الآفة الأولى - الفتور
الفتور معناه لغة: يطلق الفتور على معنيين: أ) الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة. ب)الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد. جاء في لسان العرب: (وفتر الشيء، والحر، وفلان يفتر، ويفتر فتوراً وفتاراً: سكن بعد حدة ولان بعد شدة). اصطلاحا: أما في الاصطلاح فهو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين بل قد يصيبهم بالفعل. أدناه: الكسل أو التراخي أو التباطؤ. وأعلاه: الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة. قال تعالى عن الملائكة: { وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }. أي (أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به ويصلون ويذكرون الله ليل نهار لا يضعفون ولا يسأمون). أسبابه: ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية: (1) الغلو والتشدد في الدين: بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي: الانقطاع والترك بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد ونهيه الصريح عن الغلو، والتنطع، والتشديد إذ يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ(إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين)، (هلك المتنطعون) قالها ثلاث يعنى: المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم أفعالهم. (لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، والديارات - رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه....) وعن أنس رضى الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم - في السر، فلما أخبروها كأنهم تقالوها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم إلى لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى)، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، فقال من هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال:0 مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه)، (اكفلوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ) وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - قال: كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل). 2- السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات: فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى السمنة وضخامة البدن، وسيطرة الشهوات، وبالتالي التثاقل، و الكسل و التراخي، إن لم يكن الانقطاع و القعود، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله، وتحذيرهما من السرف، قال تعالى:{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه...) وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السرف و التوسع في المباحات بصاحبه، فحذروا منه، إذ تقول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها -: (أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم) وإذا يقول عمر - رضى الله تعالى عنه -: (إياكم و البطنة في الطعام و الشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وابعد من السرف،وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه) وإذ يقول أبو سلمان الدارانى: (من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة - وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل). 3- مفارقة الجماعة، وإيثار حياة العزلة و التفرد: ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد، متعددة المراحل، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد، فإذا سارها المسلم مع الجماعة، وجد نفسه دوماً، متجدد النشاط، قوى الإرادة، صادق العزيمة، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه، ويقوى إرادته، ويحرك همته، ويذكره بربه فيسأم ويمل، وبالتالي يتراخى ويتباطأ، إن لم ينقطع ويقعد. ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة، وتحذيره من مفرقتها، و الشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } { وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان...} { وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم... } { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم } وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (.... عليكم بالجماعة،وإياكم و الفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) (من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) (وآمركم بالسمع و الطاعة، و الهجرة و الجهاد، و الجماعة، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا كانت ميتته ميتة جاهلية) (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) وقد أدرك سلف الأمة ذلك فلزموا الجماعة، ورغبوا فيها، وأكدوا عليها، يقول علىّ رضى الله عنه:_(كدر الجماعة خير من صفو الفرد) ويقول عبد الله بن المبارك: لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ولكان أضعفنا نهباً لأقوانا 4- قلة تذكر الموت و الدار الآخرة: فإن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى فتور الإرادة، وضعف العزيمة، وبطء النشاط و الحركة، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور بعد النهي و التحذير، إذ يقول: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن فيها عبرة) وفي رواية: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة) كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت، وانتهاء الأجل إذ يقول: (أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، فقال رجل: يا رسول الله إنا نستحي من الله تعالى؟ فقال: من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه، وليحفظ البطن وما حوى و الرأس وما وعى وليذكر الموت و البلى، وليترك زينة الدنيا) 5- التقصير في عمل اليوم و الليلة: مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة، وترك قيام الليل، أو صلاة الضحى، أو تلاوة القرآن، أو الذكر أو الدعاء، أو الاستغفار، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات، وأدنى هذه العقوبات: الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شئ من هذا إذ يقول: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد: يضرب كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) 6- دخول جوفه شئ محرم أو به شبهة: إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه، وإما بسبب تعامله فيما نسميه شبهة، وإما بسبب غير ذلك، فمثل هذا يعاقب من سيده ومولاه، وأدني عقاب في الدنيا، أن يفتر فيقعد ويرقد عن الطاعات، أو على الأقل يكسل ويتثاقل فلا يجد للقيام لذة، ولا للمناجاة حلاوة. ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه، والابتعاد عن الحرام، وما كانت به أدنى شبهة، إذ يقول الله عز وجل: { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين } { فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون }{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، إني بما تعملون عليم } وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل جسد نبت من سحت - أي من حرام - فالنار أولى به)، (الحلال بين و الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، و المعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه) (دعما يريبك إلى ما لا يريبك)، ويربى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عملياً على ذلك حين يجد تمرة في الطريق ويرفض أكلها قائلاً: (لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) وعلى هذا المنهج سار سلف الأمة، فكانوا يفتشون ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم من الطعام و الشراب واللباس و المركب.... الخ وإذا وجدوا شيئاً شابته شائبة أو أدنى شبهة اجتنبوه، مخافة أن يجرهم إلى الحرام، فتفسد قلوبهم، فيحرموا العمل أو يحرموا قبوله. عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت: (كان لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - غلام يخرج له الخراج، فجاء في يوم بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: أتدرى ما هذا؟ فقال أبو بكر وما هو؟؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أنى خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شئ أكله) 7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين: كأن يجعل همه العقيدة فحسب، ملغياً كل شئ غيرها من حسابه، أو يجعل همه الشعائر التعبدية، تاركاً كل ما سواها، أو يقتصر على فعل الخيرات وراعية الآداب الاجتماعية، غاضاً الطرف عما عداها فكل هؤلاء وأمثالهم تأتى عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور، وهذا أمر بديهي، نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها، فإذا اقتصر واحد من الناس على بعضه فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة، لا كل الحياة، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل: وماذا بعد؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور إما بالعجز وإما بالكسل. ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض، ولا تجزيء: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين }،أي اعملوا بجميع شعب الإيمان، وشرائع الإسلام، ولا تسيروا خلف الشيطان، لما يكنه لكم من العداوة و البغضاء فيصرفكم عن منهج الله بالكلية، أو عن بعضه فتفتروا وتضيعوا.... 8- الغفلة عن سنن الله في الكون و الحياة: فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله - أفكاره ومشاعره،وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يوم وليلة بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة و الواقع، مع شجاعة وجرأة وفية، لا تستكثر تضحية وإن غلت، ولا تعبأ بالموت سعت إليه أو سعى إليها، ولا تهتم بالنتائج أياً كانت، ما دامت نيتها لله، وما دام هدفها إعلاء كلمة الله، غير واضعين في حسابهم سنن الله في الكون و الحياة: من ضرورة التدرج في العمل، ومن أن الغلبة إنما تكون للأتقى، فإذا لم يكن فللأقوى، ومن أن لكل شئ أجلا مسمى لا يقدم ولا يؤخر.... الخ فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع، وكان غير ما أملوا، وما أرادوا وما عملوا، فتروا عن العمل إما بالكسل و التواني و التراخي، وإما بالقعود والانسلاخ و الترك. 9-التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين: ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين، ضانين على أنفسهم بقليل الراحة و الترويح فهؤلاء وأمثالهم، وإن كانوا معذورين بسبب ضخامة الأعباء، وكثرة الواجبات وقلة العاملين، إلا أنه تأتى عليهم أوقات يفترون عن العمل لا محالة. ولعل هذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على حق البدن مهما تكن الأعذار و المبررات إذ يقول: " إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية أخرى: " فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزويك عليك حقاً " 10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق: ذلك أننا نجد بعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته، من زوجة أو ولد، أو إقبال دنيا، أو امتحان، أو ابتلاء،أو نحو ذلك، و بالتالي لا يأخذون أهبتهم، ولا استعدادهم،وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات، أو ببعضها، فإذا هم يعجزون عن مواجهتها،فيفترون عن العمل إما بالكسل و التراخي، وإما بالوقوف والانقطاع. وهذا سر تنبيه القرآن الكريم، وتحذيراته المتكررة من معوقات الطريق إذ يقول سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم، إنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم }، { واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة }، { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب... }، { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }، { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم }. 