المشهد السادس
{ وَجاءَ رَجُلٌ مِن أقصَى المَدينةِ يَسعى قال يا موسى إنّ المَلأ يأتَمِرون بك فاخرُج إنٌّي لكَ من النّاصِحين }.
هذه لَحظةٌ فارقة في حياةِ موسى - عليه السلام -.
حيث سَتبدأُ الأحداث في تَدوين أول سِيرة الأَلم المُثمر.
الأَلم الّذي يخبزنا حتى يُنضجنا.
وينضج به رَغيف الفَجر !
لحظةٌ فارقةٌ في حياتِه.
حيث تدوينُ أوّل خَطوةٍ نحوَ الإغتراب ؛ لأجلِ صناعةِ رَجُل الرّسالة !
تَأتي البِداية في كلمةٍ ينتقلُ بعدها موسى - عليه السّلام - نحو احتِضان المَجهول في التِّرحال القادم.
ليُدرك مَعها أنّه الآن يقِف على الحدّ الفاصل بين الوَطن و المَنفى.
بٍين الوَطن و الغُربة.
!
كان موسى يحلُم أن يمسَح الغُبار عن المَدينة المُنهكة بالظُّلم.
لكنَّه فجأةً ؛ يجدُ نَفسه يُرتِّل أوجاعَه خَفِيّاً.
يُرتّلها مَسافات تزيدُ معُ كلِّ
خَطوة يبتعِد بها عن مِصر.
!
بعضُ الأقدارِ تُلقيكَ في تساؤلٍ لا يتوقَُّف !!
لماذا وإلى أيْن.
تَراها في عقلِك مُشوَّشَة لا جوابَ لها.
تماماً.
مِثل كلِّ أسئلة موَُسى للرّجُل الصّالح !
مِثل مَقتل الغُلام بينَ يديه !
مثل خَرْق السّفينة !
مِثل إلقائِه في اليَمّ !
مِثل خُروجِه من مِصر !
ومِثل كلِّ تلك الأَحداث ؛ الّتي تُدخلنا دوّامة البَحث عن حِكمة الله
سُدىً.
تُحاول أن تَفهم المَشهد ؛ وهُم يَرجُمون البعض بالحجارةِ.
لكنّك تُدهَش حينَ تُصبح تلك الحِجارة فجأة هي بُرجهم للرُّؤية !
وقدْ كانت من قبلُ هي حِيرتهم و صَرَخات النَّحيب !
لَقد كانت يد القَدر تُوقِّع على دفتَر التَّكوين والتَّشكيل الجَديد لموسى - عليه السلام -.
مُوسى الرِّسالة !
حيثُ يَسُوق الله مُوسى في ترتيبٍ إلهيٍَّ الى غُربة ؛ سَتملَؤُ كُلَّ الصَّفحات الفارِغة من سِجله بِتربيةٍ َلن تَبوُر.
تربية لن يخرج بعدها موسى من مصر وحيدا ؛ بل سيخرُج ومَعه الجُموع.
يقودُها لا خائِفاً و لا مُتلفِّتاً !
فهاهو وحدَه.
تلتَقِطه يدُ القدرة من غمرٍَة الزِّحام لتُخرجه من القَصر.
كما التَقطه آلُ فِرعون ذاتَ يومٍ ؛ من غمرة المِياه لتُدخله إرادةُ الله الى القَصر.
لتَتوّج بتهيِئتِه خارِطة الإنبعاث لأُمّة نالَ الصّمت من حناجِرها طَويلاً !
{ وجاءَ رجُلٌ من أَقصى المدينةِ يَسعى }.
{ رَجلٌ }.
هَكذا بالتَّنكير ؛ حيثُ لا يحفَظ أحدٌ اسمَه حتّى السَّاعة !
و كَم من مَغمور في الأرضِ مَشهور في السّماء !
ترى.
هَل يتَّسِع النّهار البَشريّ للشُموس التي تتفَجر في خفيَة عَنّا ؛ ثمّ تظلّ مُعلقةً في ضَمير التّاريخ و لا تنطَفىء أبداً !
هل يتّسِع.
أم أنَّ هؤلاء لا تَتّسع لأعمالِهم إلا موازين الله ؛ حيثُ تُشرق في الكَفّة أعمالٌ لها صدىً بِحَجم السَّماء !
" سعيا " 'وليس مشيا.
فالسعي هو السير بسرعة و بشدّة، حتى تدوي الخطوة في مسمع الملأ الأعلى !
" سَعياً " وليَس مَشياً.
فالوَقتُ لا يحتَمِل !
كانت تهدر الأفواهُ بالقَتل.
في قُصورٍ مَغموسَة في العَتمة ؛ إلّا أنّ ذلك المَغمورُ لم يَسمح لها أن تَطرُد طُمأنِينته، أو تَدفِن قَدميه عن السَّعي.
!
كانت خَطواتُه.
تحني الأَحجار المُتبعثِرة تحتَ قَدميه ؛ بحناءٍ أبَديّ تَشَتهيه السّماء.
وكانت الأَحجار تَشهد له أنّه حَمى النُّبوّة !
تُرى.
هل تَشهدُ لكَ الأرضُ بأنَّك حَمَيت ذاتَ يوم للهِ شيئاً !
تُرى.
