المشهد الخامس
{ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ من المصلحين }.
كانت مِصر تسيرُ نحوَ الرُّكوع النهائيِّ بسياطٍ ثابتة في ضَرباتِها !
كان الأغنياءُ والفقراءُ فيها يَسيرون في خطّين متوازيَين.
لكنَّهم في الحقيقةِ ؛ كانوا ينشطِرون الى نِصفين.
قد ضُرب بينهم بسورٍ يخلِق نصفين من البَشر.
نصفٌ يتعذّب بالنِّصف الآخر.
حيث تَنمو بُذور الذُّل في أعماق المَطحونين.
معجونة بقهرٍ مخفيٍّ يقتلهم ؛ أو ربّما يُبقيهم ليسوا أمواتاً !
لقد تذوّق موسى عليه السلام الفارقَ مابين القصر وما بين الشّارع.
وعرَف أن الفجوةَ كانت أكبر من أن يبتلِعها البحرُ، أو يطهّرها ماءُ النِّيل !
وأدركَ.
أن الإستبدادَ يصنعُ ضحاياه ؛ ثم يستلذُّ بهم أنصاف غرقى في متاهاتٍ يخلَقها لهم.
تبقيهم بلا ذاكرةٍ و لا وَعي.
!
أدركَ موسى - عليه السَّلام -.
أن فِرعون { علَا في الأرضِ } ؛ لأنّ الكثيرَ من قومِه صاروا له مدرّجا !
فما أن { استغاثهُ الَّذي من شِيعَتِه } حتى أغاثه.
{ فَوكزَه مُوسى فقَضْى عَليه }.
لقد كانت وكزةً خفيفة ؛ لكنّها مُشبعةً بقهرٍ عَميق !
قهرٌ.
صَنعه طاغية باحترافٍ عالٍ، و صنعَ معه مفرداتَ بقائِه.
!
هل تُراك تنبَّهت.
الى أن الظلم يقارنه دوماً عُنصريّة وجاهلية وطبقيّة مَقيتة !
هذا ما يؤسِّس له الظّلم.
تَصارع لا نهاية معَه، و لا يتبقَّى بعده إلا النَّزيف !
إرثُ الظالمين دوماً فُسيفساءَ تزدادُ توحُّشاً فينا.
فُسيفساءَ.
نتقزَّم معها.
و تظلُّ هي لوحتنا التي تزدادُ تكسُّراً !
إرثُ الظّالمين.
غبارٌ كثيف.
يخنِق المُدن فيبقينا على حُلم الحصولِ على جرعة هواءٍ فقط.
نعثر عليها بمشقّة ؛ ثم نرقُص فرحاً إذ وجدْنا بعض الزّفير !
إرثُ الظّالمين.
دوّامات مُتناثرة ؛ تلتَهم بشَراسة غيماتَ المطر.
و تُبقي الغيث منفيّاً في الزوايا البَعيدة.
!
الظّلم.
سعيٌ خبيث ؛ لجَعْلِ نصف الفُقراء يتقاتلون مع النّصف الاخر.
ثم ينظِّفون أرض المعركة بأيديهم المُتعبة !
الظّلم.
هو اشتعالُ الحريق فينا جميعاً.
تبدأ النّار بصغارِ الحطَب ثم نتفحّم بها جميعاً !
الظلم.
هو انتصار عرشٍ واحد ؛ و البقيّة لن يكونوا له سوى مسامير الوَهن !
لقَد أدرَك موسى - عليه السّلام - أنّ قَتله للقبطيّ هو مَزيد من عَتمة المٌَشهد.
فنحن أحيانا دون أن ندري نكرّر أساليب الظّالمين إذ يُعاملون الخصم بالقوّة.
لذا قال {ً لن أكونَ ظهيراً للمُجرِمين }.
فليسَ جواب الظّالمين أن يُقتل بعضُ المتجبّرين.
!
يبتعدُ عن المدينةِ.
وَهو يظنُّ أنّ الامرَ حدَث في { المدينةِ على حينِ غفلة من أهلِها }.
لكنّه في صبيحةِ اليوم التالي ؛ يجدُ نفسه { خائفاً يترقّب }.
و هاهو الخوفُ يلحَق موسى و قد لحِق أمّه من قبل و لحِق أخته.
يتلفّت مترقّبا.
وهكذا الظّلم يجعلك مُستهلكاً أبداً للخوف.
متسمّراً على انتظارٍ ما ؛ ثمّ تكتشِف أنّ الشلّل قد أوقَف عقلَك على لحظةِ الانتظارِ تلك !
{ فإذا الّذي استَنصره بالأمسِ يَستصّرِخْه }.
يوقفك القرآنُ هنا على معنىً عميق في صِناعة الإصلاح.
