المشهد السابع
{ أهدِني سَواء السَّبيل }..
هل أرخَت رُوح موسى - عليه السَّلام - تلك اللَحظة من حياتِه.. فجَعلَتها مُبتدأ سيكون له خبراً طويلاً !
هل أرخَت لحظة وقُوفه على مُفترق الطُّرق ؛ وقد رَشح قلبُه عَرقاً، وكادَ الرّمل تحت قدميه.. أن يَمتلأ بماء الحيرة منه !
هل أرخَت لحظة دَورانه بين المَشارق والمَغارب، و عينه تُرتّل { أهدِني سَّواء السَّبيل } ؛ فلا أنقَطِع يا ربّ..!
لم يكنْ يَملك موسى قُرباناً يتوسّل به إلى الله.. لكنّه كان يملِك قصّته التي يهديها إلى الله !
قصّة نَبتة.. تضوّعت أريج القُصور ؛ ثم رَضِيَت أن تَرحل إلى الهَجير العابِس !
قصّة طفلٍ.. رُمي لأجلِ الله.. وعاش غريباً عن أهلِه لأجلِ الله ؛ و هاهو يُطارَد لأجل الله !
يبدو الرّجل في قومه مَليء مثل شجرة في غابة.. فإذا انعزَل او اغتًَرب ؛ مشى و لا ظِلّ له !
مشى بِدبيبٍ مُنفرد.. حتى تُصبح الخَطوة كأنّها صَدى الوَحشة و الفراق !
لقدْ كانت مِصر كلّها تنبِض بالذّكريات.. تتشابه المَلامح، و تتقارَب الأقدام، ويشمّ موسى فيها روائِح ؛ تختزِل الكثير من الحّكايات !
في الوَطن.. كلّ مَحطة بحكاية.. كلّ شجرة فيها شيء مِنك.. الدُّروب سِجلّات للكثير من هَمسِك وصَخَبك.. و أنت تلمَح ذاتك في كلّ نجمة.. وكل عُشبة..وكلّ وجهٍ يعبُر بينك وبين أحلامِك في الّليل !
لكنّك في الغُربة تَرحل الى دُروبٍ صامتة لا خَواطر فيها.. لا تُلوّح لك النّاس فيها من بعيد.. لا تختلف الوهاد فيها عن السُّهول.. وليس فيها صوت أمّك !
وتظلّ بقيّة حياتِك تكتُب سِجلّ معالِمك ؛ ليأتي غريبٌ فيمحوها بكلمةٍ منه !
في " مَدين ".. يتّكىء موسى على جَذعِ شجرة ؛ بعد أن جفَّت الحياة في يده.. وبلَع مرار المَنفى للمرّة الأولى في حياته..
يتّكىء على شجرةٍ غريبة ؛ لم يُقاسمها يوماً حديثا..ً ولم تحتفظ بنبرةِ صوتِه.. حتى الغَيمة التي تَُظلّل الشّجرة ؛ لم ترهُ من قبل !
لا أحد ينهَض لعناقِه.. ولا أحد يكترِث لو غاب.. الهمهمات تبلُغ أُذنيه باردة بلا مشاعر، فلا صوت يحمل رنّة يستفيقُ لها قلبه !
كلّ الأوتار.. تعزِف لحنا لا يَستدعي في وجدان موسى إلا الوَحشة، و حقيقة الفراق !
اتّكىء موسى.. بعد أن سَقى لفتاتين تستضعفان من قوّة الجَمع وكَثرة الرِّجال.. فنَفسُ موسى لا تُطيق الإستضعاف، وتكرَه مشاهِد استلاب الحُقوق ؛ وهو قد دّفع ضريبة انحيازه للحقّ كامِلة !
دفعها.. عطَشاً في حنايا روحه ؛ سيظلّ يلتهِب كلّما جنَّ الّليل..
دفعَها.. حنَاناً لمائدةٍ مَلأى بخبزِ أمّه ؛ ستتغيّب عنه عَشر سِّنين..
ودفعَها.. من قميصه.. فثيابُ الرُّعاة مَنسوجة من العَرق ؛ وليس من الحَرير !
