سمسرة المدافعين
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
ظللت موقنا أن بسط الشبهات على حصير القلب سيترك –إلا ما شاء الله- أثره حتى في قلوب أولئك الذين يتوهمون أنهم أبعد الناس عن الانفعال والتأثر بها، وهم الذين يتناولون الشبهات لغرض الرد على أصحابها ودفع صائل البغي على حمى الشريعة، ولست أعني أمثلةً تتداعى إلى خيال القارئ وربما انثالت ذاكرته المكتظة بأسماء أولئك الذين انزلقت أقدامهم فابتلعوا نِتاج الخصم ولم يستطيعوا بعدُ إخراجَه! لست أعني هؤلاء.. إنما قصدت أولئك الذين توهَّموا أنهم أخرجوه لكنه ظلَّ راسبا في الأعماق يتحرَّك في نطاق اللاشعور، نعم.. لا ينتقلون لليمين إذا كان الحق في الشمال، ولكنه كثيرا ما يدفعهم إلى شمال اليمين أو إلى يمين الشمال! إنه حقُّ مضمَّخ برائحة تهيب الباطل!
وكي لا يكون الكلام تجريديا سابحا في الهواء الطلق فنريد أن نربطه إلى سارية من سواري واقعنا الفكري:
لا يمكن لمن يرخي سمعه لمثقفي الهزيمة وهم يشرعنون قيام الأحزاب الكافرة في الدولة الإسلامية، فيحاولون تصوير أن المنافقين في المجتمع النبوي كانوا شبهَ حزب سياسي يستعد للمشاركة في البرلمان المدني، ويعرض مشروعه الانتخابي مقابل سور البقيع، وأن شباب ذلك الحزب كانوا منهمكين في تعليق لافتات كبيرة في شوارع يثرب عليها صور المرشَّح الرئاسي للحزب عبدالله بن أبي سلول مقابل المشروع السياسي المنافس لمحمد بن عبدالله! لا يمكن لمن أرخى سمعه ثم انطبعت في ذهنه –أولا- هذه الصورة المصممة لتتناسب مع الذوق الحديث أن ينتقل بسهولة إلى الضفَّة القرآنية المقابلة، وهي تلك التي تصور المنافقين جماعة مطاردة مستخفية تنفلت من فِيْ أحدهم الكلمة بما يضمره قلبه فتنتفض أطرافه وتتيبس شفتاه من فرط الهلع ويركض ليتعلق بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويحلف له حتى يعدلَ عن إقامة الحد عليه.
ولا يمكن لمن ترك عينيه تجول في شبهات المشككين في عقيدة الولاء والبراء وتَتَوارد على قلبه الغضّ عباراتهم الحالمة في الحديث عن الإنسانية المشتركة، أن ينتقل دونما عناء إلى الحقيقة القرآنية الصارمة في البراءة من الكافرين والواردة في عشرات الآيات إما مطابقةً، أو تضمنا كتلك النصوص التي تحدثت عن مكانة الكافر في القرآن وكونه أحطَّ الدواب وشرّها وكالأنعام بل أضل سبيلا.
ولا يمكن لمن ابتلع مناقب الحرية الليبرالية في كتب أولئك الذين اتخذوها منهج حياة يحاكمون إليها ويوالون ويعادون وكتبوا فيها مقطوعات النسيب المطوَّلة ؛ أن يصدع بيسر وسلاسة عن كون الإسلام يصادر حق التعبير عن الأقوال المنحرفة، ويمنع بيع الكتب المشتملة على " الآراء " الإلحادية في معارض الكتب، وأنه (يجب حسمُ الباب في زجر الكافَّة عن مطالعة كتب أهل الضلال)كما يعبر أبو حامد الغزالي.