11-صحبة ذوى الإرادات الضعيفة و الهمم الدانية: فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع و شهرة،وحين يقترب منهم ويعايشهم يراهم خاوين فاترين في العمل، كالطبل الأجوف، فإن مضى معهم عدوه- كما يعدى الصحيحَ الأجربُ - بالفتور و الكسل. وهذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب، إذ يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل). (إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة). 12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي: ذلك أن كثيراً من العاملين أفراداً كانوا أو جماعات يمارسون العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً، ولا تعرف نظاماً، فيقدمون الأمور الثانوية أو التي ليست بذي بال ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسية و التي لابد منها من أجل التمكين لدين الله، وهذا يؤدى إلى أن تطول الطريق وتكثر التكاليف و التضحيات، فيكون الفتور غالباً، إن لم تتدخل يد الله بالرعاية و التأييد و الثبات. ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وجهه إلى اليمن إذ قال له: إنك تأتى قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. إن الحديث قاعدة رئيسية في منهجية العمل، وترتيبه ودقته. 13- الوقوع في المعاصي و السيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها: فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور، وصدق الله الذي يقول: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً، كمثل قوم نزلوا إلى أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود و الرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً، وأنضجوا ما قذفوا فيها)، (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً، نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره - عز وجلّ - { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }. تلك هي الأسباب التي توقع في الفتور غالباً. آثاره: وللفتور آثار ضاره، ومهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي: على العاملين: فمن آثاره على العاملين قلة رصيدهم - على الأقل - من الطاعات، وربما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان، فيلقى الله مقصراً مفرطاً، لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك منالهم و الحزن وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن و البخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). (اللهم اجعل خير عمري آخره اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك).... (..... اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه) وكان من بشرياته لأمته: (إذا أراد اله بعبد خيراً استعمله، قيل كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه) وكان من وصيته لها: (إن العبد ليعمل بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم) (لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له) وكان من تأثر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - لما مرض مرض الموت إذ جاء: أنه لما مرض بكى فقال:0 إنما أبكى لأنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني على حال جهاد) ويقصد أن المرض أصابه وهو في حال سكون وتقليل من العبادات و المجاهدات. على العمل الإسلامي: ومن آثاره على العمل الإسلامي طول الطريق، وكثرة التكاليف و التضحيات، إذ مضت سننه سبحانه: ألا يعطى النصر و التمكين للكسالى و الغافلين و المنقطعين، وغنما لعاملين المجاهدين الذين اتقنوا العمل، واحسنوا الجهاد: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } { إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } علاجه: ولما كان الفتور يؤدى إلى الآثار و المخاطر التي ذكرنا لزم التحرز و التطهر منه ويستطيع العاملون التحرز و التطهر منه على النحو التالي: 1- البعد عن المعاصي و السيئات كبيرها وصغيرها، فإنها نار تحرق القلوب، وتستوجب غضب الله، ومن غضب عليه ربه فقد خسر خسراناً مبينا ً ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى } 2- المواظبة على عمل اليوم و الليلة: من ذكر ودعاء وضراعة، أو استغفار، أو قراءة قرآن، أو صلاة ضحى، أو قيام ليل، ومناجاة ولاسيما في وقت السحر، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد، ينشط النفوس ويحركها ويعلى الهمم، ويقوى العزائم، قال تعالى { وهو الذي جعل الليل و النهار خلفة، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً } { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً..... سنلقى عليك قولاً ثقيلاً... } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه من الليل، أو على شئ منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) 3- ترصد الأوقات الفاضلة و العمل على إحيائها بالطاعات، فإن هذا مما ينشط النفوس، ويقوى الإرادات يقول: صلى الله عليه وسلم: (..... فسددوا وقاربوا وأبشروا واستيعنوا بالغدوة و الروحة وشئ من الدلجة) 4- التحرر من التشدد و الغلو في دين الله، فإن ذلك مما ينشط ويساعد على الاستمرار، عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال: (يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل) وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه. ولا جرم أن نشير هنا إلى أن التحرر من التشدد و الغلو لا يعنى الترك والإهمال، بل يعنى الاقتصاد و التوسط مع المحافظة عل ما اعتاده من العمل، ومع اتباع السنة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). 