المشهد الخامس
{ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ من المصلحين }..
كانت مِصر تسيرُ نحوَ الرُّكوع النهائيِّ بسياطٍ ثابتة في ضَرباتِها !
كان الأغنياءُ والفقراءُ فيها يَسيرون في خطّين متوازيَين.. لكنَّهم في الحقيقةِ ؛ كانوا ينشطِرون الى نِصفين.. قد ضُرب بينهم بسورٍ يخلِق نصفين من البَشر..
نصفٌ يتعذّب بالنِّصف الآخر.. حيث تَنمو بُذور الذُّل في أعماق المَطحونين.. معجونة بقهرٍ مخفيٍّ يقتلهم ؛ أو ربّما يُبقيهم ليسوا أمواتاً !
لقد تذوّق موسى عليه السلام الفارقَ مابين القصر وما بين الشّارع.. وعرَف أن الفجوةَ كانت أكبر من أن يبتلِعها البحرُ، أو يطهّرها ماءُ النِّيل !
وأدركَ.. أن الإستبدادَ يصنعُ ضحاياه ؛ ثم يستلذُّ بهم أنصاف غرقى في متاهاتٍ يخلَقها لهم.. تبقيهم بلا ذاكرةٍ و لا وَعي.!
أدركَ موسى - عليه السَّلام -.. أن فِرعون { علَا في الأرضِ } ؛ لأنّ الكثيرَ من قومِه صاروا له مدرّجا !
فما أن { استغاثهُ الَّذي من شِيعَتِه } حتى أغاثه.. { فَوكزَه مُوسى فقَضْى عَليه }..
لقد كانت وكزةً خفيفة ؛ لكنّها مُشبعةً بقهرٍ عَميق !
قهرٌ.. صَنعه طاغية باحترافٍ عالٍ، و صنعَ معه مفرداتَ بقائِه..!
هل تُراك تنبَّهت.. الى أن الظلم يقارنه دوماً عُنصريّة وجاهلية وطبقيّة مَقيتة !
هذا ما يؤسِّس له الظّلم.. تَصارع لا نهاية معَه، و لا يتبقَّى بعده إلا النَّزيف !
إرثُ الظالمين دوماً فُسيفساءَ تزدادُ توحُّشاً فينا..
فُسيفساءَ.. نتقزَّم معها.. و تظلُّ هي لوحتنا التي تزدادُ تكسُّراً !
إرثُ الظّالمين.. غبارٌ كثيف.. يخنِق المُدن فيبقينا على حُلم الحصولِ على جرعة هواءٍ فقط.. نعثر عليها بمشقّة ؛ ثم نرقُص فرحاً إذ وجدْنا بعض الزّفير !
إرثُ الظّالمين.. دوّامات مُتناثرة ؛ تلتَهم بشَراسة غيماتَ المطر.. و تُبقي الغيث منفيّاً في الزوايا البَعيدة..!
الظّلم.. سعيٌ خبيث ؛ لجَعْلِ نصف الفُقراء يتقاتلون مع النّصف الاخر.. ثم ينظِّفون أرض المعركة بأيديهم المُتعبة !
الظّلم.. هو اشتعالُ الحريق فينا جميعاً.. تبدأ النّار بصغارِ الحطَب ثم نتفحّم بها جميعاً !
الظلم.. هو انتصار عرشٍ واحد ؛ و البقيّة لن يكونوا له سوى مسامير الوَهن !
لقَد أدرَك موسى - عليه السّلام - أنّ قَتله للقبطيّ هو مَزيد من عَتمة المٌَشهد.. فنحن أحيانا دون أن ندري نكرّر أساليب الظّالمين إذ يُعاملون الخصم بالقوّة..
لذا قال {ً لن أكونَ ظهيراً للمُجرِمين }.. فليسَ جواب الظّالمين أن يُقتل بعضُ المتجبّرين.. !
يبتعدُ عن المدينةِ.. وَهو يظنُّ أنّ الامرَ حدَث في { المدينةِ على حينِ غفلة من أهلِها }..
لكنّه في صبيحةِ اليوم التالي ؛ يجدُ نفسه { خائفاً يترقّب }..
و هاهو الخوفُ يلحَق موسى و قد لحِق أمّه من قبل و لحِق أخته.. يتلفّت مترقّبا.. وهكذا الظّلم يجعلك مُستهلكاً أبداً للخوف.. متسمّراً على انتظارٍ ما ؛ ثمّ تكتشِف أنّ الشلّل قد أوقَف عقلَك على لحظةِ الانتظارِ تلك !
