دلالة الشريعة على الطبيعة
المسلم الذي يوقن بصدق الرسالة، تمام اليقين، وبثبوت القرآن، يجعل من نصوص الشارع، الثابتة سندا ومتنا = سبيلاً لإقرار الحقائق في النفس والمجتمع والطبيعة، والعادة أن الناس إنما يبحثون عن مستندات من الشرع على ما استقر ثبوته أو ما يتوهم ثبوته في العلم، أو يتمحّلون في تقوية ما ثبت في الشرع بالاستدلالله بأدلة العلوم المعاصرة، وأكثر ذلك من الجهل، ووهاء اليقين في القلب.
فنفس التشريعات إنما نزلت من خالق النفوس، ومبدع الطبيعة، فهي مناسبة تمام المناسبة لحال الخلائق من جهة، وهي كاشفة عن طبيعة النفوس من جهة أخرى، فانظر مثلاً لما يقال عادة عن غلط التخويف من أجل الامتثال سواء في التربية، أو في الوعظ، والدعوة لطاعة الله، وتجد أن كثيراً من النفوس اليوم تنفر من ذكر الإنذار بالنار، وعذابها، بل تجد بعض الدعاة يتحاشى ذكر النار خضوعاً أو تحبباً إلى الناس، وليس مرادي نفس النفور عن أحاديث النار، ولكن تبرير ذلك ثقافياً أو علمياً أو تربوياً مثل ما يفعل كثير من الجهلة. وأنت ترى كيف امتلأ القرآن بالتخويف من النار، بل وذكر السلاسل واحتراق الجلود ونحوها من المشاهد الفظيعة -أعاذنا الله-، فلو لم يكن ذكر ذلك خطاباً صالحا للزجر، مطابقاً لطبيعة النفوس، ملائما لها، لما استعمله القرآن، وهذه حجة قاطعة كالشمس. وقل مثل ذلك من ذكر الحور العين وجمالهن بل والإشارة لوقاعهن كما في آية يس، وسوى ذلك مما تستنكره النفوس الرديئة اليوم.
وأكثر هذه الميول التي تنفر من ما ذكرت إنما هي ميول مستعارة، ولو قرأت الكتب الأوروبية المؤسسة للمذاهب”الإنسانية” المادية التي كتبت إبان اشتداد الصراع مع الكنيسة لرأيت كل ذلك بالحرف.
وأزيدك في بيان أن طريقة القرآن هي الطريقة الأصلح، والأنسب للنفوس، انظر لكافة الحكومات فإنك تجدها لا تنفك من التخويف والإنذار (بالعقوبات مثلاً)، كما لا تترك التبشير والإطماع (بالرفاه والأمن…الخ) من أجل ضمان امتثال الجمهور لقواعد نظامها، وقوانينها.
وقد أوردت “التخويف” نموذجا لاستنباط طبيعة النفوس وأحوال الناس وما يصلحهم من داخل بنية التشريع الإلهي، ويمكنك أن تتأمل ذلك بهذا النحو في كافة المسائل التي تعترض عليها الذائقة المعاصرة كالتعدد، وعقوبة الإعدام والرجم والحرابة وحتى الاسترقاق والسبي.
وقد أفادني أحد الأذكياء بآية تقوي هذا المعنى في قوله تعالى”والذين اهتدوا زادهم هدى”، فالاهتداء الأول هو بنفس فعل اليقين بصحة الخطاب الإلهي، وصوابيته المطلقة، ثم يمتن الله على المهتدي بأن يزيده هدى، بإدراك أسرار الخطاب، وعظمة ملائمته لإصلاح النفوس، وإقامة دين الناس ودنياهم.
نولد لوحدنا، ونعيش مع الناس طيلة أيامنا وكأننا ننتقم من وحدة الرحم، فما نلبث إلا أن نموت لوحدنا مجدداً، لنتأكد حينها بأن وحدتنا الوجودية الطويلة الشاسعة من عالم الذر إلى عالم البرزخ أبقى من حياة صاخبة قصيرة.
مختارات