المترجّلون عن صهواتهم
خرجتُ من صلاة الجمعة قبل أشهر، وما أن حرّكت سيّارتي حتى أخذْتُ دون وعي منّي أترنّم بنشيد قديم، عنوانه " شبل العقيدة ":
يا أخــــــــــــي صوت أنين القدس فينا قد أهابا
إخوة في كل قُطْر يتشكّون المصابــــــــــــــــــــا
دمعهم بلّ الثرى قَطْرا وسَفحا وانسكابــــــــــــا
ضع يديك الآن هيّا في يَديْ شبل العقيدة
كانت السيّارة تسير بهدوء، والشوارع ترمقني بفتور، وأشعة الظهر تريني أوجه الناس أكثر عاديّة.. وتلك الكلمات ترسل مقدّمات الدمع إلى أشفار عيني!
فجأة توقّفتُ عن الترنّم باستغراب! تساءلتُ: كيف ظهر هذا النشيد لسطحِ ذاكرتي فجأة؟ كيف أخذتُ أترنّم به دون وعي منّي، وأنا لم يسبق لي أن ردّدته؟
بيني وبينه عشرون سنة! ما الذي أتى به من أغوار السنين، وأعماق الذاكرة؟
أخرجت الجوّال وبحثت عنه في اليوتيوب واستمعت له من جديد وكلّي شوق وحنين لأيّام الماضي، وكلّي حزن على جراح الأمّة التي مازالت تثعب رغم السنوات المتطاولة!
هذه الحالة الغريبة كرّست ما كنت أعتقده من أن الشعر/النشيد يتسلل إلى أغوار النفس، ويصنع تموّجات قِيَميّة تشكّل مع غيرها من المؤثرات شخصيّة الإنسان واهتمامه وتطلّعه..
الشعر كلام موزون مقفى، خفيف على النفس، جميل الشكل، فإذا جاء بمعنى جليل وبصوت حسن تحوّل إلى سحر ينفث في الروح معانيه، وتستدعيه الذاكرة، ويظهر على السلوك..
كنّا نستمع للنشيد قديماً على وَجَل، وكان أساتذتنا يحذروننا من المبالغة في سماعه! كانوا يعتقدون أن الإكثار من سماعه يصرف عن معالي الأمور، من حفظ للقرآن وطلب للعلم.. كان هذا اجتهادهم جزاهم الله خيرا..
أما القدماء فكانوا يحبّذون الإكثار من رواية الشعر وحفظه، وتكراره وترداده، وكان مقصودهم أن يكون هذا الشعر رافداً لغويّا، يقوّم اللسان، ويَحدُث به نُبل تربوي.. ولا أدري ماذا كانوا سيفعلون لو أن الشعر في عصرهم كان كشعر النشيد الأصيل داعيا إلى الفضائل، ومحفّزَ الهمم إلى الكمالات، مؤدّىً بألحان تسهّل حفظه، وتحسّن ترديده لدى النشء؟
أعيدوا سماع أو قراءة أشعار القرضاوي والعشماوي واللويحق والأميري ومحمود مفلح وقميحة وبارود وغيرهم من شعراء سخّروا مواهبهم في سكب المعاني النبيلة الجليلة في كلمات عذبة جميلة.. انظروا لكميّة القيم والمبادئ، لاحظوا غزارة المعاني وطهارة الألفاظ.. حرام أن نخسر هذا الإرث!
أجد الآن في ذاكرتي، وذاكرة جيلي آلاف الأبيات التي تظهر كاستشهادات، وترنّمات، بل غالبيّتها لا يظهر كأبيات موزونة مقفّاة، بل كمعاني نؤمن بها، ومبادئ متجذرة في النفس، نسينا من أين استقيناها، ولكنّها باتت جزءاً من أحاسيسنا، ونبتت عليها أفكارنا، ونشزت بها خلايانا..
والآن.. ومحزنة كلمة (الآن) هذه..
أبحث عن نشيد ليقوم بمهمّة زرع القيم والمبادئ والمثل في نفوس أبنائي فلا أجد!
لقد ترجّل مجاهدو الكلمة عن صهواتهم!
أبو معاذ فضّل الصمت..
وأبو عابد تلاشى..
وخالد الخلف ابتعد..
ومحمد المساعد توارى..
وهاني مقبل خفت..
ومحمد الحسيّان أطفأ الأنوار وذهب..
وأبو علي وأبو عبد المجيد اكتفيا بحوليّات..
وأبو عبد الملك قتل موهبته بيده !
وهكذا، صرنا لا نجد إلا تأوّهات، وغزل باسم الحب في الله، وصوفيّات مقنّعة، وشيلات تعزز العنصرية، أو المعاني التافهة..
