المحافظه على السنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
فمن الآيات التي صدر بها الإمام النووي -رحمه الله- باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها- قوله تبارك وتعالى:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65].
فالله -جل جلاله- يقسم هذا القسم بنفي الإيمان عنهم حتى يحكموا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما شجر بينهم، وذلك فيما وقع بينهم من الخلاف، ويجعلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكماً بينهم، ينفذ حكمه عليهم أعظم من نفوذ أحكام نفوسهم على نفوسهم، وهذا من مقتضى إتباعه -صلى الله عليه وسلم- وطاعته ومحبته، أن يكون عليه الصلاة والسلام هو المطاع وهو المقدم وهو الأولى بالإنسان من نفسه، كما قال الله -عز وجل- في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، ويدخل في ذلك ألوان من هذه الأولوية له -عليه الصلاة والسلام-، فهو أولى بالمحبة وأولى بالطاعة وأولى بالتقديم وأولى بالإجلال والإعظام، وحكمه عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم.
كل هذه المعاني داخلة في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن طلب التحاكم إلى غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد خاب وخسر وصار متحاكماً إلى الطاغوت.
والله -عز وجل- يكذب هؤلاء معبراً عن إيمانهم المدعى بأنه مزعوم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}[النساء:60-61].
فالمقصود أن هؤلاء الذين لا يتحاكمون إليه -صلى الله عليه وسلم- في حياته، ويرفضون التحاكم إلى شرعه وسنته بعد موته -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا من مقتضى تحكيمه كما في هذه الآية: {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ}: أي يحكموا شرعك وسنتك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، وليس ذلك فحسب، بل {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أي: لا يجدوا ضيقاً من حكمك ويسلموا من غير معارضة ولا تردد، وإنما ينقادون تمام الانقياد، فهذه حقيقة الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}[النساء:59]، إن تنازعتم في شيء: وشيء نكرة في سياق الشرط تعم، أي في أي شيء، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، فهذا هو النهج الصحيح لرفع الخلاف بين الناس، فإذا وقع بينهم إشكال أو خلاف فإنهم يرجعون إلى هذا الأصل الكبير، التحاكم إلى الشرع، التحاكم إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والشيطان قعد للناس في كل مرصد بكل طريق يصدهم على سبيل الله -عز وجل- والإنسان حينما يتفكر في ضلال من ضل يتعجب يقول: كيف افترقت هذه الأمة إلى هذه الفرق وعندهم كتاب الله -عز وجل- وعندهم سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
ولكن إذا نظرت وجدت أن هذه الطوائف قد وضع الشيطان لهم سدوداً تحول بينهم وبين طاعته -صلى الله عليه وسلم- والتحاكم إلى شرعه، فالرافضة مثلاً إذا قيل لهم: تحاكموا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لنعرف المحق من المبطل، قالوا: هذا القرآن محرف ولا يوثق به، وهذه السنة رواها صحابة كفرة ارتدوا على أعقابهم لم يبق إلا نفر قليل، فكيف نثق بها؟ ومن قال: إن الرسول هو الذي قالها؟ فهؤلاء كيف ترجع معهم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
تحتاج أن تثبت لهم أولاً أن القرآن غير محرف، وأن الصحابة لم يرتدوا، ثم بعد ذلك تطالبهم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة، وإذا سألتهم: ترجعون إلى ماذا؟ يقولون: عندنا أقوال الأئمة المعصومين.
جعلوا بشراً من غير الأنبياء لهم العصمة بأن لهم درجة ومرتبة تخضع لها جميع ذرات الكون، وأن كلامهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا أتيت إلى الصوفي وقلت له: نتحاكم معك إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال: أنتم تروون ميتاً عن ميت، حدثني فلان، حدثني فلان، حدثني فلان، ونحن نحدث عن الحي الذي لا يموت، يقول: حدثني قلبي عن ربي مباشرة، بالمواجيد والأذواق والإلهام الذي يدعون أن الله ألهمهم إياه، فهذا كيف ترجع معه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وإذا نظرت أصحاب النـزعة العقلية من المعتزلة من المعاصرين والقدامى وقلت لهم: نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فنعرف الحق.
قالوا: الكتاب والسنة ما لم يثبت بطريق التواتر فإنه لا يوثق به في العقائد، وما ثبت بطريق التواتر فهذا يحتمل أن يكون منسوخاً أو مقيداً أو مؤولاً أو مجملاً أو نحو ذلك، وإنما نرجع إلى الأصل الكبير الذي لا يحصل فيه هذا التفاوت وهو العقل، هو الذي يحكم في القطعيات!
