المشهد العاشر
{ ثُمَّ جِئْتَ على قَدرٍ يا مُوسَى }.
القَدر.
التَّوقيت.
الحِّكمة.
هي أبجَديّات العِراك العَقلي طُوال تاريخ البشريّة !
لِماذا.
ومَتى.
وكَيف.
أسئِلة تَعثَّر بها الإنسانُ في محاولاتِه للفَهم.
في مُحاولاته لإدراكِ سرّ ما يَجري !
مَن يكتُب تواريخَنا.
من يخُطّ ذَهابنا وإيابنا.
و ما مَوقع الّلوح المَحفوظ في أفعالِنا.
!
هُنا.
يهَبك القرآن آية تفيضُ بالإجابات { ثمّ جئت على قَدر }.
كأنَّ القَدر هو سفينةَ موسى التي يتَهادى عليها.
!
كأنّ القدَر ؛ طريق خَبيء.
راسياً في عُمقه تحتَ قَدميك.
صامتاً لا تُبصره ولكنّه يُبصِرك.
!
و كل ّقدوم منك هوَ صعود إليه !
يعومُ موُسى في اضطراب المياه.
و منذ لحظة الميلاد ؛ تأتيهِ موجة مُسَخّرة.
ثُمَّ محبّة خفيّة.
ثمَّ انكسارة جبريّة لفِرعون.
ثمّ مَدين ؛ في انسيابيّة قدريّة، تُمَهد لموسى مَشهد العبور و مشهد الخُروج، و مشاهِد التَّكليم الجَليلة !
ما القَدر وما التَّوقيت؟!
انْظُر إلينا ؛ ونحنُ نبحثُ في الأفقِ عن صدى دعائِنا.
عن السّفينة التي نبنيها كل سّحر.
فلا نلمحُ كلّ غروب ؛ الا اليابسة تمتدّ.
وتَنفي لنا البَحر !
تّتسع الصَّحراء.
فيتّسع اليأسُ معها، و يظنُّ العبد { بالله الظُّنونا } !
تظلّ المَطارق وحيدةً كلّ مَساء.
تودّ لو أن الّليل يُصبح قَطرة من ماءٍ ؛ كيْ تبدو السّفينة مَعقولة !
لو انّ مَوجة تأتِي ؛ فتَرفع انحناءتَك المَريرة.
ولا تُبق السّفينة في الجَفاف !
لا نسمعُ صوت التّنور، و لا صوت أبواب السّماء مفتوحة { بماءٍ مُنهَمر }.
لا نَلمح الا حِيرتنا !
نرتَجف.
ربّما خشية سُقوط أردِيتنا !
أو اهتزاز بقيّة إيماننا.
نتأَرجح.
بين اليَقين وبين الإنتظار !
نكادُ نشتعل بنارِ الشّك المدفونة في عُمقنا !
ونودّ لو نبني برجاً ؛ فنطّلع فيه على الغَيب !
ما أبسَط الإنسان !
ينامُ على ضِفاف النَّحيب.
ولو أصْغَى ؛ لَسَمِع هدير الطُّوفان !
وَ قدْ قيلَ (والغَيث يَحْصرُه الرّدى فَما يرى) وإنّه لَفي السُّحُبِ.
ولكنّ ثِقَلها بِحملِها ؛ جعلَ سَيرَها بطيئًا !
فلا تتَعجَّل.
!
و انتَبه.
للحِكمَة إذا صَمتَ الطّوفانُ.
واستقَرَّت سَفينتُك على الجُودي !
انتبه.
أنّ الحكمةَ الإلهيةَ تَتجلى في الأقْدَار.
وللأقدارِ مِيعادٌ !
إذ حاشَا لله ؛ أنْ يَفتحَ عليكَ السّماءَ.
وأنتَ لا تَملكُ إلا خَشبةً تَطفو عليها.
فتُكابدُ المَوتَ ولا تَموت !
{ ثمَّ جِئتَ على قَدَر }.
هيَ الرّسالةُ لنا جميعًا ؛ " أنّ في تَصاريفِ الأَقدارِ استرَاحةَ صَهيلِ الأفكارِ " !
دوْمًا.
قبلَ الانتِهاءِ، وبعدَ الابتِداءِ، و ما بينَهُما ؛ تَتراءى الأحْداثُ لكَ.
مثلَ ضَجيجٍ غامِضٍ.
تَودُّ لو أنَّك تَفهمُ التَّوقيت !
تَرتابُ في دقّاتِ سَاعةِ الكَونِ.
وتَظنُّ أنكَ صِرتَ نَسيًا مَنْسِيًّا !
لكنّ اللهَ لا يَعجلُ لِعَجَلتِنا ؛ لأن الفعلَ الكونِيَ أوسعُ من دَبيبِ خَطَوتِنا المزروعَةِ في القَلَق !
دَومًا.
تَبدو لنا المَواقدُ بلا لَهيب.
ونَبتةُ الصَّبارِ في الصّحراء ؛ تَبدو أشواكُها ساكِنةً.
لكنّ ظَمَأَ الرّمالِ يَختبيءُ فيها.
ويكادُ يُعلنُ ؛ أنّ مواعيدَ الجَفافِ قد انْتَهت !
