فقه الصبر (٥)
والله تبارك وتعالى يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها كما قال سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)} [النحل: ٢٥].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (١).
ومشقة الصبر تكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل، وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر.
وإن فقدا معاً سهل الصبر عنه، وإن وجد أحدهما دون الآخر سهل الصبر من وجه، وصعب من وجه.
فمن لا داعي له مثلاً إلى القتل والسرقة والزنى، ولا هو سهل عليه، فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله عليه، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه، فصبره عنه أشق شيء عليه.
ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم.
وصبر الشاب عن الفاحشة.
وصبر الغني عن اللذات والشهوات عند الله بمكان.
ولذلك استحق السبعة أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (٢).
ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والفقير المختال أشد العقوبة؛ لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمة عليهم، لضعف دواعيها في حقهم، فتركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليل على تمردهم على الله، وشدة عتوهم عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ (قال أبُو مُعَاوِيَةَ: وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ) وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» أخرجه مسلم (٣).
ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر، لشدة الداعي إليهما وسهولتهما.
فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالغيبة والنميمة، والكذب والمراء، والثناء على النفس، والطعن على من يبغضه، والثناء على من يحبه ونحو ذلك.
فتتفق قوة الداعي، وتيسر حركة اللسان، فيضعف الصبر.
ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ومع ذلك يطلق لسانه في الغيبة والنميمة، ويتفكه في أعراض الخلق.
وكثير من نجده يتورع عن الدقائق من الحرام، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام لقوة الداعي إليهما وسهولتهما.
ولهذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (٤).
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالصبر وعلق الفلاح به فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)} [آل عمران: ٢٠٠].
وأخبر سبحانه أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)} [السجدة: ٢٤].
وبين سبحانه مضاعفة أجر الصابر على غيره بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)} [الزمر: ١٠].
ووعد الله الصابرين بثلاث خصال كل واحدة خير من الدنيا وما فيها فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)} [البقرة: ١٥٥ - ١٥٧].
وبين سبحانه أن المغفرة والأجر الكبير إنما تحصل بالصبر والعمل الصالح فأخبر سبحانه أن كل أحد خاسر: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)} [هود: ١١].
وجعل سبحانه الصبر سبب محبته ومعيته، ونصره وعونه، وحسن جزائه، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً.
فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)} [آل عمران: ١٤٦].
وقال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)} [الأنفال: ٤٦].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (٥).
والأمور المنافية للصبر:
الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه.
أما الشكوى إلى الله فهي محمودة مشروعة كما قال أيوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)} [الأنبياء: ٨٣].
وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة به فيما يقدر عليه، والتوصل إلى زوال ضرره، لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بما يؤلمه ويشكو منه، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه.
والأنين على قسمين:
أنين شكوى فيكره.
وأنين استراحة وتفريج فلا يكره.
وأما الشكوى فهي نوعان:
شكوى بلسان المقال.
وشكوى بلسان الحال، ولعلها أعظمها، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنعم عليه ربه أن يظهر نعمة الله عليه، وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير، فهذا أمقت الخلق عند ربه.
ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، وحلق الشعر، وضرب إحدى اليدين بالأخرى، والدعاء بالويل.
ولا ينافي الصبر والبكاء، والحزن عند المصيبة كما قال الله عن يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)} [يوسف: ٨٤].
وَاشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: «أقَدْ قَضَى؟» قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللهِ! فَبَكَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
فَلَمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، بَكَوْا.
فَقَالَ: «ألا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا (وَأشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) أوْ يَرْحَمُ».
متفق عليه (٦).
ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة، والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، ويضاد الصبر الهلع، وهو الجزع عند حصول المصيبة، والمنع عند ورود النعمة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)} [المعارج:١٩ - ٢١].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٦٧٤).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٤٢٣)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٠٣١).
(٣) أخرجه مسلم برقم (١٠٧).
(٤) حسن: أخرجه الترمذي برقم (٢٠٠٤)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (١٦٣٠).
وأخرجه ابن ماجه برقم (٤٢٤٦)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (٣٤٢٤).
(٥) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٦٤١)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٥٧٣).
(٦) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٣٠٤)، ومسلم برقم (٩٢٤) واللفظ له.
مختارات