ثمةَ حواجز صدّ تحول بيننا وبين الصعود إلى قمم المعاني الراقية التي جاء بتفصيلها القرآن، وما زال كثيرٌ من أولئك الذين يتوهمون أنهم صعدوا إلى القمة السماوية=متاخمين لسفوح القناعات الأرضية! فأكثر ما يحاذره المدافعون ويشدّ أنظارَهم من صور الانحراف؛ تلك القناعات المباينة مباينةً كلية لمضامين الوحي الإلهي، بينما نغفل كثيرا عن عمليات الشطب اليسيرة، وهي التنازل عن " الشيء القليل " التي عبَّر عنها القرآن ببلاغة أخاذة بقوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) قال السعدي: (من محبتك هدايتهم)! نعم.. فهذه التغييرات اليسيرة تتم غالبا عن صفاء نية وفق مكونات ثلاثة، أورثت أصحابها نتيجة حاسمة، وهذه المكونات هي:
1- دخول معترك الدفاع عن الإسلام.
2- اليقين بضلال الأطروحة المباينة مباينةً تامَّةً لحقائق القرآن.
3-خنوع داخلي خفي للأطروحة المباينة.
والنتيجة الحاسمة التي ينتهي إليها كثير من فضلاء المدافعين عن حمى الشريعة؛ هو شيءٌ من الصدود القلبي خارجٍ عن مدى الاستشعار عن بعض المعاني القرآنية اللاحبة، وشيءٌ من الإخلاد إلى مكانٍ بين الضفَّتين! فلا هم انتهوا إلى الانزلاق في وادي الباطل ولا همُ تشرفوا بالصعود لقمّة الحق السامِقة..، وقد عبّر عن هذه الحقيقة المتكررة عبر العصور أبو العباس ابن تيمية وأشار بدقَّة مبهرة إلى مكوناتها الثلاثة ونتيجتها الحاسمة في نصٍّ من عيون نصوصه، قال شيخ الإسلام:
(واعلم أنه لما حرَّف من حرَّف.. كثيرا من معاني القرآن؛ صارَ آخرون من المؤمنين الذين علموا بطلان ما ابتدعوه ينهونهم عما ابتدعوه.. وضعف أولئك المؤمنون عن تحقيق الإيمان بمعاني القرآن، إما في بواطنهم لما عارضوهم به من الشبهات، وإما في ظواهرهم لما قاموا به من المجادلات والمجالدات، وأخلد الفريقان إلى الطريقة الأمية المتضمنة الإعراض عن معاني كثير من القرآن، وصار ممن يرى هذه الفتن والافتراق يصد قلبه عن تدبر القرآن وفهمه) تأمل بديع عبارته وكيف يتحدث عن نتيجة كثيرٍ من المدافعين وكيف أخلدوا في سرائرهم إلى " الطريقة الأمية المتضمِّنة الإعراض عن كثير من المعاني القرآنية " السامية، وهي تلك المعاني التي أوقد تحتها خصوم الشريعة نيران التشكيك والتشغيب، واتخذوها ذريعةً للطعن في جوهر الرسالة، فوجدَ (المدافعون الاستسلاميون) -كما يعبِّرُ المعلمي- أنفسَهم تتنازعها جواذب شتى، فهم في حالةٍ من التردد بين الإقدام والإحجام؛ انتهت بهم إلى إعراض خفي منزوٍ في الضمير لا يكاد ينطق به اللسان ولا يفصح عنه القلم إلا في اليسير!
نعم.. فالتشغيب والتشويش على بعض المعاني الشرعية واتخاذها سُخريا من قِبَلِ خصوم الشريعة، وكذا تصادمها مع بعض الظروف السياسية المتقلبة، قادت بعض أهل العلم وحملة القرآن إلى شيءٍ من الإخلاد إلى تخفيض كمية الدلالة لمعاني الوحي العظيمة و " الإخلاد إلى الطريقة الأمية " كما صورها ابن تيمية!
