" قضية الغنى والفقر من منظور سلفي "
" قضية الغنى والفقر من منظور سلفي "
إخوتاه..
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن الله تعالى قضية " الفقر والغنى " ونتساءل عن المطلوب من أهل الإيمان في عصرنا فهل معنى ما ذكرنا أنَّ الغنى شر كله وأن الفقر أصلح وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا؟!!
بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر ؛ وقد أعطى الله نبييه داود وسليمان الملك والغنى، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من المبشرين العشرة بالجنة، ناهيك عن ابن المبارك وغيره من سلفنا الصالح.
وقد كتب ابن القيم ـ رحمه الله ـ جزءًا كبيراً في كتابه الماتع " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة، وبين كثر ة النزاع فيها بين الأغنياء والفقراء، واحتجاج كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ؛ وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة، بأنَّه ليس لأحدهما على الأخرى فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل، فإن استويا فى ذلك استويا فى الفضيلة ….. لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى وقد قال تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما " وقد كان فى الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع، كما فى الحديث الذى رواه البغوى وغيره عن النبى فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إنِّي أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ".
وقد صح عن النبي أنه قال: " إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء "
وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الأغنياء، فقالوا مثل ما قالوا، فذكر ذلك الفقراء للنبي فقال: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".
فالفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ـ ومنهم عكاشه بن محصن ـ قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم في الدرجات، لكن أولئك استراحوا من تعب الحساب.
نخلص من هذا أنَّ العبرة ليست بالفقر ولا بالغنى، فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى، فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين، فالمهم هو " الرضا " عن الله، وعدم التسخط عند المنع وعدم البطر عن العطية.
قال الحرالي: من كان رضاه من الدنيا سد جوعته، وستر عورته، لم يكن عليه خوف ولا حزن في الدنيا ولا في الآخرة، سواء جعله اللّه فقيراً أو غنياً أو ذا كفاف إذا اطمأن قلبه على الرضى ببلغتها.
فعجبًا لحال المؤمن حقًا فهو إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، فهو بين مطالعة الجناية ومشاهدة المنة يصبر ويشكر، ويوقن بأنَّ الله أعلم بحاله منه، " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ".
فإذا وجدت الله يرزق هذا ويمنع عن ذلك فتذكر قول الله تعالى: " أليس الله بأعلم بالشاكرين "، وتذكر قول الله تعالى: " وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " واعلم أن خزائن الله لا تنفد، وهو المعطي المانع فليتعلق قلبك به، ودع عنك زخرف الحياة الدنيا فإنما هي أوهام، والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءًا حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه.
إخوتاه..
إذا كان الأمر كذلك، فعليك بالرضا فإنه ملاك الأمر، وعليك أن تحسن النظر إلى الأمور فتقيسها بمقياس أهل الإيمان، ولا تعر اهتمامًا لما دون ذلك، فالفقير يفرح بأنَّه أخف الناس حسابًا، وأنَّ الله اختار ذلك الحال لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة، فلا يقنط ولا ييأس، ويعلم أنَّ الأمر صبر ساعة، ولا ينظر بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا لأنه فهم عن الله أنَّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية العيش، لا بل العلو بالتقوى وكثرة الطاعات والقرب من الله تعالى، فهؤلاء هم أهل غبطته.
أمَّا الغني فيخشى أنْ تكون زيادة النعم استدراجًا، قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب و هو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج " [صححه الألباني في صحيح الجامع].
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفِّ شكر النعم التي بمحض فضل الله تعالى رزقها
" لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد " فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه، فيعطي حق المال من زكاة وصدقة ونفقة في سبيل الله تعالى، فلا يعرف الترف بابه وإن ملك الملايين، لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟!!
إخوتاه..
ولعل كثيرًا منكم يقول: إنَّ هذا لا يدري عن واقع الناس اليوم شيئًا وإنَّه يحدثنا بما يصلح لعصور السلف، فكيف بالله في ظل كل هذه المغريات والفتن المتلاحقات أن يسير الأمر هكذا.
وإني ناصحك نصيحة حريص مشفق عليك، فإنَّي لأعلم مدى الخطر الذي يداهم المسلمون الآن، ومدى الفتن التي يواجهونها، وحجم المغريات التي توضع في طريقهم فتتخطف السواد الأعظم منهم ولكن..
القضية أولاً قضية يقين بالله تعالى، قضية إيمان واعتقاد، فأي محك آخر نحتكم إليه فهو خداع وشراك، وأنت حين تنظر إلى الأمور بهذه الطريقة لنتقول مثلما تقول الآن، حين تفرغ قلبك من حب الدنيا وتخرج قليلًا خارج أسوارها فترى بعين الإيمان الأمور فستذكر ما أقول لك، ومن هنا يبدأ العلاج.
مختارات