فقه الورع
قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)} [الحشر: ٧].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (١).
الورع: ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، من كل ما يخاف ضرره في الآخرة.
والورع على وجهين:
ورع في الظاهر.
وورع في الباطن.
فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه.
والورع أول الزهد، بأن يتورع عن كل ما سوى الله، ويتوقى الحرام والشبه وما يخاف ضرره، حذراً وخوفاً من ربه.
والورع على ثلاث درجات:
الأولى: تجنب القبائح، وذلك بصون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويزري بها عند الله عزَّ وجلَّ، وعند ملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه.
ومن كرمت عليه نفسه صانها وحماها عن الرذائل والقبائح، ومن هانت عليه نفسه ألقاها في الرذائل وأطلق زمامها في القبائح.
وكذلك يوفر زمانه على اكتساب الحسنات، فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها.
وكذلك يصون إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
فالقبائح تسود القلب، وتطفئ نوره، والإيمان نور في القلب، والحسنات تزيد نور القلب، والسيئات تطفئ نور القلب وتقسيه.
فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء.
الثانية: حفظ الحدود، وذلك بترك كثير مما لا بأس به من المباح إبقاءً على صيانته، وخوفاً عليها أن يتكدر صفوها، ويذهب بهجتها.
فالأول يسعى في تحصيل الصيانة، وهذا يسعى في حفظ صفوها أن ينكدر، ونورها أن يطفأ بالتشمير للمراتب العالية، والترفع عن الدناءة.
وكذلك لا يقتحم الحدود، فالحدود هي النهايات، وهي مقاطع الحلال والحرام، فمن اقتحم ذلك وقع في المعصية، وقد نهى الله عن تعدي حدوده وقربانها، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه، وهو اقتحام الحدود.
الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت وإضاعته، فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه، ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه، ومن لم يكن عمله لله فلا بدَّ أن يعمل لغيره.
وهذا الورع يقتضي التورع عن كل حظ يزاحم مراد الله منك.
وملاك ذلك كله:
أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن وآياته وتدبرها، وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، والعمل بموجب ذلك، فهذه طريقة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى.
ومراتب الورع ثلاث:
الأولى: واجبة، وهي الإحجام عن المحرمات.
الثانية: مندوبة، وهي البعد عن الشبهات.
الثالثة: فضيلة، وهي الكف عن كثير من المباحات، والاقتصار على أقل الضرورات.
وللورع مظاهر متعددة تختلف باختلاف أعضاء الإنسان ومصالحه:
فمنها الورع في النظر.
والورع في السمع.
والورع في الشم.
والورع في اللسان.
والورع في البطش.
والورع في الأكل.
والورع في البطن.
والورع في الفرج.
والورع في البيع والشراء.
وملاك الدين الورع.
وآفتة الطمع، والورع من أعلى مراتب الإيمان، وأفضل درجات الإحسان.
وتمام الورع أن يعلم العبد خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فمن لم يعلم ذلك فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع.
وملاك الدين الورع، وآفتة الطمع، وزينة العلم الورع، والحلم، والتوكل.
وأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، والخوف من المعصية خوف الصالحين.
وكل من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، ولا يمكن أن يصل العبد إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته، والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر.
فمن عرف الله تعالى عرف أنه فعال يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويحكم ما يريد ولا يخاف.
ومن أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة وكمال الورع، والمؤمن إذا عرف ربه أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وتورع عن كل ما لا يرضيه.
(١) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (٥٢) واللفظ له، ومسلم برقم (١٥٩٩).
مختارات