نقول لهم: حتى هذا العقل يتفاوت الناس فيه، ولذلك اختلفتم على فرق كثيرة، فالمعتـزلة فرق يلعن بعضها بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، اختلفتم بالعقل، ولهذا جاءت طائفة فقالوا: حتى العقل لا يوثق بحكمه؛ لأنه يتفاوت، إذن: ماذا تريدون؟ قالوا: نرجع إلى الحس؛ الحس لا يخطئ، فجاءت طائفة فقالوا: حتى الحس يرى العصا في الماء منكسرة ويرى النجم من بعيد صغيراً، ويرى الإنسان على هيئة الشجرة من بعيد، حتى الحس، إذن: وماذا تريدون لا شرع ولا عقل ولا حس؟
ظهرت طوائف السفسطائية وأناس لم ينتفعوا ببعث الأنبياء أصلاً -عليهم الصلاة والسلام- وإذا قرأت في كتب بعض هؤلاء تقول: هؤلاء ما نظروا في الوحي، حتى إن بعضهم لما أراد أن يقرأ وهو من علماء المتكلمين، أراد أن يقرأ آية فتح المصحف وبدأ يقرأ في سورة الأعراف: المصّ، يريد قوله تعالى: {المص} [الأعراف:1]، عالم ما يعرف يقرأ: {المص}، يقرأ: المصّ هذا عالم، ما يعرف يقرأها!!
فهؤلاء أئمة الضلال، والله -عز وجل- يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء:59]، ما يرد إلى العقل، ولا إلى الذوق، ولا إلى المواجيد، ولا إلى أئمة تدعى لهم العصمة، يقول: قال العلماء معناه إلى الكتاب والسنة -هذا بعد موته -عليه الصلاة والسلام-.
وقال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء:80]؛ لأن ربه أمره بأن يأمر الناس، وأجرى ذلك على لسانه، وأوحاه إليه فطاعته من طاعة الله -عز وجل-.
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52-53]، تهدي أي هداية إرشاد ودلالة تدل الناس على الحق، وعلى الصواب في كل أمر من أمورهم، وذلك فيما يقيم لهم حياتهم الدنيا على وجه الكمال، وما يقيم لهم آخرتهم وتحصل لهم به النجاة.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}: الصراط هو الطريق الواسع الذي يسترق المارة، فصراط الله -عز وجل- صراط مستقيم، والسبل من جانبيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: “كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: (هذا سبيل الله)، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153][رواه ابن ماجه افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (11) (ج / ص 6)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (ج 1 / ص 7).].
وفي رواية عند ابن حبان من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً فقال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: (وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} إلى أخر الآية [صحيح ابن حبان (ج1 / ص 180) وقال شعيب الأنؤوط: إسناده حسن].
هؤلاء ليبرالية، وهؤلاء علمانية، وهؤلاء حداثة، وهؤلاء صوفية، وهؤلاء تيجانية، وهؤلاء رافضة، وهؤلاء معتزلة، وهكذا من الفرق القديمة والحديثة، فهذه السبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه.
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}: الأمر هنا مفرد مضاف إلى معرفة –الهاء- وذلك للعموم، فليحذر الذين يخالفون عن أوامره أن تصيبهم فتنة، والفتنة تفسر بمعان: الفتنة تأتي بمعنى الشرك، وتأتي بمعنى العذاب الذي يقع بهم سواء كان ذلك بالمحق والإهلاك، أو كان ذلك بما يحصل من تقليب قلوبهم وإزاغتهم وضرب قلوب بعضهم ببعض، كما قال -عز وجل-: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}[الأنفال:25]، لما قال –جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24-25].
فإذا رد الإنسان سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد يقلب قلبه -نسأل الله العافية- ويطمس عليه، وبعد ذلك لا ينتفع بوعظ واعظ ولا بآية، ولا بسنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يلقى الله -عز وجل- على شر حال.
ولقد سأل رجل الإمام مالك -رحمه الله- قال له: أريد أن أحرم من بيتي، أو من قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القبر، فقال: لا، إلا الميقات، فقال: وماذا علي إذا زدت، إنما هي مسافة يسيرة، يعني من قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ميقات المدينة في أبيار علي، في ذي الحليفة، فقال: إني أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة؟ قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، والمقصود بالحكمة هنا هي سنته -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن الله -عز وجل- وجه أمهات المؤمنين إلى القرار في البيوت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وجههن إلى هذا الاشتغال النافع في قعر البيوت، وهي التشاغل بكتاب الله -عز وجل- تلاوة وتدبراً وتفهماً وتعلماً، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كذلك بالعمل بها ومتابعتها، فتبقى المرأة في بيتها عاملة بطاعة الله -جل جلاله- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21].
هذا هو الذي أمرنا الله -عز وجل- به، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[المصدر: مقال: لم ينتفعوا ببعث الأنبياء-الشيخ/خالد بن عثمان السبت]
مختارات