قفز الحواجز (4)
العقبة الرابعة والخامسة: العجز والكسل:
عن حذيفة بن اليمان قال: (كيف أنتم إذا انفرجتم عن دينكم، كما تنفرجt المرأة عن قُبُلها لا تمنع من يأتيها»، قالوا: لا ندري !، قال: «ولكني والله - أدري - أنتم يومئذ بين عاجز وفاجر (.
وواجبٌ عليك أن تسأل نفسك في ضوء هذا الحديث:
كيف تقي نفسك من السقوط في هذين الفخين المهلكين: الفجور وهي السقطة الأفدح، والعجز وهو سُبَّة في جبين كل شريف، وإن لم يكن ذلك عن طريق حمل الدعوة والسير في ركابها فكيف يكون؟! وإن لم يكن الآن وبهذا تعلم لماذا كان عمر بنtفمتى؟! يستعيذ بالله من جلد الفاجر وعجز الخطاب الثقة.
والعجز هو الكلمة التي طلقها الدعاة يوم التحقوا بركب الدعاة، ومع أن الله عصم نبيه ^ من كل شر، إلا أنه كان يكثر الاستعاذة بالله ليُعلِّمنا مم تكون الاستعاذة وكيف؟!
ومن هنا استعاذ النبيr من العجز والكسل والجبن والبخل، والعلاقة بين هذه الأمراض الأربعة واضحة كالشمس في نظر رجل نافذ البصيرة الإيمانية مثل ابن القيِّم الذي قال:
) فإن تخلَّف كمال العبد وصلاحه عنه، إما يكون لعدم قدرته عليه فهو عجز، أو يكون قادرا عليه، لكن لا يريد فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين: فوات كل خير، وحصول كل شر، ومن ذلك الشر: تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن، وعن النفع بماله وهو البخل.) وإلى الشرح بالتفصيل:
غياب القدرة هو العجز، وغياب الإرادة هو الكسل، والعجز كما فضحه ابن القيِّم هو: (مفتاح كل شر.) ومع هذا فإن غياب الإرادة هو الأخطر، لأنه إذا غابت قدرتك فقد تنهض الإرادة بالمهمة كلها وتقهر العجز وتحطِّمه، لكن إذا غابت الإرادة لم يعوِّضها شيء، وانظر معي حين فقد الصحابة القدرة وامتلكو الإرادة ماذا فعلوا؟!
فقد الصحابي الجليل عُلْبة بن زيد القدرة على الإنفاق لكنه امتلك إرادة الإنفاق، فقهرت إرادته عجزه، حتى خرج من الليل، فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال:
(اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغَّبْتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملنى عليه، وإني أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.)
ثم اسمع بعدها أخي متلذِّذا حديث أبي سعيدt فما حديث أبي سعيد؟!
الخدري قال: «بينما نحن في سفر مع رسول الله ﷺ إذ جاءه رجلtعن أبي سعيد على راحلة، فجعل يضرب يمينا وشمالا، فقال رسول الله r: من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل.)
هذا الحديث يقول: كل الناس يقدر.. كلهم.. لا عذر لأحد.. وهو استنفار لكل ذرة جهد.. واستصراخ أي بقايا همة.. وهو كذلك حجة على كل قاعد لم يلحق بركب العاملين.. وطعنة في قلب التثبيط ليخرَّ على إثرها مقبورا صريعا.
أخي صاحب الرسالة.. إن لم تملك لسانا تحارب به فامتشق سيفا مردِّدا:
لئن لم أكن فيكم خطيبا فإني بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب
وإن لم تملك سيفا تحارب به فما عليك سوى أن تُشهِر قلمك سلاحا بديلا:
ولي قلمٌ في أنملي إن هززتُه فما ضرَّني ألا أهُزَّ المُهنَّدا
أخي..
يستحيل أن يكلِّفك الله ما لا تطيق، كيف وقد استخلفك في الأرض، وأعطاك كل مقوِّمات الاستخلاف، وذلك لتقيم دينه وتحمي شرعه في الأرض، ثم تدَّعي بعدها أنك لا تقدر!! تبا لمن هذا حاله!!
كيف أعذرك!!
