" من أشراط السَّاعة الصغرى "
" من أشراط السَّاعة الصغرى "
أشراط السَّاعة الصغرى:
أشراط السَّاعة الصغرى التي ذكرها العلماء كثيرة جدًا، وقد ذكرت هنا منها ما ثبت بالسنة أنه من أشراط السَّاعة الصغرى، وتركت ما لم يثبت – في حدود علمي القاصر- وذلك بعد النظر في هذه الأحاديث، ومعرفة كلام العلماء عليها؛ من حيث الصحة والضعف، أو قد يكون هناك من الأشراط ما هو ثابت، ولم أطلع على حديث ثابت فيه،وقد سردتُ هذه الأشراط بدون ترتيب؛ لأنني لم أطلع على حديث أو أحاديث تنص على ترتيبها، ذكرت أولًا ما نص العلماء على أنه ظهر وانتهى، ثم تحريت في ذكري لباقي الأشراط بتقديم ما تقتضي الحوادث تقديمه على غيره، فمثلًا؛ ظهور الفتن مقدم على قبض العلم؛ لأن الفتن ظهرت في عصر الصحابة، وقدمت قتال الروم على فتح القسطنطينية؛ لأن الخبر جاء بذلك، وجعلت فتح القسطنطينية مقدمًاُ على قتال اليهود في زمن عيسى عليه السلام ؛ لأن فتحها قبل ظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام يكون بعد ظهور الدجال، وهكذا.... وبعض الأشراط يقتضي ذكره في الأخير؛ لأنه لا يظهر إلا بعد الأشراط الكبرى؛ مثل هدم الكعبة على يدي الحبشة، وظهور الريح التي تقبض أرواح المؤمنين.
ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرًا من أشراط السَّاعة قد ظهرت مباديها من عهد الصحابة رضى الله عنهم، وهي في ازدياد، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يعقبه قيام السَّاعة هو استحكام ذلك، فيكون مثلًا قبض العلم لا يقابله غلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أهل الجهل، وقس عليه غيره من أشراط السَّاعة (انظر: فتح الباري).
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضًا أن بعض الناس يفهم من كون الشيءمن أشراط السَّاعة أنه محذورٌ وممنوعٌ، وهذه القاعدة غير مسلَّمة؛ فإنه ليس كل ما أخبر ﷺ بكونه من علامات السَّاعة يكون محرمًا أو مذمومًا، فإن تطاوُلَ الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهنَّ قيِّمٌ واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشر، والمباح، والمحرَّم، والواجب، وغيره، والله أعلم (شرح النووي لمسلم).
والآن حان الشروع في ذكر أشراط السَّاعة الصغرى، وهي كما يلي:
1- بعثة النبي صلى الله عليه وسلم:
أخبر صلى الله عليه وسلم أن بعثته دليل على قرب قيام السَّاعة، وأنه نبي السَّاعة: ففي الحديث عن سهل رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والسَّاعة كهاتين " ويشير بإصبعيه فيمدهما (صحيح البخاري).
وعن أنس رضى الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والسَّاعة كهاتين " قال: وضم السبابة والوسطى (صحيح مسلم).
وعن قيس بن أبي حازم عن أبي جُبيرة موفوعًا: " بعثت في نسم (قال ابن الأثير: " وهو من النسيم، أول هبوب الريح الضعيفة؛ أي: بعثت في أول أشراط الساعة، وضعف مجيئها. وقيل: هو جمع نسمة؛ أي: بعثت في ذوي أرواح خلقهم الله تعالى قبل اقتراب الساعة؛ كأنه قال: في آخر النشء في بني آدم ". " النهاية في غريب الحديث) السَّاعة (رواه الدولابي في " الكنى،وابن منده في المعرفة. قال الألباني: " صحيح).
فأول أشراط السَّاعة بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الأخير، فلا يليه نبي آخر، وإنما تليه القيامة كما يلي السبابة والوسطى، وليس بينهما إصبع أخرى، أو كما يفضل إحداهما الأخرى (انظر: " التذكرة، وفتح الباري) ويدلُّ على ذلك رواية الترمذي: " بعثت أنا والسَّاعة كهاتين – وأشار أبو داود بالسبابة والوسطى – فما فضل إحداهما على الأخرى " (جامع الترمذي وقال: " هذا حديث حسن صحيح) وفي رواية مسلم: " قال شعبةُ: وسمعت قتادة يقول في قصصه: " كفضل إحداهما على الأخرى ". فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة " (صحيح مسلم).
قال القرطبي: " أولها النبي صلى الله عليه وسلم: لأنه نبي آخر الزمان، وقد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي " (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة).
قال تعالى: " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ " [الأحزاب: 40].
2- موت النبي صلى الله عليه وسلم:
من أشراط السَّاعة موتُ النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عن عوف بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعدد ستًا بين يدي السَّاعة: موتي... " (صحيح البخاري) الحديث.
فقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين، فقد أظلمت الدُّنيا في عيون الصحابة رضى الله عنهم عندما مات عليه الصلاة والسلام.
قال أنس بن مالك رضى الله عنه: " لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه؛ أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي – وإنا لفي دفنه – حتى أنكرنا قلوبنا " (جامع الترمذي، وقال الترمذي: " هذا حديث صحيح غريب).
قال ابن حجر: " يريد أنهم وجدوها تغيرت عما عهدوه في حياته من الألفة، والصفاء، والرق؛ لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب " (فتح الباري).
فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء؛ كما في جواب أم أيمن لأبي بكر وعمر رضى الله عنهم عندما زاراها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهيا إليها؛ بكت، فقالا لها: " ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، فقلت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها " (صحيح مسلم).
