المشهد الثامن
{ فَجاءتهُ إحدَاهُما تَمشي على استِحياء } ..
في القُرآن .. تتَجلّى الحقائقُ ، وتتَمايز الألوان الإنتِقائيّة !
ففي هذهِ الآية .. يَتجلّى الإنتقاء ؛ لحياةٍ تَرقى بالعلاقاتِ إلى مَنابع الطَّهارة !
إلى حيثُ يَصحو الياسَمين مُغلّفاً بِطُهرِه .. لم تُلوّثه أيدِي العابِرين !
هنا.. يرسم القُرآن لَوحةً عالية في أنفاسِها ..
عاليةً في نبْضِها ..
عالية في رقي تفاصِيلها ..
عالية .. بعُلوِّ الفضاء القِيَميِّ ؛ الذي نَزل النّص القرآنيّ كيْ يحمِلنا إليه !
هُنا .. يعلّمنا القُرآن كيف نعيش قَلب المعاني .. ولا نَقبل الكَفاف أو فُتات الأَفكار !
{ فجاءَتهُ إحداهُما تَمشي على استِحياء } .. تُعبيرٌ قرآنيّ يتوَهّج كلُّ حرفٍ فيه .. يتوهَّج كأَنّما هو نَجمة صاعِدة في العَتمة ؛ تُجبرنا على تتَبُّعها والنّظر إليها .. حتى لا يلتَهِمنا الّليل !
يتنزّل القُرآن بمعانِيه ؛ كأنَّما هو أعلى النّخلة التي تحمِلنا على الصّعود إليها .. حتى نلتَقِط أطيَب الثَّمَر ..!
{ فَجاءتهُ إحداهُما تَمشي على استِحياء } ..
يخلّد القُرآن هذهِ الّلحظة مِن التّاريخ .. يقتنِص المَشهد ثمَّ يوقَِفنا عليه !
تلتّمع الّلقطة ، ويُبقيها القرآن محفورةًَ في عين الكَون .. لأنَّ الله يريدُ أن تبلُغنا الرِّسالة ؛ " بأن مِشْية خلَّدَها الحَّياء ْ" !
كانت مِشْيةً بِخُطىً خفيفة .. لكنّها كانت تملُك قوّة بقائِها كَذِكْرى أبديّة !
مِشْية .. تتكثّف فيها مَجموعةُ رسائِل مِنها :
شتّان بين خَطوةٍ وخَطوة .. شتّان بين خَطوة ؛ تسْقي الزَّمن عِطر الحَّياء الجَميل .. وبين خَطوة صاخِبة ؛ ليس لها إلى مَسْمع السَّماء سَبيل !
شتَان .. بين خَطوةٍ مثل الثّلج في بياضِ نبضِها .. وبينَ خَطوة ارتَدَت الحِداد من كثرة انكساراتِها !
{ تَمشي على استِحياء }.. لم تكنْ تتلعّثم في خطواتِها .. لكنّها مِشية تحاول ان تَتْزِن ؛ مثل وردةٍ تَخشى من لَمسةِ الرِّيح !
{ تَمشي } .. وهي تَودُّ لو تظلّ في الظلِّ .. في صَمت النّور .. في هَدأة المَوج .. في ساعةِ المَغيب !
بِربِّكَ تأمَّل ..
فَتاة تَمشي على الحَياء باستعلاءِ حرفِ ( على ) ؛ كيفَ تَبدو خَطوتها !!
تأمّل .. كيفَ يموتُ الظنُّ في مِشيَتِها .. ويَنتهي مَيل الدُّروب .. ويظلُّ الدّرب تحتَ خَطوتِها مُستقيماً لا احتمالاتَ فيه !
{ تَمشي على استِحياء }.. لكنّها مُتمكِّنة من مشيتِها في الحَياء ؛ حتّى كأنَّ الحياء هو أصلُ طَريقها !
ثمّة عَلاقة ؛ بينها وبين طريقِها المُفعم بالحَياء ..
ففي كلِّ صَباح ؛ كانت تُطرّز الطّريق بخَطوات لا تَستَسلِم ولا يخدِشها العابِرون !
{ تَمشي على استِحياء } .. يلمَحه القَمر كلّ مَساء ؛ في طريق عودتها فلا يرى إلا فتاة "ً في طُهرِها يستَحِمُّ المَطَر " !
{ تَمشي على استِحياء } .. ببساطِ قلبٍ لم يلوِّثه الغُبار .. حتى تظنّها هبَطت من جنّة نساؤها { حورٌ مَقْصُورات فيْ الخِيام } !
قل لي برَبِّك .. هل الأُنوثةُ إلا اكتمال الحَياء ؟!
هلْ الأنوثة .. إلا لَحظة الارتباك الّلامنطقيّة ؛ الّتي يفيضُ بها وجهُ أُنثى اكتمَلت في مشاعِرها !!
وهلْ الأُنوثة المُكتمِلة .. إلا تلك الرَّجفة التي تُعلنُ عن طبيعِتنا ، وتتوارى معَها العَذراء في خِدْرِها ..!
نعمْ .. إنّ الأنوثة هي الحَياء !