5- دفن النفس في أحضان الجماعة، وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم: (الجماعة رحمة و الفرقة عذاب)، (يد الله مع الجماعة)، وقول على رضى الله عنه - المذكور آنفاً: (كدر الجماعة خير من صفو الفرد) 6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون{ فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } من استفراغ الطاقة وبذل الجهد الإنساني أولاً { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض }، ومن التدرج في العمل، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة و النار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، ولو نزل أول شئ، لا تشربوا الخمر، ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً) وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز - رضى الله تعالى عنه - خامس الخلفاء الراشدين، فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدى الخلفاء الأربعة، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، وكان له ابن يقال له عبد الملك، فيه فتوة وحماس وحيوية وتقى، فأنكر على أبيه البطء، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف و المظالم، حتى تعود الحياة سيرتها الأولي أيام الراشدين، إذ قال له يوماً: (ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق). فكان جواب الأب الفقيه: (لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة)... الخ 7- الوقوف على معوقات الطريق من أول يوم في العمل: حتى تكون الأهبة، ويكون الاستعداد لمواجهتها و الغلب عليها فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع. 8- الدقة و المنهجية في العمل على معنى مراعاة الأولويات وتقديم الأهم، وعدم الدخول في معارك جانبيه، أو مسائل جزئية هامشية. 9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله: إذ أن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي، والإشعاع الروحي، ما يسبى، ويجذب بل ما يحرك الهمم و العزائم، ويقوى الإرادات، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ذلك حين قال: (ألا أخبركم بخير الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من تذكركم رؤيته بالله عز وجل) 10- إعطاء البدن حقه من الراحة و الطعام و الشراب مع الاعتدال في ذلك، فإن هذا مما يجدد نشاط الجسم ويعيد إليه قوته وحيويته. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العاملين إلى ذلك، فقد دخل مرة المسجد فرأي حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فقال: (ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) وقال أيضاً: إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) 11- الترفيه عن النفس بالمباحات، من مداعبة الأهل، أو ملاعبة الأولاد، أو القيام ببعض الرحلات النهرية للتجديف، أو القمرية للرياضة، و التدبر و التفكر، أو الجبلية للصعود و التسلق، أو الصحراوية للتمرس و التعود على مواجهة مشاق الحياة، أو الحقلية أو غير ذلك، فإن هذا مما يطرد السأم و الملل، ويقضى على الفتور والكسل، بحيث يعود المسلم إلى ممارسة نشاطه، وكأنما ولد من جديد، أو صار خلقاً آخر. عن أبى ربعي حنظلة ابن الربيع الأسيدى الكاتب، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد، و الضيعات ونسينا كثيراً، قال أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد، و الضيعات ونسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات. 12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة و التاريخ و التراجم، فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين، أصحاب العزائم القوية والإرادات الصادقة التي تسرى عن النفس، وتسليها وتولد فيها حب الاقتداء و التأسي وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب } وعلى سبيل المثال حين يقرأ المسلم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا فتر في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها قليلاً أخذ يدور في صحن بيته، ويردد على نفسه: وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر أي المحلين تنزل حين يقرأ المسلم ذلك تتحرك مشاعره وأحاسيسه فينشط ويجاهد نفسه ليكون ضمن قافلة العاملين المجاهدين. 13- تذكر الموت وما بعده من سؤال القبر وظلمته ووحشته، و البعث و الحشر... الخ فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها، ويوقفها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير، وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة كل أسبوع - وزيارتها للاعتبار بأحوال أهلها: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن فيها عبرة) = وجاء عن ابن السماك الواعظ: أنه كان قد حفر حفرة في بيته كأنها قبر، وكلما أحس من نفسه فتوراً أو كسلاً، نزل إلى هذه الحفرة واستلقى كأنما قد مات، ثم يتخيل أنه قد سئل، وأن أعماله قد قصرت به، ويأخذ في الاستغاثة و الصراخ وطلب العودة قائلاً: { رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت..} وبعد طول استغاثة وطلب يجيب نفسه، ها أنت يا ابن السماك قد أعطيت فرصة أخرى، ثم يقوم من قبره، وكأنما نشط من عقال. 14- تذكر الجنة و النار، وما فيهما من النعيم و العذاب، فإن ذلك مما يذهب النوم عن الجفون، ويحرك الهمم الساكنة و العزائم الفاترة، جاء عن ابن هرم بن حيان أنه كان يخرج في بعض الليالي، وينادى بأعلى صوته: (عجبت من الجنة كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها، ثم يقول: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً بياتاً وهم نائمون } ). 15- حضور مجالس العلم، إذ العلم حياة القلوب وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص، فنشطته سنة كاملة، بل الدهر كله وصدق الله الذي يقول: { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ }، { وقل رب زدني علماً } 16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله، دون التخلي عن شئ منه، فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار، حتى تنقضي الحياة ونلقى الله. 17- محاسبة النفس و التفتيش فيها دائماً، فإن ذلك مما يبصر بالعيوب في بدايتها، فتسهل معالجتها: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
مختارات