قفز الحواجز (5)
العقبة السادسة والسابعة: الجبن والبخل
والجبن والبخل من أبشع الآفات وأصعب العقبات لأن سلعة الجنة غالية لا تُشترى بغير النفس والمال، وهذان يمنع من إنفاقهما الجبن والبخل، وبالتالي تبور تجارة الآخرة وتضيع الصفقة على الشاري، والعلاقة بينهما سبق وأن وضَّحها ابن القيِّم:
(تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن، وعن النفع بماله وهو البخل.)
فالبذل المنتظر من صاحب الرسالة اليوم إما بماله، وإما ببدنه، فالبخيل يضِنُّ بماله، والجبان يضِنُّ ببدنه، صفتان متلازمتان رضعا من ثدي واحد، والتواطؤ بينهما واضح والأدلة دامغة بحيث لا تحتاج إلى شهود، لذا قال النبي ﷺ يوم حنين) ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ): وجاء في وصفه ﷺ على لسان أنس كان رسول الله r.. وأجود الناس وأشجع الناس، في إشارة واضحة إلى تآخي الصفتين، ولاشتهار هذه الصلة فقد أشار الشعراء إلى هذا الترابط، فتواترت أبياتهم وتسابقت كلماتهم تمزج بين الشجاعة والكرم،
فقال المتنبي:
وكلٌّ يرى طرق الشجاعة والندى ولكنَّ طبعَ النفس للنفس قائد
أما عن البخل فقد أبان النبي ^ بشاعته حين قال:
(وأي داء أدوى من البخل. )
وبخل صاحب الرسالة أبشع، لأن من بخل بماله فهو بالنفس أبخل، وصاحب الرسالة من بنود عقده مع الله: والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فأنى يلتقيان؟!
أنت طالب مجد تليد لدينك وأمتك، ومثلك يسري عليه قول عمرو بن الأهتم :
وإنك لن تنال المجد حتى تجود بما يضِنُّ به الضمير
بنفسك أو بمالك في أمور يهاب ركوبَها الوَرِِعُ الدَّثور
ومن خطورة البخل أنه قد يؤدي إلى غيره من الذنوب، ولذا كان أبو حنيفة لا يجيز شهادة البخيل، فقيل له فى ذلك فقال: أنه يتقصَّى، ويحمله التقصّي على أن يأخذ فوق حقه، ونفس الرأي اتفق فيه الشعراء مع الفقهاء، فهذا عمرو بن الأهتم مرة أخرى يقول:
ذريني فإنَّ البخل يا أم مالكٍ لصالح أخلاق الرجال سَروق
ولأن البخل وإمساك المال من أهم مولِّدات العيوب، لذا يُعاقب البخيل بعقوبتين أولهما عاجلة وهي هموم الدنيا، والأخرى مؤجَّلة إن هو جار على حق أو منع حقا وهي نار الآخرة، كما قال القائل مسجِّلا هذه الملاحظة اللغوية البديعة التي صاغها شعرا:
النار آخر دينارٍ نطقتَ به والهمُّ آخرُ هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما ما لم يكن ورِعًا مُعذَّبُ القلب بين الهمِّ والنار
لذا فالبخل شرٌّ كله بحروفه الثلاثة كما قال أبو علي الجورجاني: «هو على ثلاثة أحرف: الباء وهو البلاء، والخاء وهو الخسران، واللام وهو اللوم، فالبخيل بلاء على نفسه، وخاسر في سعيه، وملوم في بخله»().
عَرَض ومرض!!
يقول الأستاذ فتحي يكن رحمه الله في كلام يفتح الجروح ليداويها والقلوب ليشفيها:
) وهنالك ظاهرة تكاد تكو مكررة وهي أن أكثر الذين تساقطوا على طريق الدعوة كانوا بخلاء بشكل أو بآخر!! وفي ذهني الآن أسماء مجموعة من هؤلاء كانت الشكوى منهم دائما أنهم يبخلون على الدعوة حتى بقيمة الاشتراكات الشهرية الزهيدة.)
المؤكد إذن أن البخل عرَضٌ لمرض، والمرض هنا هو إيثار الدنيا على الآخرة، وتفضيل ما عند الناس على ما عند الله، وتقديم ما سوى الدعوة على الدعوة، والعقلاء ينشغلون بأصل الداء وجذور البلاء، ذلك أزكى لهم وأطهر.
أما عن الجُبن: فهو علامة على اهتزاز الثقة بالنفس، وضعف الصلة بالله، ووهن اليقين بالقدَر، ورِقَّة الدين، وكلٌ من الجبان والشجاع يحب نفسه؛ الجبان يحبها فيهينها وهو يحسب أنه يُكرِمها، والشجاع يحبها فيقذف بها في مواطن الشرف الدنيوي و الأخروي،
وقد عبَّر المتنبي عن هذا بقوله:
أرى كلَّنا يبغي الحياةَ لنفسه... حريصاً عليها مُستهاماً بها صبًّا
فحبُّ الجبانِ النفس أورثه التُّقى... وحُبُّ الشُّجاع النفسَ أورثه الحربا
والجبن مولود طبيعي للأم التي تُرضِع ابنها الخوف من عواقب الخطر وتبعات الرسالة، والأب الذي تأخذه عاطفته فيخاف على ابنه الأذى والسوء، والزوجة التي قتلت زوجها بحبها وأقعدته إلى جوارها، والولد الذي يتعلق به قلب والده، والحاكم الظالم الذي يُهدِّده ويتوعَّده، كل هؤلاء يغرسون في القلب بذور الجبن.
وهل ينفع الجبن في مواجهة الموت؟! اسمع ردَّ الغزالي في واحدة من تأملاته في الواقع والحياة:
) إ ن الشجاعة قد تكلِّف صاحبها فقدان حياته، فهل الجبن يقي صاحبه شر المهالك؟ كلا، فالذين يموتون في ميادين الحياة وهم يولون الأدبار أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون الأخطار. )
معادلة فهمها الصالحون في كل العصور، فبذلوا أرواحهم في سبيل دينهم لعلمهم أن ساعة الموت لا تتأخر لحظة، وأن زيارة ملك الموت مسجلة في اللوح المحفوظ من آلاف السنين لم تتغيَّر، لا يؤجِّلها حرص الحريص أو حذر الجبان. قال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي: (عُرضتُ علي السيف خمس مرات، لا يُقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يُقال لي: اسكت عمَّن خالفك، فأقول: لا أسكت.)
ومن جمع هاتين الآفتين المهلكتين فهو الفقير كل الفقر، المستحق للشفقة والمستوجب للإحسان كما نطق بذلك ابن الرومي فقال:
ومن راح ذا حرص وجُبن فإنه فقيرٌ أتاه الفقر من كل جانبِ
ولا يعالج هاتين الآفتين مثل الإيمان بالقدر، وهو ما أرشدنا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث ليس كمثله دواء:
(لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهد، فإنه لا يقرب من أجل، و لا يباعد من رزق ).
مختارات