المشهد السابع
{ أهدِني سَواء السَّبيل }.
هل أرخَت رُوح موسى - عليه السَّلام - تلك اللَحظة من حياتِه.
فجَعلَتها مُبتدأ سيكون له خبراً طويلاً !
هل أرخَت لحظة وقُوفه على مُفترق الطُّرق ؛ وقد رَشح قلبُه عَرقاً، وكادَ الرّمل تحت قدميه.
أن يَمتلأ بماء الحيرة منه !
هل أرخَت لحظة دَورانه بين المَشارق والمَغارب، و عينه تُرتّل { أهدِني سَّواء السَّبيل } ؛ فلا أنقَطِع يا ربّ.
!
لم يكنْ يَملك موسى قُرباناً يتوسّل به إلى الله.
لكنّه كان يملِك قصّته التي يهديها إلى الله !
قصّة نَبتة.
تضوّعت أريج القُصور ؛ ثم رَضِيَت أن تَرحل إلى الهَجير العابِس !
قصّة طفلٍ.
رُمي لأجلِ الله.
وعاش غريباً عن أهلِه لأجلِ الله ؛ و هاهو يُطارَد لأجل الله !
يبدو الرّجل في قومه مَليء مثل شجرة في غابة.
فإذا انعزَل او اغتًَرب ؛ مشى و لا ظِلّ له !
مشى بِدبيبٍ مُنفرد.
حتى تُصبح الخَطوة كأنّها صَدى الوَحشة و الفراق !
لقدْ كانت مِصر كلّها تنبِض بالذّكريات.
تتشابه المَلامح، و تتقارَب الأقدام، ويشمّ موسى فيها روائِح ؛ تختزِل الكثير من الحّكايات !
في الوَطن.
كلّ مَحطة بحكاية.
كلّ شجرة فيها شيء مِنك.
الدُّروب سِجلّات للكثير من هَمسِك وصَخَبك.
و أنت تلمَح ذاتك في كلّ نجمة.
وكل عُشبة.
وكلّ وجهٍ يعبُر بينك وبين أحلامِك في الّليل !
لكنّك في الغُربة تَرحل الى دُروبٍ صامتة لا خَواطر فيها.
لا تُلوّح لك النّاس فيها من بعيد.
لا تختلف الوهاد فيها عن السُّهول.
وليس فيها صوت أمّك !
وتظلّ بقيّة حياتِك تكتُب سِجلّ معالِمك ؛ ليأتي غريبٌ فيمحوها بكلمةٍ منه !
في " مَدين ".
يتّكىء موسى على جَذعِ شجرة ؛ بعد أن جفَّت الحياة في يده.
وبلَع مرار المَنفى للمرّة الأولى في حياته.
يتّكىء على شجرةٍ غريبة ؛ لم يُقاسمها يوماً حديثا.
ً ولم تحتفظ بنبرةِ صوتِه.
حتى الغَيمة التي تَُظلّل الشّجرة ؛ لم ترهُ من قبل !
لا أحد ينهَض لعناقِه.
ولا أحد يكترِث لو غاب.
الهمهمات تبلُغ أُذنيه باردة بلا مشاعر، فلا صوت يحمل رنّة يستفيقُ لها قلبه !
كلّ الأوتار.
تعزِف لحنا لا يَستدعي في وجدان موسى إلا الوَحشة، و حقيقة الفراق !
اتّكىء موسى.
بعد أن سَقى لفتاتين تستضعفان من قوّة الجَمع وكَثرة الرِّجال.
فنَفسُ موسى لا تُطيق الإستضعاف، وتكرَه مشاهِد استلاب الحُقوق ؛ وهو قد دّفع ضريبة انحيازه للحقّ كامِلة !
دفعها.
عطَشاً في حنايا روحه ؛ سيظلّ يلتهِب كلّما جنَّ الّليل.
دفعَها.
حنَاناً لمائدةٍ مَلأى بخبزِ أمّه ؛ ستتغيّب عنه عَشر سِّنين.
ودفعَها.
من قميصه.