ثِقْ بِرَبِّك.
أن ثَمَّةَ الكَثيرَ منَ الينَابيع في الصَّمت الواسِعِ تَنتظرُ قَدرَ انفجارِها.
ولَحظةَ { فالتَقى الماءَ على أمْرٍ قَد قُدّر } !
فلا تَتعَجّل.
ورَتِّل على نَفسِك تَرتيلًا { ثمَّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى } !
لكنّ ذلكَ كُلَّه ؛ لا يَكونُ إلا لأصْحابِ المَعيَّةِ الخاصّة.
والمَعيَّةُ الخاصَّة مِنَ الله ؛ هي مُصاحبة مُوالاةٍ ونُصرَة !
والمَعيَّةُ العامَّة ؛ هي مُصاحبة اطّلاعٍ وإحاطَة !
وانظُر.
كمْ هوَ الفَارِق بينَ الصُّحبَتين !
الثانيةُ.
بَلغَت بِموسَى - عليه السلام - مقامَ { كَلا إنَّ مَعَي ربِّي.
سَيَهدِين } ؛ فَفلَقَت له البَحرَ طريقًا يَبسًا.
إذ كانَ { مُخلِصًا } !
هي إذن.
مَنظومةٌ عَاليةٌ من الأحْداثِ ؛ تُشكِّلُ موسى - عليه السلام - كَي يَبلغَ مُقامَ { ولتَصنَع عَلى عَيني } !
تَشتدُّ الأحداثُ ؛ كي تُسلّمَه إلى المقام المَخصوص { واصطَنعتُكَ لِنفسي } !
وذلكَ كُلّه ؛ كي تُصبحَ كلُّ خَطَواتِه مَوسومةً مُعنونَةً بقوله { و جِئتَ عَلى قَدَرٍ يا موسَى } !
ما أيسرَ الثّمن إذن { فَلبثَت سِنينَ في أهْلِ مَديَن }.
حينَ يكونُ المآلُ ؛ { وكَلَّمَ اللهُ موسَى تَكليمًا } !
و لقد قيلَ: دلائلُ الإعدادِ يُشَمُّ مِنها روائِحُ الاصطِفاء !
فانأَى بنفسكَ عن الاختيارِ والتَدبيرِ ؛ وقُل frown رمز تعبيري دَبِّر لِي فإنّي لا أُحسنُ التَدْبير) !
وقد قالَها ابنُ القيّم frown رمز تعبيري أشرَفُ الأحْوال ؛ِ أنْ لا تَختارَ لنفسكَ حالةً سِوى ما يختارَهُ لكَ اللهُ، ويُقيمك فيه.
فَكُن معَ مُرادِه منك ؛ ولا تكنْ معَ مُرادِك منه) !
ثم نَبَّه ابنُ القيّم قائلًا frown رمز تعبيري و مَن تَأمّلَ أقدارَ الرَّبِ تعالى وجريانَها في الخَلق ؛ عَلِمَ أنها واقعةٌ في أليقِ الأوقاتِ بها).
وظلّ تسبيحُه من بعد في فلك (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ).
وذاقَ معنى (وَهوَ اللّطيفُ بِعبْدِه ولِعَبده) !
يا أيها العَبدُ.
(إنّ سَوابقَ الهِمَمِ ؛ لا تَخرقُ أسوارَ الأقدَار).
!
إذ أسوارُ الأقدارِ ؛ منوطٌ بها حِمايةُ دعواتِك و أُمنياتِك !
تأَمَّل سُؤلكَ.
فقد كان ذاتَ يومٍ ؛ بذرةً لم تنضجْ في حُضنِ الشّمسِ.
سَيَّجَها اللهُ لك بالمَنعِ من البُروز !
و أحاطَها بسورٍ { باطِنهُ فيه الرّحمة } ؛ فكان مَنعُه لك عطاءً.
ولولا أسْوار الأقدارِ ؛ لكانَ حتفُك في ما تَمنيتَ و سَعَيت !
فردِّد (ولا مُعطِيَ لما مَنَعْت).
إذ كلّ شيءٍ { عنده بِمقدار } !
و تَأهْب لِفَهم معنى { على قَدَر }.
و تَأدَّب إذ (بِاحْتِمالِ الْمُؤَنِ، يَجِبُ السُّؤْدَدُ).
!
واصْبِر على أسرارِ حِكمَة اللهِ في القَدَر !
وسَبِّح في عُبوديةٍ واستسلامٍ ؛ معَ حَركةِ المَوجِ التي تَغمرُ الوجودَ !
معَ طاقةِ الخيْر.
معَ تَسبيحِ الكونِ.
مع كلّ ذرةٍ تُنشدُ تَراتيلَ الصّلاةِ.
دونَ أنْ تُوقِفَ حُلمَك بمائدةٍ على النّجوم !
{ ثمّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى }.
هُنا.
يَبسطُ القَدرُ كفَّه، ويحتضنُ لك النّهارَ ؛ لأنكَ في عُمقِك كنتَ شُعاعَ نورٍ.
تَليقُ بكَ مَعيَّةُ اللهِ !
مختارات