هي رغبة الاحتماءِ في الصّدفة .. كأنّها لؤلؤة مَكنونة اقتحم أحدُهم مَخبَأها !
هي لحظة غضّ البَصر .. لأنّ العينَ تستَحي أن تَمتلىء بصورةِ فتىً ؛ ربَّما سلَب من القلب موطِناً لا يُستَرَد !
والحياءُ .. هو فلسَفة السِّتر المُتكاملة !
هو مَنظومة غضّ الصّوت ، وغضِّ البّصر .. يتبَعه غضُّ السّعي ، وغضّ القلبِ عنْ ما يخدِش معنى العفّة !
{ على استِحياء } . صِفة مُبالغة مِن الحَياء ..
ولقدْ جمعَ لها القرآن بذلك ؛ تَمكُّنها من الصّفة في أعلى مستوياتِها ، وأعظم مقاماتها !
وانظُر كيفَ راعى القُرآن سِترها .. فكنّى عنها بِ { إحدَاهُما } !
صبيّة في أرَقِّ طبيعتِها .. تُواجه فتىً تكتمِل فيه الرُّجولة وقوّة الرُّوح ، وقوّة المبادِىء ؛ وذلك كله من معاني الجَمال العُلويّة ..
ثمّ هي تحتَمل ذلك كلّه .. ولا تزيدُ عن قَوْلٍِها { إن أبي يَدعوكَ } .. دونَ إشارة .. أو إيماءة ؛ تُتضاءلّ فيها أُسطورة سُمُوِّها !
إذْ الحَياء ياسيّدي ؛ لا يَعرِف المشاعر المُعلنة ، ولا الحبّ العاري من سِتره !
الحَياءُ .. لا يَعرِف الّلحظات المَكشوفة ..!
الحَياءُ .. لا يَعرِف الأحاسيسَ الخالية من أغْطِيتها !
أُنظُر إليها .. وهي تَحكي القصّةَ لأبيها ثمّ تقول { يا أبَتِ استأجِرهُ إنَّ خيرَ من استأَجرت القويّ الأَمين } !
في تَردّد .. يأَبَى أن يُفصِح عن المَكنون .. وذلك هو الحَياء ..!
لَحظة التّردّد التي تُفطَر عليها المرأة .. فلا يَزيدُها عذبُ التّردد إلا عتاقة .. كزيتٍ مقدسيّ .. كلّما طالَ اعتكافه في الجِرار ؛ ازداد بهاءً وبَريقاً !
فالحَياء .. لايقبلُّ إلا الخُصوصيّة ، ويأبَى الأبواب المُشرعَة بِلا سُتور !
هلْ تَدري أنَّ سرّ الجمال إخفاء بعضِه !
و أن من سرّ حياة العِطر ؛ اختباؤه الطّويل في أوراقِ الوَرد !
لكنّها القِيَم الجَديدة ياسيّدي ..
تبدو غريبةً على سُّطور المصحف ؛ مثل غُربة وجوهِ اليَهود في طُرقاتِ الأَقْصَى !
قِيمٌ .. تُشرع مراكِبها ؛ كيْ تموج بِنَا .. ثم تَتركنا في عَرَض البَحر بلا بَوْصلة !
قِيمٌ .. يتأوَّه الحقّ من عَصفِها .. فَقد كادَت أن تغيّر كلّ اتجاهنا !
أوّاهُ ..
ماذا فعلَ بِنَا الإعلامُ ، والإختلاط !!
أوّاه ..
كَم أَهدرنا وأهدَرَ أغلى مافينا !!
هذا زمانٌ .. يُراد فيه للبُنيانِ أن ينهار ..
أن نكون فيه بِلا نُقطة ارتِكاز !
وأن نظلّ فيه بين المدِّ والجَزر ؛ حتّى لانصِل للشُطآن !
ثمّة من يريد لثيابِنا أن تَبلى .. أن تسقُط عن أكتافِنا ؛ لنصارِع بعدها هَوْل التَّعرّي !
تأمَّل فقط .. كَم هي المَسافة بين قولِه تعالى { ولايَضْرِبن بأرجَلهِنّ ليُعلَم مايخفِين منْ زينَتهنّ } ..فتَنفلِت الغَريزةُ لهنّ ويبدأ النقصان .. !
وبينَ قِيم السُّوق التي يُعاد فيها إعلان المرأة رَقيقاً من جَديد !
كم هي المَسافة بين { قُل للمؤمِنين يَغضُّوا من أبصارِهم } ؛ وبين هذا الإنفتاح الذي لوّث براءةَ الطُّهر فينا !
الرُّوح المُدثَّرة بأدبِ القُّرآن .. ثمّة من يَسعى سَعياً لتكدير صَفوِها ؛ كيْ تظلّ ترتعِش .. فلا تعرِف الا الشّهوة التي تَستنزِفنا حتّى الضَّياع !
على سّطور المُصحف .. تقِف قيَم السِّتر تجاهد ضِدّ قِيم تَعرِية الرُّوح ، وتعرِية المَرأة !
على سُّطور المُصحف .. ثمّة عُنوان ؛ أن الحياءَ سُلوك الفِطرة في الأُنثى !