{ فإذا الّذي استَنصره بالأمسِ يَستصّرِخْه }.. يوقفك القرآنُ هنا على معنىً عميق في صِناعة الإصلاح.. إنَّ علاج مريضٍ أو اثنين لا يقضي على جَذرِ المَرض.. لماذا؟!.. لأنّ زِراعة إنسانٍ يُثمر ؛ يعني أن تقَضي على موته.. على كلّ لحظات الاحتضارِ فيه !
لذا فإنَّ المُثقلين بأوجاعِ الظُّلم.. يحتاجُون أن يستَصرِخوا ذَواتهم هم، و خَطواتِهم هم، و سَعيِهم هم ؛ قبل أن يستصرِخوا عابرَ طريق !
وذلك هو الفارق بين علاج طارىء و بين صناعة الإنسان !
انتبه.. هنا يقولُ لك القرآنُ ربّما ينقذك رجل ما.. لكن عطَش الأشجار لا تسقيهِ قَطرة واحدة ؛ بل ألف غيَمة و غيمة تسوُقها صلواتُكم.. و تهزّها دعواتكم.. و قبلَ كلّ ذلك ؛ لابدَّ أن يرى الله أيديكم وهيَ تجمعُ الدّلاء للماءِ القادم !
يُثبت القرآن حرَكة موسى - عليه السّلام - { فَأغاثَه}.. ثمّ ماذا !!
إنّ الصورة تقولُ لك ؛ إن ترقيعَ الثُّقوب يستُرنا لهُنيهةٍ.. لكنّه يزيدُ الثوب تشوُّها..
حتى لا يبقَ أمامَك إلا أن تنغَمِر في الحَدث الجَديد، وتتركَ الثِّياب القَديمة.!
ما الظُّلم..؟!
الظّلم مُفردةٌ من ثلاثةِ أحرُف ينقلب بها الزّمان والمكان والعالم تابوتاً أسوَداً !
أيّ حروف تُطيق وَصف الظُّلم !!
الظّلم يا سيِّدي يُعاشُ و لا يُقرأ !
يعرِفه الذين ظلّوا معلَّقين في سراديبِه حتى الموت قهراً..
يعرِفه الذين تقاسَموا ليلهَ ؛ يسرقون منهُ غَفوة تحمِلهم الى زمنٍ لم تَكن فيه قُبور الزَّنارين و لا سِياط الموت البَطيء..!
في الأثر [إذا كانَ يومُ القيامة نادى منادٍ: أين الظّلمة وأعوانُ الظّلمة، وأشياه الظّلمة، حتى من لاقَ لهم دواة وبرى لهم قلما، فيجمعون في تابوتٍ من حديد، ثم يرمى بهم على رُؤوس الخلائق في نار جهنّم] !
نعم.. حتى من بَرى لهم قلماً كُتبت به كلمة سحَقت حياةَ إنسان.. لماذا؟!..
لأنَّ الظُّلم يعني.. أن يقِف الرّجال دونَ امتدادٍ ؛ فقد أُريقت كلُّ الذَّخيرة !
الظُّلم يعني.. أن يَعوي الشِّتاء في وجهِ العَجائز.. و تَجمُد الذِّكريات ثم تنكَسر في خيِامٍ غريبة !
الظّلم يَعني.. أن تكونَ رقماً بعدَ أن كنتَ إنساناً له اسماً طويلاً !
الظّلم يعني.. أن يكونَ الموتُ مرّة ؛ و لكنَّ الظّالم يذَرهُ في حلقِك مرّات عَديدة !
ما أصعبَ أن تصيدَ الحياة !
أن تَلُمَّ ذرّاتها.. كنور مُنتثِر هنا و هناك !
تجمِّعها ؛ ثم تنفُخها في الأرواحِ المُتآكلة !
ترمِّمُ بها الانهياراتَ العَميقة و تُجبرهم من ثَمَّ على البقاء..
على أيِّ بقاء !
كانَ الله يُريد لموسى أن يكونَ { من المُصلحين }..
(من) ألا تُوحي لكَ الآية ؛ بأنَّ المُصلحين هم مجموعات وليَسوا فرداً، ولا بطلاً ً، و لاقائداً واحداً.. بل هي طَوابير طَويلة.! طَوابير من المُصلحين.. تحرَّكت لفكرةٍ جَليلة.. لفكرةٍ وليسَت لرغيفِ الخُبز !
وَكيْ يكون من المُصلحين.. كان لا بدَّ أن يرى أساليبَ الظّالمين، ثمّ يعلِن توبتهُ منهم أجمعين { ربِّ بما أنعمتَ عليَّ فلَن أكونَ ظهيراً للمُجرمين }..!
إنّ الصَلاح هَيّنٌ.. لكن أن تكونَ { من المُصلحيِن } ؛ فتِلك مَهمّةُ الأنبيِاء !
و لها.. هيءّ الله موسى - عليه السلام - يوم أن قال { ولتصنع على عيني }.
مختارات