لقد اكتفى فرسان الأمس بمغادرة المسرح! أو بنقد هُزال اليوم، ثم لم ينهضوا بهذا الفن السامي، وتركوه نهباً لمن رأس مالهم حناجرهم، أما غير ذلك فلا حظ لهم فيه! لا كلمات ولا معاني ولا رسائل.. ينشدون أي شيء تتجلّى فيه عبقريّة اللحن، وتموّجات الموّال، ونغميّة المقام، وتردد السلّم الموسيقي! وصار النشيد يخوض معركة البيات والحجاز والصبا.. بعد أن كان يخوض معارك الفضيلة والقيم والشرف!
شيء يحزنني عندما أتذكّر كيف أنّك كنت إذا أدخلت شريطاً في المسجّل سمعت:
يا أرض أندلس الحبيبة كلّمي
إني بكيت على ترابك فاعلمي
أو كنت تنصت لـ:
وما تزالْ
تمضي سفينة الجلالْ
في دربها رغم المُحالْ
رغم الدجى رغم الضلالْ
لم تخش كيد الخائنين
المعتدين الظالمين
ولم تُبالْ..
أو كنت تبكي لسماع:
أيها العالم الذي
شبّ جمرا وأضرمهْ
وغدا كل شاطئ
غابة فيه مظلمةْ
وغدت كل نظرة
فيه عمياء معتمةْ
وغدا كل راكض
فيه يبدي تجهّمهْ
وغدا القدس صفحة
لحكايا مترجمةْ
لا ترى فوق أرضه
غير ذئب وجمجمةْ
صار مأوى عصابة
وقرود ململةْ..
ها هنا جرح مسلم
وهنا دمع مسلمةْ
لقد قرر أصحاب هذه المعلّقات الإنشاديّة الرائعة أن يتركوا الميدان للعابثين بهذا الفن الأصيل، هذا الفن الذي نحتاجه لغرس القيم بطريقة جميلة، طريقة يفهما الطفل، ويتذوّقها الفتى، ويترنّم بها الشاب..
أين النشيد الإسلامي عن جهاد اليمن؟ ومؤامرات الصفوي؟ وعبث الليبرالي؟ أين هو عن انتكاسات الفكر والإيمان؟ أين النشيد عن حالات الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة والطفل والمسكين؟ أين النشيد عن معاني البطولة والشهامة؟ أين النشيد عن تزكية النفوس؟ إن المعاني المطلوب من النشيد أن يعالجها لا حصر لها! ولكنّه _للأسف_ مات دماغيّاً!
الشعر سواء كان نشيداً أو غير نشيد أداة مهمّة لا ينبغي إهمالها، بل ينبغي استثمارها، والاستفادة منها كرافد تربوي قيمي، يشارك الأب والمعلّم والخطيب والعالم والداعية مهمّة تزكية النفوس، ورفع سقف الاهتمامات..
كم يعاني النشيد الأصيل من عقوق أبنائه الذين باتوا اليوم أساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين ورجال أعمال وقضاة! كلّهم يستحون أن يقولوا له (شكرا) لقد ملأتَ ذاكرتنا بأشياء جميلة !!
يعتقدون أنّهم يُنقصون من أقدارهم إذا اعترفوا أن النشيد ساهم في تكوين اهتماماتهم وشخصياتهم..
أرجوكم لأجل أجيالنا شدّوا على أيدي فرسان الماضي، أخبروهم أنّهم كانوا مؤثرين حتى يقتنعوا بالرجعة..
أيها الداعية والشيخ والمفكّر والمهموم بالإصلاح.. لماذا قررت أن تخسر هذه الورقة المهمّة في عالم التأثير؟ لماذا لا تصرخ بإخوتك أن عودوا.. إننا بحاجتكم الماسّة؟
أيّها المترجّلون عن صهواتكم.. ارجعوا بالشعر الفصيح، فهو الخالد على مرّ السنوات..
ما زلنا نبحث عن أناشيدكم ونعيد تأمّلها، وتسيل على وقع أصواتكم الصادقة أدمعنا الحارقة!
إن تلك الآذان التي استمعت لكم بالأمس تشتاق كثيراً لسماعكم اليوم..
عودوا بألحانكم الهادئة، وكلماتكم المؤثرة، ومعانيكم السامقة..
شكّلوا وعي أبنائنا كما فعلتم ذلك بنا.. انتقوا أجمل الشعر ثم جاهدوا به الزيف والخواء المتشظّي في الحياة.. جاهدوه جهاداً كبيراً..
مختارات