هل تعرِفك حبّات الرّمل ! هل تحفَظ صَدى خطواتك فضاءاتُ الدُّروب !
أو ترانا ممن أَفصح عنهُم الشّاعر بقوله:
ورُبما فات قَوماً جُلّ مَطلبِهم
من التأنّي وكان الخَير لو عَجلوا !
وهو المَعنى الذي خُوفَ منه النبي عليه السلام يوم قال [ولا يزالُ قوم يتأخّرون حتّى يؤخِرهم الله] !
تنتثرُ حبّات العَرق المَجهول هُنا وهُناك.
ثم تغور في الحِجارة المُلقاة تحتَضِنها في صمتٍ سري.
فهيَ تعرِف طَعم هلَع النّاصِحين !
كان عَرقُه يُشبه تلك الذّرات التي تَغيب في الارضِ بهُدوء ؛ ثمّ تنبَجِس ذات قَدر مثل شلّالات جَليلة.
!
{ من أَقصى المَدينة }.
جاءَ من أقصى المَدينة أم مِن أقَصى الحُلم الّذي كان ينامُ عليهِ المُستضعفُون كلَّ ليلة !!
إذ كانت روح موسى - عليه السَّلام - قد بدأت تكسُو المِكان.
تُلامس أرواحَ المَقهورين.
و تتمدَّد في أحاديثِ الضُعفاء.
و كان ذلك يُثير قَلق المُفسدين.
هاهو يتطاوَل ظِلُّ مُوسى ؛و يَغدو فَيئاً للمُتعَبين !
يتهامَس المَلأ.
بعد أن صارَ لخَطوة موسى صدى.
يَخطِف من فِرعون هُدوء العَرش.
!
يتهامَسون.
بأنّ البَراعم الصّغيرة تحلُم بأنَّ في الأرض المُجدبة ثَمّة فَرع سيُثمر !
لقَد كان الطُّغيان يُراقب التّفاصيل الصّغيرة، ويُدرك تماماً أنّها تَتراكم ؛ لتَغدو الرّواسب الثّقيلة التي ستعيق مَراكبه !
لذا.
{ فاخرُج } ؛ إذ ليسَ كلّ الطُّغيان يجاهَد بالصّمود.
هناك طُغيان يجاهَد بالهَجر والخُروج والإنسحاب قليلاً !
و في تقابلٍ دقيق ؛ يصِف القُرآن الحدَث { فأصبَح في المَدينة خائِفاً } ؛ ثمّ كانت النِّهاية { فخَرج منها خائِفاً }.
كأنّ القرآن يقول لك.
إن بعضَ المُدن والدُّوَل ؛ تزرَع الخوف بإتقانٍ في قلوبِ الدّاخلين فيها والخارِجين منها.
حيث تنكسِر فيها الأحلامُ مُبكراً !
{ فاخرُج }.
والفَاء للسُّرعة.
السُّرعة التي منَعَته أن يلتَقِط مُؤنة الرّحيل !
كانت الدُّروب تسكُب مخاوِفها في وجهِ المُطارد.
تنغرِس قَدمه الهَاربة في الرِّمال، ويميلُ من وَطأةِ الوَجع.
!
يتقلَّد موسى كِيساً من ماضِيه.
وأحلامُ شَعب كَبَّل الخوفُ أقدامَه ؛ فما سجّل له القرآن سعياً ولا مشياً واحداً !
يخرُج موسى خائفاً في بعضِ لحظة فقط.
لكنّها كانت كافيةً أن تحمِل له انكساراً مُريعا !
وبِذُلّ الغَريب ينادي ربّه { أهدني سَواء السّبيل } !
ما أغرَب الأحداث.
إذ كانَت كلُّ الطُّرق في عينه قبلَ هنيهة واضحة ؛ لكنّها الآن تَبدو غائبة !
كيف يُصبح الإنسان في بِضع لحظةٍ مَولوداً آخراً !
كيفَ يَتبعثَر ؛ حتّى لا يَدري أين يُلملِم نَفسه !
كيفَ تحدّق به الأماكنُ، وتَفغر أفواهَها ؛ كأنّها القبُور !
هكذا إذن من القصرِ.
إلى رمالٍ يَخشى أن تَشي بخَطواتِه.
حتّى أنّه كان يخشى ثيابَه التي يرتَديها أن تدلّهم عَليه !
ومن الملفت للنظر أن الله لم يحدّثنا في المَشهد عن تهشُّم أمّ موسى.
و لا عن نَحيبٍ ما وقت رحيلِ موسى ؛ لأنّها كانت تُوقن.
بأنّ الذي أَوفى لها بأوّل العَهد { إنا رِادُّوه إليكِ }.
سيَفي لها بآخرِ العهد { وجاعِلوه من المُرسَلين } !
لَقد سجّل القُرآن.
تَخطيطَ مَلأ متعالٍ أفَسده سَعيٌ مُنفرِد ؛ لقَدمٍ نجهلُ صاحِبها حتّى اليوم.
!
لقد سجل القرآن لرجل أن خَفقة قلبِه.
كانت تنعكِس في جُرأةِ سَعيه ؛ التي سنسمَع ثَوابها مُدوّياً على المَلأ كلِّه.
كما كانت ذاتَ يومٍ ؛ ضدّ المَلأ كُلِّه !
مختارات