التمادح والقروض الثقيلة...
عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ»
رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
أي مدح كل من الرجلين الآخر، ومدح الآخر له.
التمادح بلاء اجتماعي وعبء ثقيل في علاقات الناس يخرجهم من العفوية والصدق ويعود نفوسهم على الإطراء والثناء وما أصدق قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين سماه التقارض فقال: لشدما تقارضتما الثناء.
وهذه الدوامة تبدأ حين يمدحنا أحدهم فنشعر بقرض يثقل كواهلنا ونستعد لقضاء المدح بمدح مثله أو أكثر منه.
ثم نسدد القرض وننقل الهم والعبء إليه فيسارع إلى مضاعفة الثناء علينا بما يضطره للمبالغة والكذب في متوالية لا تنتهي كلما طالت زادت زيفا وهراء.
وتتحول مجالسنا إلى عاصفة من الوهم والأكاذيب فلا أحد يقول ما يعتقده لكننا نتلذذ بالزيف والخداع.
قال المناوي:
(وسماه ذبحا لأنه يميت القلب فيخرج من دينه وفيه ذبح للممدوح فإنه يغره بأحواله ويغريه بالعجب والكبر ويرى نفسه أهلا للمدحة سيما إذا كان من أبناء الدنيا أصحاب النفوس وعبيد الهوى وفي رواية فإنه من الذبح وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور)
وقد انتقل هذا البلاء للبيئات العلمية فلا صوت يعلو فوق صوت المديح والإطراء والغلو فيه فهذا مدح كتابي ولا بد أن أكافئه بالثناء المضاعف على كتابه ولو كان لا يساوي فلسا ولكني مثقل بالقرض والمجاملة. وهذا غرد مثنيا على بحثي وحان وقت السداد وهذا قال شعرا لأول مرة ولا بد لي من إلحاقه بالمتنبي وإلا فقد أخسر علاقتي به.
وهكذا يواصل المخدوعون طريقهم في زفة التغرير.
وهو مأزق حقيقي ترسخ بمرور الأيام حتى أصبحنا نشعر بحساسية شديدة ليس من النقد بل من نقص المدح فقد اعتاشت نفوسنا على سماع الإطراء المتلاحق المبالغ فيه من أحبتنا.
ونرى ألا بد من إيداع مدح كاف في حسابات الآخرين حتى يتمكنوا من تسديده لنا مع أسعار الفائدة.
والمصيبة أن هناك من يرى هذا الكذب علامة على حسن الخلق واللطف وبعضهم سمعته صريحا يقول أغدق المدح والثناء لن تخسر شيئا ولو كان لا يستحق وجعله من جبر الخواطر.
كيف غدا الكذب الصراح من حسن الخلق؟
ومع مواقع التواصل استشرت العدوى وأصبحنا في وهم جماعي كبير نستبق للبحث عن أكثر أدوات المدح غلوا ومبالغة نظما وشعرا
ولو أننا استبدلنا المدح بالدعاء والتعبير عن المحبة والمودة والاقتصار على الصدق وتحريه وتوقفنا عن حقن أنفسنا والآخرين بالوهم والزيف لكان خير لنا ولغيرنا
وعند الترمذي وغيره قال صلى الله عليه وسلم
ما من ميتٍ يموتُ فيقومُ باكيهم فيقول واجبلاهُ واسيداهُ أو نحوَ ذلك إلا وُكِّلَ بهِ ملكانِ يلهزانِه أهكذا كنتَ. اه
تخيل لو أن الملكين يفعلان ذلك ونحن أحياء لتقطعت جنوبنا من اللهز مما يسمعان من الكذب.
فلان علامة وفلان آية وفلان ليس له مثيل وفلان يجود بنفسه ووووو...
اللهم إنا نعوذ من فتنة القول
في الصحيحين
عن أبي بكرة نفيع بن الحارث:] مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا، عِنْدَ النبيِّ ﷺ، قالَ: فَقالَ: ويْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ مِرارًا إذا كانَ أحَدُكُمْ مادِحًا صاحِبَهُ لا مَحالَةَ، فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ فُلانًا، واللَّهُ حَسِيبُهُ، ولا أُزَكِّي على اللهِ أحَدًا أحْسِبُهُ، إنْ كانَ يَعْلَمُ ذاكَ، كَذا وكَذا..
ولا والله ما رأيت كاليوم
محبا يشحذ السكين لمحبوبه.
مختارات