وقد أصيب الدكتور مصطفى السباعي بمرض أقعده آخر سنين حياته، فما نال ذلك في عزمه وما انتقص من همته، وامتلك من الإرادة ما قهر به عجزه، ومن النية الصالحة ما رفعه إلى أعلى درجات العاملين، واستمر مرضه ثماني سنوات فما منعه ذلك من النهوض بواجباته كصاحب رسالة، فكانت فترة مرضه أخصب فترات حياته إنتاجا فكريا وعلميا وأدبيا، لأن بصيرته الثاقبة تجاوزت به رقدة المرض إلى الرقدة الأخيرة في حفرة القبر، يرجو بذلك النعيم والسرور الدائمين إلى يوم البعث، واسمع إليه يهتف على فراش المرض يلقِّنك قوة الإرادة والعزم كما ينبغي أن تكون:
فإن تكن الأيام أودت بصحتي وعاقت خطى عزمي بكل مُسدَّد
فما كنتُ خوَّارا ولا كنتُ يائسا ولست بثاوٍ في فراشي ومقعدي
سأمشي إلى الغايات مشي مكافح ألوذ بعزِّ الله من كل معتمد
وأحمي لواء الحق من أن يدوسه طغاةٌ غدوْا حربًا على كل مرشد
قانون المدد الإلهي
أخي في الرسالة..
من حكم ابن عطاء:
(ورود الإمداد بحسب الاستعداد.)
وفهم ابن الجوزي هذا القاعدة واستعملها أحسن استعمال، فإذا به يطلب من الله أن يجري على يديه ما لم يجرِه على يد غيره، ومالا لا يخطر على قلب بشر، فقال:
(خُلِقت لي همة عالية تطلب الغايات، فقلَّت السن وما بلغتُ ما أمَّلتُ، فأخذتُ أسأل تطويل العمر وتقوية البدن و بلوغ الأمال، فأنكَرَتْ عليَّ العادات وقالت: ما جرَتْ عادةٌ بما تطلب، فقلتُ: إنما أطلب من قادرٍ يخرق العادات (
وهي قاعدة سارية في كل من أيقن بقدرته ووثق في استطاعته، مسلما كان أم كافرا، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وفي حالة غير المسلمين يكون أجرهم ببلوغ غاياتهم وتوالي نجاحاتهم، واسمع كلمات غير المسلمين لتفهم ما أقول.
يقول هنري فورد:
) إذا كنت تعتقد بأنك تقدر أن تعمل شيئا، أو تعتقد أنك لا تستطيع أن تعمله، فأنت في كلتا الحالتين على صواب(.
أنت إذن -أخي- من تستطيع تحديد مستوى إنجازاتك وسقف طموحاتك ونجاحاتك.. أنت ليس غير!! أنت من بيدك فشلك أو نجاحك، لأن رداء الفشل من نسج الكسل، ولذا أسألك:
ما الفارق بينك وبين كل العظماء من قبلك؟ ما الذي ينقصك لتدرك ما أدركوا؟!
أستطيع أن أقول لك أنك تملك نفس إمكاناتهم، لكنك ضائع في ظل غياب الإرادة القوية والتصميم العنيد، فمالك لا تسابق الذين لم يولدوا عظماء، لكنهم بلغوا ما بلغوه بالعزم، والعزم هو) صدق الإرادة واستجماعها. )
وفي كلمات أكثر تزيد معنى العزم وضوحا وتعلن عنه في صراحة:
)هو العقد الجازم على المسير،ِ ومفارقة كل قاطع ومعوِّق، ومرافقة كل معين وموصِّل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده (.
يا وريث نبي كان لا يعزم على أمر إلا أمضاه.. كيف لا تقبس من عزمه؟! قد عزمت على قشع الظلام وذبح المنكر، ودون عزمك موت!!
من لوازم العزم
1- المدوامة:
أما تغار؟!
عزم شيخ الحرم المكي الإمام العلامة الحافظ أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني على مجاورة البيت الحرام، فأعدَّ لذلك ما يربو على نيِّف وعشرين عزيمة أن يلزمها نفسه من المجاهدات والعبادات، فبقي بمكة أربعين سنة لم يُخِلَّ بعزيمته منها()، وأحدنا اليوم نجاهد من أجل المداومة على صلاة فجر أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر ويتعثَّر!! فأيكم ينافس هؤلاء؟!
