في رحاب قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ)
الحليب
كأس الحليب الذي نشربه، أو طبق اللبن الذي نحتسيه، وما اشتق منهما من خيرات حسان، آيات بيَّنات دالَّة على عظمة الخالق وجلاله، وتربيته ورعايته وفضله وإنعام.. قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ [سورة النحل: 66].
فهذا الحليب يحتوي على نسب دقيقة وجليلة، من الماء والدسم والسكريات، والمواد المرممة، وأملاح المعادن، والفيتامينات، وعدد من الغازات المنحلة.. مَنْ حدَّد هذه المكوَّنات؟ ومن ضبط هذه النسب فيما بينها؟ ومن جعلها كذلك لتكون غذاءً كاملاً لبني البشر؟!.. أإله مع الله؟! بل أكثرهم لا يعلمون!.
ثم إن هذه البقرة، التي نأخذ منها الحليب، من خلقها؟ ومن خلق أجهزتها؟ ومن ذللها للإنسان؟ ومن جعل نتاجها من الحليب غذاء مناسباً لنا؟ لأنه يفوق بكميته حاجته وليدها.. ومن جعله اقتصادياً؟ لأنه يزيد بثمنه عن مصاريف العناية بها وإطعامها!!..
يذكر العلماء أن الغدة الثدييّة للبقرة، هي المعمل الحيوي، الذي يقوم بتكوين الحليب، وإفرازه، ويُعدُّ «السِنْخ» الوَحدة الوظيفية، لتصنيع الحليب، وهو مجموعة من الخلايا على شكل كرة مجوَّفة، محاطة بشبكة من الشعريات، الدموية التي تمُدّ السنخ بالمواد الأولية اللازمة لتصنيع الحليب،وتصنع هذه الخلايا قطرات الحليب من المواد الأولية التي تأخذها من الدم، ثم تطرحها في جوف السنخ، ليجتمع في قنوات تصب في ضرع البقرة.
هل تستطيع الخلايا غير العاقلة، وحدها، أن تختار المواد الأولية للحليب من دم البقرة، لتكون غذاء كاملاً للإنسان؟.. وهل تستطيع هذه الخلايا غير العاقلة، وحدها، أن تصنع من بين فرث ودم لبناً خالصاً، سائغاً للشاربين يحبه الصغار والكبار..؟.
يقول العلماء: إن طريقة عمل هذه الخلايا، وسرّ تصنيع الحليب، غير معروف كلياً حتى الآن.. علماً بأن الليتر الواحد من حليب البقرة المصنع في الغدد الثديية، يحتاج إلى أربعمئة ليتر من الدم، تجول في الشريات.
سبحان من سخر لنا هذه البقرة، لتكون معملاً عظيماً، لتصنيع الغذاء الأول للإنسان؟ خلقها، وسخرها، وذلَّلها لنا، نأكل من لحمها، ونشرب من لبنها، وننتفع بخدماتها..قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ71/36وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ72/36وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [سورة يس: 71 – 73].
* * *
حليب المرأة
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾ [سورة فصلت: 53]. لبن المرأة الذي يُعدُّ مُدْهشاً ومُبهراً عن تركيبه بخصائصه، قوى البشر، ولو اجتمعت، وأضخم المعامل ولو تضافرت، فتركيبه في تبّدل مستمرّ، بحسب حاجات الرضيع، ومتَطلباته، وبحسب احتمال أجهزته وأعضائه، وهو أكثر ملاءة، وأكثر احتمالاً، وهو آمن طرق التغذية، من حيثُ الطهارة، والتعقيم؛ إذ يؤخذ من الحُلْمة مباشرة، دون التعرُّض للتلوث الجرثومي، وحرارته ثابتة خلال الرضعة الواحدة ومتناسبة مع حرارة الرضيع، ويصعُب توافر هذه الشروط، في الإرضاع الصناعي، وفوق ذلك فهو لطيف الحرارة صيفاً، دافئ في الشتاء، وهو سهل الهضم فلا تتجاوز فترة هضمه، الساعة والنصف، بينما تزيد فترة هضم حليب القوارير، عن ثلاث ساعات.
والطفل الذي يرضع من ثدي أمه، يكتسب مناعة ضدّ كل الأمراض؛ لأن في حليب الأم كلّ مناعاتها، وفيه مواد مضادة للالتهابات المعوية،والتنفسية، وموادّ تمنع التصاق الجراثيم بجُدُر الأمعاء، ومواد حامضية لقتل الجراثيم، والإرضاع يقي الأم أورام الثدي الخبيثة، ويقي الرضيع الآفات القلبية والوعائية، وأمراض التغذية والاستقلاب.
بل إن الفطام السريع يُحدِث عند الطفل، رضاً نفسياً وانحرافات سلوكية، وهو – أي حليب الأم – سهل التحضير ليلاً ونهاراً، في السفر وفي الحضر، لأنه جاهز دائماً بالحرارة المطلوبة، والتعقيم المثالي، والسهولة في الهضم، والمناعة الشاملة.. قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ4/90أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ5/90يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا6/90أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ 7/90أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ8/90وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ9/90وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [سورة البلد: 4 – 10].
قال عكرمة وابن المسيب: النجدان هما الثديان.
مختارات