فثيابُ الرُّعاة مَنسوجة من العَرق ؛ وليس من الحَرير !
سَقى لهُما.
وقد رأى فتاتان قد عبَست الحياةُ لهما !
ربّما كما عبَست له ؛ فأَلجأَتْهُما الى مُزاحمة الرِّجال على الحِياض !
سقَى لهُما.
وهو يشتَهي لو تَكتال له السَّماء من بعض النّعيم الذي تركَ.
أو تتفتّح له السّعادة مواعيداً ؛ فلا يبتئِس !
سقَى لهما.
واندهَش القوم بقوّته.
دون أن يعجب أحد لقوّة مبادِئه التي بلغَت به " مَدْين " ؛ إذ موسى لا تاريخَ له فيهم !
هل في لوحَة الحياة مَشهد أقْسى من ضَياع بعضِك.
من بعثَرة ماضيك.
من صُمودك في الشّتاء دون خيمَتك.
من قُدوم نيسان، وآذار، و كلّ الشّهور دون نبض ولا رّوح.
!
من يملك.
أن يتناول طعامَه كلّ صباح ؛ من نباتٍ باهِت لا رُوح فيه !
من يحتمِل.
أن يصنع بِطاقة عُمره من مُنتصف النّهار.
من مُنتصف حياتِه ؛ ويظلّ يَحكي للقومِ أنّه كان يملِك ذات يومٍ صباحات غنيّة !
على خُطى إبراهيم يا مُوسى.
فتِلك ضَريبة المُصلحين !
يتّكىء موسى على الشّجرة.
ويبتّل بالدُّعاء.
يسيل الدُّعاء اليه سَلسَبيلاً.
وتنهَض نفسه الى الله ؛ بأُمنية دَفينة يُخبّؤها في حياء نبيٍّ كريم، فلا يزيد عن قوله { ربِّ إنّي لما أنزَلت إليّ من خيرٍ فَقير } !
أدبٌ لا تبلُغه أخلاقُ النُّبلاء قاطبة.
أدبٌ هو بعضُ أثر { وَلتصنع على عَينيْ } !
بلا ضَجَر و لا تَذمّر ؛ بل تَرْك الكلمات تُحلّق عاليةً الى العَرش.
حيثُ العليم الخبير.
حيث الله وحده القَريب الى القَلب المَوجوع.
إلى القلب الذي فقَد كلَّ شيء دُفعة واحدة.
!
لذا.
هيّء اللّه لموسى رجُلاً صالحاً.
ومَنحه أسرة، وزوجة، وأهلاً ؛ حتى لا يظلَّ عابرَ سبيل !
كانت تلك خَفقة رَحمة ؛ أو بعضٌ من فَيءْ الظِّل يَمُدّه الله لموسى.
حتى لا يظلّ في الهَجير.
!
هنيئاً.
للظلِّ الذي احتواكَ يا موسى !
هنيئاً.
للعُشب الذي ابتَلّ بمعاني دُعائك !
هنيئاً.
للنّسمات التي صَعدت بابتهالِك !
هنيئا ً.
لأدبك الذي حرّك سِلسلة الإجابة.
!
{ أهدِني سَّواء السّبيل } ؛ ثمَّ { انّي لِما أنزَلت اليّ من خيرٍ فَقير }.
وما بَينهما، و ما بعدهما ؛ كان لُطف الله يَسري في خَفاء !
{ ثُمّ تولّى إلى الظِّل }.
في سِترٍ ناجَى ربّه، و ألمَح إلماحاً إلى فقره، وتولّى عن الناس إلى من بيَدهِ المفاتيح ؛ فناوَله ربّه الخير قبل أن يتحرّك من الظِلّ !
إنّ الله مع المُصلحين.
في هَمساتِهم.
و في خَطواتِهم.
وفي خَفِيِّ دَعواتِهم.
.
و في أدبهم !
يُكلّل الله هَروَلتِهم إليه في عَطاءٍ غير مؤقّت.
عطاءٌ.
لا يَغيبُ من أعمارِهم ؛ حتى تَغيب الشَّمس من أُفُق الوُجود !
مختارات