إننا يجب أن نشكر جهود الدفاع عن الشريعة وأن نفرح بكلِّ جرَّةِ قلم في سبيل الذود عن حياضها، لكن ينبغي أن لاينسينا ذلك نقدَ النقد وتصحيحَ مشاريع الردود، ومصادرةَ الإجابات الخاطئة التي لا توصل إلى المطلوب، وإنما تساهم في نقلنا بين زوايا الغلط! فكثيرا ما ينسى المدافع نفسه ويذهل عن حقيقة كونه مجرد " ساعي بريد " يقتصر دوره على مجرد إيصال الرسالة تامة، فيمسي " سمسارا " يخفض ويزيد في السلعة وثمنِها ملتمسا رضا الزبائن! قال –أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء الإمام الحسن البصري- عن وظيفة المدافع الحقيقي عن الشريعة: (ينشر حكمة الله؛ فإن قُبِلت منه حمدَ الله، وإن ردَّت عليه حمدَ الله) وكما هي العادة؛ دوما ينسى المدافعون حقيقة دورهم فيتصرفون في تغيير سلعةٍ لا يملكونها؛ وربما امتدت أصابع ساعي البريد لطمس معالمَ في غاية الوضوح والبيان، فيروي الشيخ القرضاوي في مذكراته أنه التقى المفكر الإسلامي مالك بن نبي وأنه سأله: لمَ قرَّرَ في كتابه <الظاهرة القرآنية> أن فرعون لم يمت غرقًا ولكنه نجا ببدنه! فقال مالك بن نبي: (اخترت هذا الرأي لأنه يروق للمستشرقين وهو أقرب إلى ذهنيتهم، فأردت أن أكسبهم إلى جانبنا بذلك)!. تلك هي العقدة الأبدية للمدافع السمسار عبر العصور الذي يستشعر أن شيئا من الحق جدير بالإخفاء طبقًا لهوى المستهلك!
وحينما تكلم ألبرت حوراني عن جهود الشيخ محمد عبده في كتابه <الفكر العربي في عصر النهضة> أشار إشارةً مسددة إلى مستوى الضغط الذي يجده المدافع فيقترب دون شعورٍ إلى منطقة الخصم؛ قال حوراني: (كان الجدل من مقومات فكر عبده، غير أن الجدل له أخطاره، ففي الدفاع عن النفس قد يصبح المجادل أقرب إلى خصمه مما كان يظن) وهي التقاطة بارعة تحكي كثيرا من مشاريع الدفاع التي تُبنى قِبَلَ مَدافِعِ التشكيك.
نعم لا يُنكر أن كثيرا من مشاريع الدفاع الخاطئة ربما ساهمت في رد (باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلما مبتدعا) كما يسطر ابن تيمية، لكنه ذكر في موضع آخر خطورة المسالك الخاطئة وأنها ربما أضرَّت بأهل الحق (فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها، فاضطروهم إما إلى الموافقة على الباطل، وإما إلى التناقض الذي يظهر به فساد قولهم، وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم) وذكر محمد كرد علي أنه سمع الشيخ طاهر الجزائري يقول يوما عن أحد المتصدين للدفاع على غير سبيل صحيح إنه (فتح علينا أبوابا يصعب سدُّها!) وكلُّ هذه مساوئ تتعلق بإفحام الخصوم وسبل رد باطلهم، لكن -في نظري- أن الخسارة الكبرى من سلوكِ هذه الطرق المعوجَّة؛ ما تعلّق بنا نحن وبيقيننا وإيماننا، وما نتج عن الضغط الرهيب في استحضار تشويش الخصم وتشغيبه من ضمور المعاني القرآنية الشريفة في القلب، وذلك لأنها تزعج أقواما وتكدر عليهم لذائذهم أو تشوش على صورة الإسلام التي يفضِّلونها، فيحتوي أحدنا المصحف بيديه في المساء ويمرر فوق آيات محكمةٍ بصَره دون أن ندع معانيها الربانية تختلج في نفوسِنا المعتِمَة.. فنقع في " أمِّية المدافعين " ولو كنا صامتين لم نسطِّر في هذه التحريفات حرفا! أو نقع في ما هو أدهى منها وهي العبث بالسلعة لتوافق ميول المشتري، فنغدو محض سمسارين لا مبلِّغين!
مختارات