المشهد العاشر
{ ثُمَّ جِئْتَ على قَدرٍ يا مُوسَى }..
القَدر.. التَّوقيت.. الحِّكمة.. هي أبجَديّات العِراك العَقلي طُوال تاريخ البشريّة !
لِماذا.. ومَتى.. وكَيف.. أسئِلة تَعثَّر بها الإنسانُ في محاولاتِه للفَهم.. في مُحاولاته لإدراكِ سرّ ما يَجري !
مَن يكتُب تواريخَنا.. من يخُطّ ذَهابنا وإيابنا.. و ما مَوقع الّلوح المَحفوظ في أفعالِنا..!
هُنا.. يهَبك القرآن آية تفيضُ بالإجابات { ثمّ جئت على قَدر }.. كأنَّ القَدر هو سفينةَ موسى التي يتَهادى عليها..!
كأنّ القدَر ؛ طريق خَبيء.. راسياً في عُمقه تحتَ قَدميك.. صامتاً لا تُبصره ولكنّه يُبصِرك..!
و كل ّقدوم منك هوَ صعود إليه !
يعومُ موُسى في اضطراب المياه.. و منذ لحظة الميلاد ؛ تأتيهِ موجة مُسَخّرة.. ثُمَّ محبّة خفيّة.. ثمَّ انكسارة جبريّة لفِرعون.. ثمّ مَدين ؛ في انسيابيّة قدريّة، تُمَهد لموسى مَشهد العبور و مشهد الخُروج، و مشاهِد التَّكليم الجَليلة !
ما القَدر وما التَّوقيت؟!
انْظُر إلينا ؛ ونحنُ نبحثُ في الأفقِ عن صدى دعائِنا.. عن السّفينة التي نبنيها كل سّحر..
فلا نلمحُ كلّ غروب ؛ الا اليابسة تمتدّ.. وتَنفي لنا البَحر !
تّتسع الصَّحراء.. فيتّسع اليأسُ معها، و يظنُّ العبد { بالله الظُّنونا } !
تظلّ المَطارق وحيدةً كلّ مَساء.. تودّ لو أن الّليل يُصبح قَطرة من ماءٍ ؛ كيْ تبدو السّفينة مَعقولة !
لو انّ مَوجة تأتِي ؛ فتَرفع انحناءتَك المَريرة.. ولا تُبق السّفينة في الجَفاف !
لا نسمعُ صوت التّنور، و لا صوت أبواب السّماء مفتوحة { بماءٍ مُنهَمر }..
لا نَلمح الا حِيرتنا !
نرتَجف.. ربّما خشية سُقوط أردِيتنا !
أو اهتزاز بقيّة إيماننا..
نتأَرجح.. بين اليَقين وبين الإنتظار !
نكادُ نشتعل بنارِ الشّك المدفونة في عُمقنا !
ونودّ لو نبني برجاً ؛ فنطّلع فيه على الغَيب !
ما أبسَط الإنسان !
ينامُ على ضِفاف النَّحيب.. ولو أصْغَى ؛ لَسَمِع هدير الطُّوفان !
وَ قدْ قيلَ (والغَيث يَحْصرُه الرّدى فَما يرى) وإنّه لَفي السُّحُبِ.. ولكنّ ثِقَلها بِحملِها ؛ جعلَ سَيرَها بطيئًا !
فلا تتَعجَّل..!
و انتَبه.. للحِكمَة إذا صَمتَ الطّوفانُ.. واستقَرَّت سَفينتُك على الجُودي !
انتبه.. أنّ الحكمةَ الإلهيةَ تَتجلى في الأقْدَار.. وللأقدارِ مِيعادٌ !
إذ حاشَا لله ؛ أنْ يَفتحَ عليكَ السّماءَ.. وأنتَ لا تَملكُ إلا خَشبةً تَطفو عليها.. فتُكابدُ المَوتَ ولا تَموت !
{ ثمَّ جِئتَ على قَدَر }.. هيَ الرّسالةُ لنا جميعًا ؛ " أنّ في تَصاريفِ الأَقدارِ استرَاحةَ صَهيلِ الأفكارِ " !
دوْمًا.. قبلَ الانتِهاءِ، وبعدَ الابتِداءِ، و ما بينَهُما ؛ تَتراءى الأحْداثُ لكَ.. مثلَ ضَجيجٍ غامِضٍ.. تَودُّ لو أنَّك تَفهمُ التَّوقيت !
تَرتابُ في دقّاتِ سَاعةِ الكَونِ.. وتَظنُّ أنكَ صِرتَ نَسيًا مَنْسِيًّا !
لكنّ اللهَ لا يَعجلُ لِعَجَلتِنا ؛ لأن الفعلَ الكونِيَ أوسعُ من دَبيبِ خَطَوتِنا المزروعَةِ في القَلَق !
دَومًا.. تَبدو لنا المَواقدُ بلا لَهيب.. ونَبتةُ الصَّبارِ في الصّحراء ؛ تَبدو أشواكُها ساكِنةً..
لكنّ ظَمَأَ الرّمالِ يَختبيءُ فيها.. ويكادُ يُعلنُ ؛ أنّ مواعيدَ الجَفافِ قد انْتَهت !
