الجهل الجريء
تكتب عن الفلسفة وعلم الاجتماع، عن الأدب، وبعض الموضوعات الاقتصادية، عن الخير والحق والجمال، فتأتيك تعليقات محدودة غالبا. ثم تحرر أو تنقل مسألة فقهية، أو حكما شرعيا، فتكتظ التعليقات، أحدهم يقول لك: المسألة فيها خلاف (وهذه العبارة من أكثر الكلمات ابتذالاً، ويشعر مدعي العلم بسعادة غامضة حين يحشرها في أي سياق فقهي!)، ويتبرع آخر بنقل ينسخه من أدنى موقع، ليظهر عمق اطلاعه، ويخرج ثالث باعتراض سقيم، ورابع ينقل قول شيخ معاصر باعتباره الحق التام الملزم والمطابق لحكم الله في نفس الأمر، وخامس وسادس…الخ.
ولا أدري ما سبب هذه الحالة التفاعلية الغريبة، لاسيما وأن كثيرا ممن يكتب ويعلّق هم في حكم العوام، بل الأميين في الفقه والشريعة، أو في أفضل الأحوال أنصاف متعلمين، ومبتدئين، وقلّما تجد فقيهاً بينهم. ولا تغرك الشهادات، فكثير منها ورق بلا معنى، وحبر بلا جوهر.
وهذا يذكرني بكلام سمعته من أحد المشايخ يقول: ألقيت محاضرة في أحد البلاد الغربية فلما انتهيت منها، وفتح المجال للحضور، تعجبت من كثرة الأيدي المرفوعة، وابتهجت لهذا التفاعل، ثم تفاجأت بأن أكثرهم يعترض على بعض ما قيل، ويناقش في بعض المسائل، وعامتهم جهلة لا يفقهون، ولكنهم اعتادوا أجواء النقاش في التعليم. واعتياد المناقشة والتحليل والفحص خصلة حسنة بلا ريب، ولكن حين تكون في هذا المقام إنما تدل على الجهل وقلة الفقه، لأن المناقشة والاعتراض لا تكون إلا بعد العلم بالشيء، وفهمه.
وعلاج مثل هؤلاء يذكرني أيضا بحادثة أستلذ بها كلما تذكرتها، حدثنا بها بعض الأساتذة في كلية الشريعة، يقول ذهب أستاذ فاضل مختص بعلم أصول الفقه لإلقاء محاضرة في مركز إسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، فلما بدأ المحاضرة تناول مبحث القياس في الأصول، ثم فصّل بعض مسائل العلّة، وهو من أعقد المباحث، فذكر شروط العلة، والعلة المركبة، وتخصيص العلة، ومسالكها، والوصف المناسب والغريب والاطراد والانعكاس، والدوران الوجودي، وتنقيح المناط وتخريجه وتحقيقه، والتعليل بالوصف المركب والعدمي، وقوادح العلة…الخ. ولما انتهى سأله من كان يرافقه عن سبب اختياره هذا الموضوع، مع عدم مناسبته لأفهام الحضور، فرد عليه الشيخ الأصولي:”أردت أن أعلمهم أن في الفقه والشرع ما لا تدركه أفهامهم ولابد من طلب هذا الشأن على وجهه”.
فالعلم الشرعي يستسهله بعض أهل الزمان لما امتلأت به قلوبهم من إجلال العلوم المعاصرة وتعظيمها واعتقادهم شدة تعقيدها، ولا يدرون أن علم الشريعة لا يدرك بمجرد الفهلوة والتحذلق والنقر عبر قوقل والشاملة، وببعض القراءات العجلى في أوقات الفراغ، بل لابد من طلبه على قانون الأوائل، وإفناء الأوقات فيه،وكدّ الأذهان في تتبع مسائله، ولمّ أطرافه، مع نية صالحة، وشيخ حاذق.
مختارات