طريقة القرآن في عرض العقيدة
لقد دعا القرآن الكريم الإنسان إلى الإيمان بالله والحياة الأخرى التي فيها نتائج المسؤولية والجزاء والحساب. ولكن القرآن حين خاطب الإنسان ودعاه إلى هذا الإيمان انطلق به من الكون الذي يعيش به ومن نفسه فقال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) } فصلت.
ولذلك تكرر في القرآن الكلام عن الإنسان وعن الكون على أنهما طريق للوصول إلى ما وراءهما.
أولاً ـ الكون في القرآن
لقد تكرر الكلام عن آفاق الكون ومشاهده الطبيعية في القرآن بحيث يشمل الأرض كلها ثم يتجاوزها إلى النجوم والكواكب وإلى الشمس والقمر. فالقرآن يأخذ بيدنا ليطوف بنا في أرجاء الكون وينطلق بنا ابتداء من هذه الأرض التي نعيش فوق ظهرها وما عليها من جبال وما يتخللها من أنهار وبحار وما يهطل عليها من أمطار وينبت فيها من زرع ونبات. ثم يصعد بنا إلى ما فوق الأرض من أفلاك وما يجري فوقها من حوادث ذات صلة بهذه الأفلاك.
فقال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11)وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12) } النحل
والكون كما يعرضه القرآن تجري على مسرحه حوادث ويجري فيه تبدل وتغيير وتنتقل حوادثه من طور إلى طور والآيات القرآنية تشير إلى ذلك بوضوح.
فقال الله تعالى: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) } الحج
وقال في آية أخرى: { ألم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } النور 43
(يزجي: أي يسوق). (يؤلف بينه: أي يجمع بينه). (الودق: أي المطر).
وحوادث الكون كما يشير القرآن مرتبط بعضها ببعض بانتظام يدل على أنها تتبع سنن مطردة في حركتها.
فقال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37)وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40) } يس~
(نسلخ: أي ننزع).(قدرناه: جعلناه).
فهذا هو الكون كما وصفه القرآن بآفاقه الواسعة بانتظامه وأقسامه المتعددة وحركته الدائبة وحوادثه المتكررة التي تكرر عرضها في أكثر سوره عرضاً متنوعا ً يدعو الإنسان إلى النظر والتأمل فيها والتفكر في مجرى حوادثها ليكون هذا الكون منطلقاً وطريقاً للوصول إلى الله تعالى خالق هذا الكون ومدبره.
وفي هذه الآيات يصور لنا القرآن انتقال الإنسان في التفكير من طور إلى طور ومن جزء من أجزاء الطبيعة إلى جزء آخر يظن فيه الألوهية إلى أن يصل الإنسان إلى أن الطبيعة بكل أجزاءها مخلوقة لا خالقة.
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75) } الأنعام
واليقين هنا جاء بعد تجربة وتأمل وتفكر. فقال تعالى: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76)فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78) } الأنعام
(جَنَّ: أي ستره بظلامه)، (أفل: أي غاب)، (بازغاً: أي طالعاً).
إلى هنا يأس إبراهيم عليه السلام من اتخاذ أي شيء من الطبيعة إلهاً لأن كل جزء منها زائل فإذا كان هذا الإله زائل فمن الذي يرعى هذا الكون من بعده وكيف يبقى المخلوق ويذهب الخالق؟!
لذلك يصل إبراهيم إلى النتيجة التي يعلنها بعد تأمل وتفكر فيقول القرآن على لسانه: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(79) } الأنعام
فيعلن إبراهيم إيمانه بالله عز وجل بعد يقينه بأن الله هو الخالق لهذا الكون وأنه هو الإله الذي حُقَّ له أن يُعبد.
ثانياً ـ الإنسان في القرآن
ما هو موقع الإنسان في هذا الكون والوجود وما صلته بالكون وما صلته بالله خالق هذا الكون؟
الإنسان في نظر الإسلام هو أحد هذه المخلوقات الكونية التي أسكنها الله هذه الأرض يشاركها الكثير من صفاتها وينفرد هو بصفات خاصة به.
فالإنسان يشارك التراب في أصل خلقته وعناصر تركيبه وتكوينه فقال تعالى:
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } فاطر 11
ويتصل الإنسان بالنبات ويشاركه في نموه وفي الكثير من مواد تركيبه قال تعالى: { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17) } نوح
وغذاؤه من النبات ومما يتغذى النبات.
ويشارك الإنسان الحيوان في كثير من صفاته وغرائزه فقال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } الأنعام 38
وينفرد الإنسان بعدة أمور قد ميزه الله بها عن غيره من المخلوقات وهي:
أولاً ـ استواء الخلق
فالله تعالى اختص الإنسان بقامة مستقيمة وخلق سوي فقال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) } التين
ثانياً ـ نمو الحواس و التمكن من التعلم
وقد ميز الله الإنسان بإمكان نمو الحواس نمواً يعين على تكوين خاصة العقل والتفكير فقال تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78) } النحل
وخاصة التفكير والعقل تمكنه من العلم أي إدراك الحقائق الخارجية. ومعنى الآية أن عدم العلم في حال الولادة يتحول إلى علم بوساطة (السمع والأبصار والأفئدة) وهذا خلافاً للحيوان الذي لا تنمو حواسه نمواً يؤدي إلى العلم ولهذا وصف القرآن الإنسان في مكان آخر بالعلم وذلك في أول ما نزل من القرآن فقال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) } العلق
ثالثاً ـ القدرة على التعبير
ومن المزايا التي أكرم الله بها الإنسان كونه قادراً على التعبير عن علمه وأفكاره وذلك في قوله تعالى: { الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) } الرحمن
أي مفصحاً عما في نفسه.
رابعاً ـ السمو الروحي
وتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بما فيه من سمو ونفحة روحية وهبه الله إياها فقال تعالى: { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7) جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(9) } السجدة
خامساً ـ التكليف
وبناء على وجود العقل والروح لدى الإنسان جُعل مكلفاً وكانت حياته اختباراً وابتلاء فقال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2) } الإنسان
(أمشاج: أي أخلاط)
من هنا كان الإنسان الطبيعي السوي هو ذاك الذي تنمو فيه كل عناصر تكوينه: من تركيبه وغذائه إلى غرائزه إلى حواسه وعقله إلى روحه السامية فلا يطغى جانب على جانب على أن تكون هذه العناصر مرتبة بترتيبها المتصاعد من الترابية فالحيوانية فالعقلية فالروحية وذلك هو الإنسان الكامل وهو الذي تكمل فيه هذه الجوانب كلها ولكن الترابية فيه تكون خادمة للغريزية وغريزته خادمة لعقله وعقله خادم لروحه وعلى هذه النظرة يبني الإسلام نظامه الأخلاقي والتربوي. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن أحد أصحابه أنه يفرط في العبادة ويشدد على نفسه في حرمانها من متعة الجسم ونحوه فينهاه عن ذلك فيقول له: (فلا تفعل... فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا)
********************
* أهم المصادر والمراجع:
ـ صحيح البخاري: للإمام محمد بن اسماعيل البخاري.
ـ الجواهر الكلامية في العقيدة الإسلامية: لطاهر الجزائري.
ـ نظام الإسلام: للدكتور مصطفى البغا.
ـ النفس بين العلم والدين: للدكتور محي الدين ميقري.
مختارات