إنَّ علاج مريضٍ أو اثنين لا يقضي على جَذرِ المَرض.
لماذا؟!.
لأنّ زِراعة إنسانٍ يُثمر ؛ يعني أن تقَضي على موته.
على كلّ لحظات الاحتضارِ فيه !
لذا فإنَّ المُثقلين بأوجاعِ الظُّلم.
يحتاجُون أن يستَصرِخوا ذَواتهم هم، و خَطواتِهم هم، و سَعيِهم هم ؛ قبل أن يستصرِخوا عابرَ طريق !
وذلك هو الفارق بين علاج طارىء و بين صناعة الإنسان !
انتبه.
هنا يقولُ لك القرآنُ ربّما ينقذك رجل ما.
لكن عطَش الأشجار لا تسقيهِ قَطرة واحدة ؛ بل ألف غيَمة و غيمة تسوُقها صلواتُكم.
و تهزّها دعواتكم.
و قبلَ كلّ ذلك ؛ لابدَّ أن يرى الله أيديكم وهيَ تجمعُ الدّلاء للماءِ القادم !
يُثبت القرآن حرَكة موسى - عليه السّلام - { فَأغاثَه}.
ثمّ ماذا !!
إنّ الصورة تقولُ لك ؛ إن ترقيعَ الثُّقوب يستُرنا لهُنيهةٍ.
لكنّه يزيدُ الثوب تشوُّها.
حتى لا يبقَ أمامَك إلا أن تنغَمِر في الحَدث الجَديد، وتتركَ الثِّياب القَديمة.
!
ما الظُّلم.
؟!
الظّلم مُفردةٌ من ثلاثةِ أحرُف ينقلب بها الزّمان والمكان والعالم تابوتاً أسوَداً !
أيّ حروف تُطيق وَصف الظُّلم !!
الظّلم يا سيِّدي يُعاشُ و لا يُقرأ !
يعرِفه الذين ظلّوا معلَّقين في سراديبِه حتى الموت قهراً.
يعرِفه الذين تقاسَموا ليلهَ ؛ يسرقون منهُ غَفوة تحمِلهم الى زمنٍ لم تَكن فيه قُبور الزَّنارين و لا سِياط الموت البَطيء.
!
في الأثر [إذا كانَ يومُ القيامة نادى منادٍ: أين الظّلمة وأعوانُ الظّلمة، وأشياه الظّلمة، حتى من لاقَ لهم دواة وبرى لهم قلما، فيجمعون في تابوتٍ من حديد، ثم يرمى بهم على رُؤوس الخلائق في نار جهنّم] !
نعم.
حتى من بَرى لهم قلماً كُتبت به كلمة سحَقت حياةَ إنسان.
لماذا؟!.
لأنَّ الظُّلم يعني.
أن يقِف الرّجال دونَ امتدادٍ ؛ فقد أُريقت كلُّ الذَّخيرة !
الظُّلم يعني.
أن يَعوي الشِّتاء في وجهِ العَجائز.
و تَجمُد الذِّكريات ثم تنكَسر في خيِامٍ غريبة !
الظّلم يَعني.
أن تكونَ رقماً بعدَ أن كنتَ إنساناً له اسماً طويلاً !
الظّلم يعني.
أن يكونَ الموتُ مرّة ؛ و لكنَّ الظّالم يذَرهُ في حلقِك مرّات عَديدة !
ما أصعبَ أن تصيدَ الحياة !
أن تَلُمَّ ذرّاتها.
كنور مُنتثِر هنا و هناك !
تجمِّعها ؛ ثم تنفُخها في الأرواحِ المُتآكلة !
ترمِّمُ بها الانهياراتَ العَميقة و تُجبرهم من ثَمَّ على البقاء.
على أيِّ بقاء !
كانَ الله يُريد لموسى أن يكونَ { من المُصلحين }.
(من) ألا تُوحي لكَ الآية ؛ بأنَّ المُصلحين هم مجموعات وليَسوا فرداً، ولا بطلاً ً، و لاقائداً واحداً.
بل هي طَوابير طَويلة.
! طَوابير من المُصلحين.
تحرَّكت لفكرةٍ جَليلة.
لفكرةٍ وليسَت لرغيفِ الخُبز !
وَكيْ يكون من المُصلحين.
كان لا بدَّ أن يرى أساليبَ الظّالمين، ثمّ يعلِن توبتهُ منهم أجمعين { ربِّ بما أنعمتَ عليَّ فلَن أكونَ ظهيراً للمُجرمين }.
!
إنّ الصَلاح هَيّنٌ.
لكن أن تكونَ { من المُصلحيِن } ؛ فتِلك مَهمّةُ الأنبيِاء !
و لها.
هيءّ الله موسى - عليه السلام - يوم أن قال { ولتصنع على عيني }.
مختارات