ثِقْ بِرَبِّك.. أن ثَمَّةَ الكَثيرَ منَ الينَابيع في الصَّمت الواسِعِ تَنتظرُ قَدرَ انفجارِها.. ولَحظةَ { فالتَقى الماءَ على أمْرٍ قَد قُدّر } !
فلا تَتعَجّل.. ورَتِّل على نَفسِك تَرتيلًا { ثمَّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى } !
لكنّ ذلكَ كُلَّه ؛ لا يَكونُ إلا لأصْحابِ المَعيَّةِ الخاصّة..
والمَعيَّةُ الخاصَّة مِنَ الله ؛ هي مُصاحبة مُوالاةٍ ونُصرَة !
والمَعيَّةُ العامَّة ؛ هي مُصاحبة اطّلاعٍ وإحاطَة !
وانظُر.. كمْ هوَ الفَارِق بينَ الصُّحبَتين !
الثانيةُ.. بَلغَت بِموسَى - عليه السلام - مقامَ { كَلا إنَّ مَعَي ربِّي.. سَيَهدِين } ؛ فَفلَقَت له البَحرَ طريقًا يَبسًا..
إذ كانَ { مُخلِصًا } !
هي إذن.. مَنظومةٌ عَاليةٌ من الأحْداثِ ؛ تُشكِّلُ موسى - عليه السلام - كَي يَبلغَ مُقامَ { ولتَصنَع عَلى عَيني } !
تَشتدُّ الأحداثُ ؛ كي تُسلّمَه إلى المقام المَخصوص { واصطَنعتُكَ لِنفسي } !
وذلكَ كُلّه ؛ كي تُصبحَ كلُّ خَطَواتِه مَوسومةً مُعنونَةً بقوله { و جِئتَ عَلى قَدَرٍ يا موسَى } !
ما أيسرَ الثّمن إذن { فَلبثَت سِنينَ في أهْلِ مَديَن }.. حينَ يكونُ المآلُ ؛ { وكَلَّمَ اللهُ موسَى تَكليمًا } !
و لقد قيلَ: دلائلُ الإعدادِ يُشَمُّ مِنها روائِحُ الاصطِفاء !
فانأَى بنفسكَ عن الاختيارِ والتَدبيرِ ؛ وقُل frown رمز تعبيري دَبِّر لِي فإنّي لا أُحسنُ التَدْبير) !
وقد قالَها ابنُ القيّم frown رمز تعبيري أشرَفُ الأحْوال ؛ِ أنْ لا تَختارَ لنفسكَ حالةً سِوى ما يختارَهُ لكَ اللهُ، ويُقيمك فيه.. فَكُن معَ مُرادِه منك ؛ ولا تكنْ معَ مُرادِك منه) !
ثم نَبَّه ابنُ القيّم قائلًا frown رمز تعبيري و مَن تَأمّلَ أقدارَ الرَّبِ تعالى وجريانَها في الخَلق ؛ عَلِمَ أنها واقعةٌ في أليقِ الأوقاتِ بها)..
وظلّ تسبيحُه من بعد في فلك (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ)..
وذاقَ معنى (وَهوَ اللّطيفُ بِعبْدِه ولِعَبده) !
يا أيها العَبدُ.. (إنّ سَوابقَ الهِمَمِ ؛ لا تَخرقُ أسوارَ الأقدَار)..!
إذ أسوارُ الأقدارِ ؛ منوطٌ بها حِمايةُ دعواتِك و أُمنياتِك !
تأَمَّل سُؤلكَ.. فقد كان ذاتَ يومٍ ؛ بذرةً لم تنضجْ في حُضنِ الشّمسِ.. سَيَّجَها اللهُ لك بالمَنعِ من البُروز !
و أحاطَها بسورٍ { باطِنهُ فيه الرّحمة } ؛ فكان مَنعُه لك عطاءً.. ولولا أسْوار الأقدارِ ؛ لكانَ حتفُك في ما تَمنيتَ و سَعَيت !
فردِّد (ولا مُعطِيَ لما مَنَعْت).. إذ كلّ شيءٍ { عنده بِمقدار } !
و تَأهْب لِفَهم معنى { على قَدَر }.. و تَأدَّب إذ (بِاحْتِمالِ الْمُؤَنِ، يَجِبُ السُّؤْدَدُ)..!
واصْبِر على أسرارِ حِكمَة اللهِ في القَدَر !
وسَبِّح في عُبوديةٍ واستسلامٍ ؛ معَ حَركةِ المَوجِ التي تَغمرُ الوجودَ !
معَ طاقةِ الخيْر.. معَ تَسبيحِ الكونِ.. مع كلّ ذرةٍ تُنشدُ تَراتيلَ الصّلاةِ.. دونَ أنْ تُوقِفَ حُلمَك بمائدةٍ على النّجوم !
{ ثمّ جِئتَ على قَدَرٍ يا مُوسَى }.. هُنا.. يَبسطُ القَدرُ كفَّه، ويحتضنُ لك النّهارَ ؛ لأنكَ في عُمقِك كنتَ شُعاعَ نورٍ.. تَليقُ بكَ مَعيَّةُ اللهِ !
مختارات