" التَّــودُّد "
" التَّــودُّد "
التَّرغيب في التَّودُّد:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- قال تعالى: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " [فصلت: 34].
قيل لابن عقيل: أسمع وصية الله عزَّ وجلَّ يقول: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " وأسمع النَّاس يعدُّون من يُظهر خلاف ما يبطن منافقًا، فكيف لي بطاعة الله تعالى، والتَّخلُّص من النِّفاق؟ فقال: النِّفاق هو: إظهار الجميل وإبطان القبيح، وإضمار الشَّر مع إظهار الخير لإيقاع الشَّر، والذي تضمنته الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن [غذاء الألباب فى شرح منظومة الآداب، للسفارينى].
- وقال تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " [الروم: 21].
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا " يعني: المرأة هي من الرَّجل، " لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا " أي: تستأنسوا بها، " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً " محبَّة، وَرَحْمَةً يعني: الولد [تفسير القرآن العزيز، لابن أبى زمنين].
وقال الطبري: وقوله: " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً " يقول: جعل بينكم بالمصاهرة والخُتُونة، مَوَدَّة تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، وَرَحْمَةً رحمكم بها، فعطف بعضكم بذلك على بعض " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " [جامع البيان للطبرى].
#### ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة:
- وعن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: (جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثَّانية فنهاه، ثم أتاه الثَّالثة، فقال: تزوَّجوا الوَدُود الولود؛ فإنِّي مكاثر بكم الأمم) [قال الألبانى فى صحيح أبى داود حسن صحيح].
الوَلُود: كثيرة الولد، والوَدُود: الموْدُودَة، لما هي عليه من حسن الخلق، والتَّوَدُّد إلى الزَّوج [نيل الأوطار، للشوكانى].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله ! إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأَحْلُم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ ولا يزال معك من الله ظهير (9) عليهم ما دمت على ذلك) [رواه مسلم].
فأيَّده النَّبي صلى الله عليه وسلم على تودُّدِه إليهم، وإن لم يجد منهم مقابلًا لما يقوم به، إلَّا الإساءة إليه.
أقوال السَّلف والعلماء في التَّودُّد:
- قال الحسن: (التَّقدير نصف الكسب، والتَّودُّد نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم) [البيان والتبيين، للجاحظ].
- وسئل الحسن عن حسن الخلق، فقال: (الكرم، والبذلة، والتَّودُّد إلى النَّاس) [الموشى، للوشاء].
- وعن ميمون بن مهران قال: (المروءة: طلاقة الوجه، والتَّودُّد إلى النَّاس، وقضاء الحوائج) [المروءة لابن الرزبان].
من فوائد التَّودُّد إلى النَّاس:
1- التَّودُّد طريق موصل للحبِّ والألفة، مما يقوي روابط التَّقارب بين الأفراد، ويزيد اللُّحمة بينهم.
2- التَّودُّد وتقوية العلاقات بين النَّاس أساس لبناء مجتمع قوي مبني على الولاء والتَّناصر والتَّعاضد والتَّعاون.
3- التَّودُّد للنَّاس، وكسب محبتهم وثقتهم مدعاة لتقبل ما يطرح عليهم من أفكار أو ما يُدعون إليه بجهد أقل وبسهولة ويسر، ففرق بين التَّقبل من البشوش اللَّين المحبوب، ومن القاسي العابس الممقوت.
#### أنواع التَّودُّد إلى النَّاس:
التودد نوعان:
1- تودد محمود: وهو ما كان ناشئًا من محبة معتدلة لأهل الخير والصلاح.
2- تودد مذموم: وهو التودد إلى الكفار والظالمين وفسقة الناس.
موانع اكتساب التَّودُّد إلى النَّاس:
1- الكبر والخيلاء فهما من الصِّفات المنافية للتَّودُّد.
2- العبوس في وجوه النَّاس، فهو مانع لكسب وُدِّهم.
3- الغلظة في الكلام، وفظاظة العبارات، وفحش الألفاظ.
4- الشُّحُّ والبخل، مدعاة لمقت صاحبها، وتتنافى مع التَّودُّد للخَلْق.
#### وسائل معينة على التَّودُّد إلى النَّاس:
1- حسن الخلق مع البشْر فهو مفتاح قلوبهم، والباعث على مَوَدَّة صاحبه، وممهد له في قلوب النَّاس مكانًا.
قال أبو حاتم: (حسن الخلق بَذْر اكتساب المحبَّة، كما أنَّ سوء الخلق بَذْر استجلاب البغْضَة، ومن حَسُن خلقه صان عرضه، ومن ساء خلقه هتك عرضه؛ لأنَّ سوء الخلق يورث الضَّغائن، والضَّغائن إذا تمكَّنت في القلوب أورثت العداوة، والعداوة إذا ظهرت من غير صاحب الدِّين، أهوت صاحبها إلى النَّار، إلا أن يتداركه المولى بتفضُّلٍ منه وعفو) [رروضة العقلاء].
2- التَّغافل عن الزلَّات، وعدم التَّوقف عند كلِّ خطأ أو كبوة يقع فيها الرَّفيق.
قال بعض الحكماء: (وجدت أكثر أمور الدُّنيا لا تجوز إلا بالتَّغافل) [أدب الدنيا والدين].
3- البشَاشَة وطلاقة الوجه، والتَّبسُّم في وجوه النَّاس، مما يقذف الوُدَّ في قلوب البَشَر لصاحبها.
4- الرِّفق ولين الجانب، والأخذ باليُسر والسُّهولة في معاملة النَّاس.
5 - تفريج كرب الإخوان، والوقوف إلى جانبهم في الملمَّات والأحزان، ومواساتهم والإحسان لهم.
