تواصل مفرط
في عالم لا مكان فيه لعزلة هادئة، ولا وحدة تامة. وفي مجتمع إنساني وتقني موغل في التواصل والاجتماع. الجميع تقريباً يهربون من المكان الخالي، ويشعرون بوحشة قاسية لو ابتعدوا عن أهليهم أو أحبائهم ساعات محدودة. كلنا جربنا الوحدة غالباً، لكن نعتبرها حالة استثناء لا يجب أن تطول. ينسى الإنسان أحياناً فيخضم ذلك، أنه وحيد. وحيد جوهرياً، هو الذي يقرر ما يفعله بنفسه، لأنه هو وحده المسؤول عنه في الدنيا والآخرة. سيموت يوم يموت لوحده، وفي القبر سيمكث وحده، وفي القيامة سيحاسب وحده. وحده مهما هرب عن نفسه التي بين جنبيه. مهما ركض خلف الآخرين ليسكن إليهم، وليذهبوا شعوره العميق بالوحشة.المكان الضخم الفارغ مخيف، مخيف لأنه يشعرنا بالضعف والضآلة. لا نحب العزلة لأن النفس حينها تطرح أمام أعيننا الأسئلة الجوهرية، عن الوجود والمصير. نحب أن نموت مع الجماعة لأنها “رحمة”، فالانصهار في المجموع يخفف من الإحساس بوحشة المسؤولية. صمت الوحدة يخيف أرواحنا التي لا تكف عنالثرثرة للخلق، وتنسى الهمس إلى السماء. الصمت يختلط بالعزلة فيستحيل ثقباً أسوداً لنفوسنا الأرضية. علينا أن لا ننسى أننا نعيش وحدة جوهرية، عميقة، ومهما اتصلنا بالطين، فالطين لا يدوم، أما النور فأبدي، لا نهائي.
نولد لوحدنا، ونعيش مع الناس طيلة أيامنا وكأننا ننتقم من وحدة الرحم، فما نلبث إلا أن نموت لوحدنا مجدداً، لنتأكد حينها بأن وحدتنا الوجودية الطويلة الشاسعة من عالم الذر إلى عالم البرزخ أبقى من حياة صاخبة قصيرة.
مختارات