهادا كبيرا، ضيّق عليهم خناق نفاقهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا، وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله.
حُلمهم، ومُناهم أن تركن إليهم شيئا قليلا، عند ذلك يتخذونك خليلا، أما إن ركنت إليهم شيئا كثيرا فهم حتما سيتخذونك حمارا يركبونه يوم ظعنهم ويوم إقامتهم. فيحوّلونك من شيخ جليل إلى مجرّد عميل.
لا تكن شخصا بلا ذاكرة، طيبا إلى درجة السذاجة، فتجادل عن الذين يختانون أنفسهم بحجّة الوسطيّة، أو التنمية الوطنية !، أو غيرها من الحجج الواهية، وتنسى يوم أن طرحوك أرضا، وألقوك بوشاياتهم في غيابة الجب، لست أنت خصمهم، إنهم يحاربون الله من خلالك، فلا تكن للخائنين خصيما.
المنافقون الأوّلون لديهم أزمة اسمها المسجد، فهم ضد المسجد كصلاة، وكإمام، وكاجتماع للمؤمنين..
وهم الآن ضد المسجد كوجوب لصلاة الجماعة، وكقرآن يُتلى في المساجد، وكدروس تلقى في المحاريب..
إن أصابت أهل الخير حسنة، أو جاءهم فتح من الله، أو ارتفع لهم شأن، ساءهم ذلك، فانصرفوا إلى الكتابة الخدميّة التي تُعنى بالصحة والطيران والمواصلات والبلديّة، وإن أصابت أهل الخير مصيبة من مصائب الدنيا التي يبتلي الله بها المؤمنين ليمحّصهم سنّوا أقلامهم وتحوّلوا من الاعتناء بشأن الصحة والبلدية إلى قضايا الإرهاب والتشدد والتطرّف وصاروا أهل فكر واهتمام بقضايا الحراك والعراك وقالوا " قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ".
ومنهم الذين يؤذون النبي فيقولون إنه جاء بالوحشيّة، والهمجيّة، وينشرون في صحفهم كلاما شنيعا عن هذا النبي الكريم وعن زوجته الكريمة عائشة _ رضي الله عنها وأرضاها _ وعن حياته، وعن تاريخه العظيم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم.
إذا انكشف أمرهم، وبان عوارهم، صاروا أتقياء اللهجة، لا يريدون إلا الخير، وهم مشغولون بفعل الخير، وأفكارهم وأعمالهم إنما تصب في صالح الخير، و " ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى "، " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم "، " يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ".
مقالاتهم تشيد ببعضهم، وأقوالهم تلميع لذواتهم، وذيولهم تشهد لرؤوسهم، وإناثهم تدافع عن ذكورهم " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض " فهم طينة واحدة، يتعارفون بروائح أفكارهم، أدمنوا استنشاق النفاق، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ويذكرون بعضهم كذكر الصالحين لله، أو أشد ذكرا.
مدمنون على تقليب قدر النفاق، الذي يحوي قضايا محدودة ومعدودة، وأثناء تقليبهم تظهر لسطح القدر قضية عمل المرأة ثم تغوص لتظهر عيوب الأمر بالمعروف ثم تغوص لتظهر مثالب القضاء ثم تغوص لتعود الأولى، وقد سمّى فعلهم هذا رب العزّة بالتقليب، لأنها أمور تغوص ثم تطفو تماما كحال ما في القدر حين يقلّب: " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور ".
لا تزال صحفهم التي أنشئوا، ومقالاتهم التي كتبوا، وأفكارهم التي أعلنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم والله عليم حكيم.
تقرأ لأهل الخير والصلاح كلاما نبيلا، عظيما، يصدر عن مشكاة القرآن والسنّة، فيستقر الحق في قلبك، وتجزم أنه لو اطّلع أحدهم عليه لتاب وأناب وثاب عن شروره، فإذا بشرّهِ _ بعد اطلاعه على ذلك الكلام _ يزيد، وزيغه يستشر، فتتعجّب كيف تفاعل ذلك الخير مع ما في نفسك فأنتج إيمانا ويقينا، وتفاعل هو ذاته مع الوسخ الذي في قلوبهم فأنتج شكا وضلالا، فتقرأ قول الحق: " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " فيهدأ تعجبك، فهؤلاء من أولئك " تشابهت قلوبهم "..
وبعد هذه الجولة السريعة في هذه النفس المأزومة، والروح المهزومة، والتي تراكمت عليها أوساخ الكفر والشك، لا نجد شيئا يشفي صدور القوم المؤمنين، تجاه هذا العدوّ المبين مثل قول الحق تعالى:
" وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنّم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ".
صدق الله العظيم.
مختارات