فقد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت الناس: لأن الله تعالى لم يكتب الخلود في هذه الحياة الدُّنيا لأحد من الخلق، بل هي دار ممر لا دار مقر؛ كما قال تعالى: " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) " [الأنبياء: 34- 35].
إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن الموت حق، وأن كل نفس ذائقة الموت، حتى ولو كان سيد الخلق وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان موته كما قال القرطبي: " أول أمر دهم الإسلام... ثم بعده موت عمر، فبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب، وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير، وأول نقصانه.
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه:
فَلتَحدُثَنَّ حَوَادثٌ مِن بعدِه تُعنَى بِهِنَّ جَوانح وصُدُور
وقالت صفيَّة بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
لعمركَ ما أبكِي النَّبِي لفَقدِه ولكِنَّ مَا أَخشَى من الهَرجِ(هو القتل) آتِيا (التذكرة " للقرطبي، بتصرف بسيط)
3- فتح بيت المقدس:
ومن أشراط السَّاعة فتح بيت المقدس، فقد جاء في حديث عوف بن مالك رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعدد ستًا بين يدي السَّاعة... (فذكر منها:) فتح بيت المقدس " (رواه البخاري).
ففي عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه تم فتح بيت المقدس سنة ست عشرة من الهجرة؛ كما ذهب إلى ذلك أئمة السير، فقد ذهب عمر رضى الله عنه بنفسه، وصالح أهلها، وفتحها، وطهرها من اليهود والنصارى، وبنى بها مسجدًا في قبلة بيت المقدس (انظر: " البداية والنهاية).
وروى الإمام أحمد من طريق عبيد بن آدم قال: " سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني؛ صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة، فصلى، ثم جاء، فبسط رداءه، فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس " (مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، وقال: " إسناده حسن).
4- طاعون عمواس (بلدة في فلسطين، على ستة أميال من الرملة، على طريق بيت المقدس.انظر: " معجم البلدان).
جاء في حديث عوف بن مالك السابق قوله صلى الله عليه وسلم: " اعدد ستًا بين يدي السَّاعة:.... (فذكر منها:) ثم موتان (موتان) بضم الميم وسكون الواو: هو الموت الكثير الوقوع.انظر: " فتح الباري) يأخذ فيكم كقعاص ((قعاص)؛ بالضم، ويقال فيه: عقاس؛ بضم العين المهملة، وتخفيف القاف، وآخره مهملة: داء يأخذ الدواب، فيسيل من أنوفها شيء، فتموت فجأة.انظر: النهاية في غريب الحديث، وفتح الباري) الغنم (رواه البخاري).
قال ابن حجر: يقال: إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافه عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس (فتح الباري).
ففي سنة ثمان عشرة للهجرة على المشهور الذي عليه الجمهور (انظر: " البداية والنهاية ) وقع طاعون في كورة عمواس، ثم انتشر في أرض الشام، فمات فيه خلق كثير من الصحابة رضى الله عنهم ومن غيرهم؛ قيل: بلغ عدد من مات فيه خمسة وعشرون ألفًا من المسلمين، ومات فيه من المشهورين: أبو عبيدة عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة، رضى الله عنه (انظر: " معجم البلدان والبداية والنهاية).
5- استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة:
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم السَّاعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه " (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
عن أبي موسى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه " (صحيح مسلم).
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى سيعطي هذه الأمة، ويفتح عليها من كنوز الأرض، وأن ملك أمته سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ففي الحديث عن ثوبان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى ((زوي): يقال: زويته أزوية زيًا؛ أي: جمعته، والمعنى أن الله جمع له صلى الله عليه وسلم الأرض، وقربها حتى رأى مشارقها ومغاربها.انظر: " النهاية في غريب الحديث) لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض " (صحيح مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: " وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض " (صحيح مسلم).
وعن عدي بن حاتم رضى الله عنه قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال: " يا عدي ! هل رأيت الحيرة؟ " قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله " قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار ((دعار): مفرده داعر: وهو الخبيث المفسد، والمراد بهم هنا قطاع الطريق.انظر: " النهاية في غريب الحديث) طيئ الذين قد سعروا البلاد؟! " ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى " قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: " كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة؛ يطلب من يقبله منه؛ فلا يجد أحدًا يقبله منه... ".
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالتا بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه (صحيح البخاري).
فقد تحقق كثير مما أخبرنا به الصادق صلى الله عليه وسلم، فكثر المال في عهد الصحابة رضى الله عنهم بسبب ما وقع من الفتوح، واقتسموا أموال الفرس والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فكان الرجل يعرض المال للصدقة، فلا يجد من يقبله.
وسيكثر المال في آخر الزمان، حتى يعرض الرجل ماله، فيقول الذي يعرض عليه: لا إرب لي ربه.
وهذا – والله أعلم – إشارة إلى ما سيقع في زمن المهدي وعيسى صلى الله عليه وسلم (فتح الباري) من كثرة الأموال، وإخراج الأرض لبركتها وكنوزها.
ففي الحديث عن أبي هريرة رضى الله عنه ق ال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة " قال: " فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعون ه فلا يأخذون منه شيئًا " (صحيح مسلم).
وذكر ابن حجر أنه يحتمل أن يكون استغناء الناس عن المال وتركهم له وقت خروج النار واشتغال الناس بأمر الحشر، فلا يلتفت أحد حينئذ إلى المال، بل يقصد أن يتخفف ما استطاع.
وما ذكره ابن حجر من استغناء الناس عن المال لاشتغالهم بأمر الحشر لا ينافي أن يكون لاستغنائهم سبب آخر، وهو كثرة المال؛ كما يحصل في زمن المهدي وعيسى عليه السلام، وبذلك يكون الاستغناء يقع في زمنين - وإن تباعدا – بسببين مختلفين، والله أعلم.
مختارات