2- المثابرة:
ولنتعلم من النملة وهي تحمل البذرة متسلقة الجدار، ثم تقع عشرات المرات ومع هذا لا تيأس، ولنذكر محاولات توماس أديسون مئات المرات إضاءة المصباح الكهربائي وفشله، ثم استمراره في المحاولة حتى أضاء في النهاية! وانظروا كيف فسَّر هو نجاحه بأنه: «2% وحي وإلهام، و 98% عرق وجد وجهد»()، لذا نستطيع الجزم بأن العامل المشترك الذي يجمع كل النابغين هو المثابرة رغم الصعاب.
قاعدة نورانية!!
وقد فقه سلفنا قيمة الإرادة القوية، فتواصوا بها، وبهذا كتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز:
(اعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر نيته، فمن خلصت نيته تمَّ عون الله له، ومن نقصت نيته نقص عنه من عون الله بقدر ذلك.)
وهو ما تعلَّموه من نبيهم ﷺ الذي غرس فيهم إرادة المعروف وإن فاتهم، والعزم على فعل الخيروإن لم يدركوه، ويشهد لهذا الأحاديث التحفيزية والبشارات النبوية في مختلف نواحي الحياة، وقد أتيت لكم منها هنا بخمسة أحاديث:
1- الدَّيْن وسداده. قال r: (من كان عليه دَيْن ينوي أداءه؛ كان معه من الله عون، وسبَّب الله له رزقا (
2- قيام الليل: قال r:) من أتى فراشه و هو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عينه حتى يُصبح كُتِب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه (.
3- الشهادة. قال) ﷺ من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء و إن مات على فراشه (.
4- المرض والسفر. قالr «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما (.
5- الصدقة: قال r: (رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول الله ^: فهما في الأجر سواء (.
قاعدة الشريعة!!
ومن هنا خرج ابن القيم بقاعدة سمَّاها: «قاعدة الشريعة» نصَّ فيها على أن:
) العزم التام إذا اقترن به ما يُمكِّن من الفعل أو مُقدِّمات الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام .)
نعم أخي.. أنت تقدر على صنع أشياء كثيرة لكنك لا تعلم قدر قدرتك.. أنت طاقة هائلة لكنها مهملة، أنت ثروة زاخرة لكنها دفينة، فلا تستصغر نفسك، وفي الأثر: لو كانت همة أحدكم بالثريا لنالها.
لكن.. لماذا الأثر؟! وعندنا الواقع الحي: صحابي جليل ترجم الهمة العالية واقعا عمليا ونموذجا محسوسا، وينقلك به من خيال الكلمات إلى واقع الإنجازات حتى قلَّده النبي ﷺ وسام:
) لو كان الإيمان عند الثُّريا لناله رجال من هؤلاء.. يعني سلمان الفارسي. (
وقد علَّمنا نبينا ﷺ أن نية المرء أبلغ من عمله، وأن درهما سبق مائة ألف درهم، وأن أكثر شهداء هذه الأمة من أصحاب الفُرُش، وهذا دليل جازم على مكانة الإرادة وفضلها..
صدِّقوني إخوتاه.. المشكلة في الإرادة وضعفها لا في القدرة وغيابها، وهو ما نطق به شاعر الإسلام محمد إقبال وهو الذي أقام وحده دولة كاملة من الصفر!! ومع أنه فرد واحد لكنه سخَّر الإرادة الفذَّة على القدرة المحدودة فصارت لا محدودة، واسمع له وقد تخيَّل صوتا سماويا مبشِّرا يخترق شغاف القلوب اليائسة ويحطِّم الران من حولها هاتفا:
عطايانا سحائب مرسلات
ولكن ما وجدنا السائلينا
وكلُّ طريقنا نور ونور
ولكن ما رأينا السالكينا
ولم نجد الجواهر قابلات
ضياء الوحي والنور المبينا
ولو صدقوا وما في الأرض نهرٌ
لأجرينا السماء لهم عيونا
وأخضعنا لملكهم الثُريَّا
وشيَّدنا النجوم لهم حصونا
مختارات