سَقى لهُما.. وقد رأى فتاتان قد عبَست الحياةُ لهما !
ربّما كما عبَست له ؛ فأَلجأَتْهُما الى مُزاحمة الرِّجال على الحِياض !
سقَى لهُما.. وهو يشتَهي لو تَكتال له السَّماء من بعض النّعيم الذي تركَ.. أو تتفتّح له السّعادة مواعيداً ؛ فلا يبتئِس !
سقَى لهما.. واندهَش القوم بقوّته.. دون أن يعجب أحد لقوّة مبادِئه التي بلغَت به " مَدْين " ؛ إذ موسى لا تاريخَ له فيهم !
هل في لوحَة الحياة مَشهد أقْسى من ضَياع بعضِك..
من بعثَرة ماضيك..
من صُمودك في الشّتاء دون خيمَتك..
من قُدوم نيسان، وآذار، و كلّ الشّهور دون نبض ولا رّوح..!
من يملك.. أن يتناول طعامَه كلّ صباح ؛ من نباتٍ باهِت لا رُوح فيه !
من يحتمِل.. أن يصنع بِطاقة عُمره من مُنتصف النّهار.. من مُنتصف حياتِه ؛ ويظلّ يَحكي للقومِ أنّه كان يملِك ذات يومٍ صباحات غنيّة !
على خُطى إبراهيم يا مُوسى.. فتِلك ضَريبة المُصلحين !
يتّكىء موسى على الشّجرة.. ويبتّل بالدُّعاء..
يسيل الدُّعاء اليه سَلسَبيلاً.. وتنهَض نفسه الى الله ؛ بأُمنية دَفينة يُخبّؤها في حياء نبيٍّ كريم، فلا يزيد عن قوله { ربِّ إنّي لما أنزَلت إليّ من خيرٍ فَقير } !
أدبٌ لا تبلُغه أخلاقُ النُّبلاء قاطبة.. أدبٌ هو بعضُ أثر { وَلتصنع على عَينيْ } !
بلا ضَجَر و لا تَذمّر ؛ بل تَرْك الكلمات تُحلّق عاليةً الى العَرش.. حيثُ العليم الخبير..
حيث الله وحده القَريب الى القَلب المَوجوع.. إلى القلب الذي فقَد كلَّ شيء دُفعة واحدة..!
لذا.. هيّء اللّه لموسى رجُلاً صالحاً.. ومَنحه أسرة، وزوجة، وأهلاً ؛ حتى لا يظلَّ عابرَ سبيل !
كانت تلك خَفقة رَحمة ؛ أو بعضٌ من فَيءْ الظِّل يَمُدّه الله لموسى.. حتى لا يظلّ في الهَجير..!
هنيئاً.. للظلِّ الذي احتواكَ يا موسى !
هنيئاً.. للعُشب الذي ابتَلّ بمعاني دُعائك !
هنيئاً.. للنّسمات التي صَعدت بابتهالِك !
هنيئا ً.. لأدبك الذي حرّك سِلسلة الإجابة.!
{ أهدِني سَّواء السّبيل } ؛ ثمَّ { انّي لِما أنزَلت اليّ من خيرٍ فَقير }.. وما بَينهما، و ما بعدهما ؛ كان لُطف الله يَسري في خَفاء !
{ ثُمّ تولّى إلى الظِّل }.. في سِترٍ ناجَى ربّه، و ألمَح إلماحاً إلى فقره، وتولّى عن الناس إلى من بيَدهِ المفاتيح ؛ فناوَله ربّه الخير قبل أن يتحرّك من الظِلّ !
إنّ الله مع المُصلحين.. في هَمساتِهم.. و في خَطواتِهم.. وفي خَفِيِّ دَعواتِهم... و في أدبهم !
يُكلّل الله هَروَلتِهم إليه في عَطاءٍ غير مؤقّت.. عطاءٌ.. لا يَغيبُ من أعمارِهم ؛ حتى تَغيب الشَّمس من أُفُق الوُجود !
مختارات