فعن سليمان مولى عبد الصَّمد بن علي: أنَّ المنصور -أمير المؤمنين- قال لابنه المهدي: (اعلم أنَّ رضاء النَّاس غاية لا تُدرك، فتحبَّبْ إليهم بالإحسان جهدك، وتودَّد إليهم بالإفضال، واقصد بإفضالك موضع الحاجة منهم) [روضة العقلاء].
6- الزِّيارة والتَّواصل، والسُّؤال عن الإخوان، وتجنُّب الجفاء بين المتودِّد وبين من يطلب وُدَّه.
قال أديب: (الموَدَّة روح، والزِّيارة شخصها) [البصائر والذخائر].
#### نماذج من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم:
كان هذا الخُلَق واقعًا ملموسًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوَدَّد إلى أصحابه، ومن هم حوله، فمن ذلك:
- ما روته عائشة رضي الله عنها، من أنَّ رجلًا استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة. فلما جلس تطلَّق النَّبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرَّجل، قالت له عائشة: يا رسول الله ! حين رأيت الرَّجل، قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا؟ إنَّ شر النَّاس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه النَّاس اتقاء شرِّه) [رواه البخارى ومسلم].
قال ابن الجوزي: (هذا إنَّما فعله رسول الله على وجه المداراة، فسَنَّ ذلك لأمَّته، فيجوز أن يُستعمل مثل هذا في حق الشِّرِّير والظَّالم) [كشف المشكل من حديث الصحيحين].
وقال ابن بطال: (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للنَّاس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة وسلِّ السَّخيمة) [شرح صحيح البخارى].
- ومن ذلك توَدُّده صلى الله عليه وسلم لمن حوله، بتبسُّمه في وجوه أصحابه، ودعائه لهم، فعن جرير رضي الله عنه، قال: (ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي، ولقد شكوت إليه أنِّي لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال: اللهمَّ ثبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا) [رواه البخارى ومسلم].
- ومِنْ توَدُّده صلى الله عليه وسلم أنَّه (كان يمرُّ بالصِّبيان فيسلم عليهم) ([رواه البخارى ومسلم].
نماذج من حياة الصَّحابة رضي الله عنهم:
- عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: (كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدَّرداء: ونحن عنده، وفي رواية: أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر،فسلَّم وقال: يا رسول الله! إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثًا)، ثمَّ إنَّ عمر ندم على ما كان منه، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبا بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر؛ حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، وقال: يا رسول الله ! والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين)، فما أوذي بعدها) [رواه البخارى].ففي الحديث، السعي إلى استجلاب الوُدِّ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلبه لإزالة الشَّحناء من قلب عمر تجاهه، رضوان الله عليهم أجمعين.
#### نماذج من العلماء والسَّلف:
- ابن قيِّم الجوزيَّة، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر:
قال ابن كثير في ترجمته: (وكان حَسن القراءة والخُلُق، كثير التَّوَدُّد، لا يحسد أحدًا، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد) [البداية والنهاية].
- ابن مالك، إمام العربية، أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الطَّائي الجياني:
قيل في ترجمته: (وتقدَّم وساد في علم النَّحو والقراءات، ورَبَا على كثير ممَّن تقدَّمه في هذا الشَّأن، مع الدِّين والصِّدق، وحسن السَّمت، وكثرة النَّوافل، وكمال العقل والوقار، والـتَّوَدُّد، وانتفع به الطلبة) [مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعى].
- القاضي علاء الدين أبو الحسن علي التَّنوخي الدمشقي الحنبلي:
قيل في ترجمته: (كان رجلًا وافر العقل، حَسن الخلق، كثير التَّوَدُّد) [العبر فى خبر من غبر، للذهبى].
- القاضي محمد بن إبراهيم بن إسحاق السلمي المناوي، ثم القاهري:
قيل في ترجمته: (كان كثير التَّودُّد إلى النَّاس، مُعَظَّمًا عند الخاص والعام، ومُحَبَّبًا إليهم) [إنباء الغمر بأبناء العمر،لابن حجر].
#### أقوالٌ وأمثالٌ في التَّودُّد:
- قيل لعبد الملك بن مروان: (ما أفدت في ملكك هذا؟ قال: مَوَدَّة الرِّجال) [أدب الدنيا والدين].
- وقال بعض الحكماء: (من علامة الإقبال اصطناع الرِّجال) [أدب الدنيا والدين].
- وقال بعض البلغاء: (من استصلح عدوه، زاد في عدده، ومن استفسد صديقه، نقص من عدده) [أدب الدنيا والدين].
- وروي عن لُقْمان أنَّه قال لابنه: (يا بنيَّ تَوَدَّدْ إلى النَّاس، فإنَّ التَّوَدُّد إليهم أمنٌ، ومعاداتهم خوفٌ) [نثر الدر فى المحاضرات،للآبى].
- وقال المنصور: (إذا أحببت المحمدة من النَّاس بلا مؤونة، فالْقَهم ببِشْر حَسَن) [الموشى= الظرف والظرفاء، للوشاء].
- وقال بعض الظُّرفاء عن الظُّرف: (التَّوَدُّد إلى الإخوان، وكفُّ الأذى عن الجيران) [الموشى= الظرف والظرفاء، للوشاء].
- وقال أبو شروان لوزيره بزرجمهر: (ما الشيء الذي يعز به السُّلطان؟ قال الطَّاعة، قال: فما سبب الطَّاعة، قال التَّوَدُّد إلى الخاصَّة والعامَّة) [مفيد العلوم ومبيد الهموم، للخوارزمى].
- ويقال: (الأناة حُسْنٌ، والتَّودُّد يُمْنٌ) [لباب الآداب، لأسامة بن منقذ].
مختارات